* منال رضوان
أجلس وحدي في غرفة من حوائط ثلاثة، الأزرق والأحمر والأسود، كانت محكمة الغلق بحائط رابع من الذكريات بدا لي مظللًا برتوش رمادية وأخيرًا قد طرقه الولد الصغير. مرت سبع عشرة سنة منذ لقائنا الأخير، لم يعد صغيرًا بالطبع فقد ولد من رحم الحزن ومن يولد من أوجاع يشيب ولو كان ابن يوم.. أؤمن أني وحدي من كنت أهدهد أحزانه برغم البعد وأن جراحات مثخنة على كتفيه تطيب ببلسم أدخرته بيدي طوال السنوات الفائتة ، أراه الآن بلا استئذان يصر على العبث بصندوق مذهب هو إرثي الوحيد . أفتح له طائعة صندوقي للمرة الأولى منذ سنين ، هنا لا تزال أشرطة كاسيت فيلمون تحمل صوت فيروز يصدح بداخلي (سلملي عليه، بوسلي عينيه، إنت ياللي بتفهم عليه)، بعض الأوراق منتهية الصلاحية كشهادة ميلادي الورقية، صورة جماعية ونحن بالصف الأول، وبعض الأزرار من الصدف المشغول كانت أمي تصر على أن أتعلم الحياكة لأصنع ذات يوم رداءً يستحق بهجة أزرارها الأنيقة !! ولصعوبة تعلم مهارات جديدة للوخز ، رقدت الأزرار حتى الآن فى كفن أبيض من أقمشة بالية تعاني الشحوب .. أه.. هنا أيضًا أصبع من أحمر الشفاة الوردي، كان هذا لونها المفضل. أتعجب كيف كن الجميلات يمتلكن الجرأة لطبع ذلك اللون على شفاههن، مازلت أذكرها وهي تبتاعه، تخبر فتاة الصيدلية السمراء عن سر شفرتها للتأنق بصوت رقيق… (قلم روج ساندي رقم ١٤ ). تآكل القلم بفعل الزمن أو ربما توارى من حمرته خجلًا واحتفظتُ أنا عن أمي بعبوته الفارغة، لا أذكر… على أية حال لم أعد أمتلك الآن الجرأة أو الرغبة لاختبار اللون. يا الله.. آراه يصر على العبث بما بقى من محتويات صندوق الكراكيب الذي لم يعد يضم إلا أشياء تافهة وأشلاء تحتبس بداخل حواف تعاني الصدأ بفعل جائر من الأيام. حسنًا.. هاك بعض الصور المقصوصة !! لا اعرف سببًا منطقيًا للاحتفاظ بذكرى إن كنا نرفض من جمعتنا بهم ذات يوم.. لكن ربما كمن السر في مكابرة الافتقاد ، عصيان الوحشة ، رفض التصديق لواقع جديد، أو هو التعبير الغاضب المماثل لحظر الأشخاص اليوم عبر التطبيقات الحديثة ومعاودة التلصص عليهم من حساب آخر.. هكذا بدا لي الأمر الآن، فالذكريات المجتزئة هي الجراح التي لم تندمل بعد. أيضًا بعض مجلات البردة ، فينوس والموعد . دفتر مذكرات مازلت أحتفظ به عن حبي الأول!! بالمصادفة أن اليد الأولى التي مسته بعدي كانت يده هو، من كنت أبدي اعجابي به، أغضب منه، أشتاق إليه، أرفضه، أَقبلْه وأُقَبِلْه على الأوراق، خصلات من شعري ربما قررت يومها أن أهديها له مع خواطري الغريرة، وريقات من زهور جفت فوق سطور الأوراق الصفراء لكتاب قديم من الشعر ، وصورة له بين أوراق ذاكرتي ، لكنها الوحيدة التي ظلت كما هي منذ أن تركني في المرة الأخيرة ، عندها.. وعندها فقط قرر طفلي العنيد أن نغلق معًا صندوق الخبايا إلى الأبد ونطرحه في نهر الذكرى لنصنع لنا أياما جديدة ربما لم تذبل أوراقها بعد.
- قاصة من مصر