عيونُ الجزّار تذبحُ أيضًا.

– أنس الغوري

تخبره زوجته أنّها بحاجة لبعض العظامِ والدهن من عند الجزار، لكي تضعها على طبخة اليوم، ولتنكّهها بطعم اللحم وتضفي على الطَّعام شيئًا من الإقبال الشره.

هذه الزوجة مدركة تمامًا من الوضع الماليَّ لزوجها، لذا اقتصر الطلب على العظام والدهن.

بعد سِجال قصير بينهما، وحسبان سريع للميزانية يستسلم للطلب.

يهمُّ بالخروج، وإذ بأحد صغاره يناديه، يرجوه أن يأخذه معه.

يتهرّب، يتململ، يتذرع، لكن الصغير يلحّ، ويستسلم لطلبه. يخرجان، يجرجر خطاه الأب بتثاقل وكأنه يجر وراءه خراب هذا العالم بظلاله!

الطفل منطلقٌ بطاقته الفائضة الطفولية، يحادثه، يبتسم، يتطلّب، يتمنى، والأب يتصدّق على صغيره بابتسامات وأجوبة مقتضبة.

يتجاوزان عِدّة شوارع وأزقة ليصلا إلى السوق. لِسان حال الوالد يردد في وجل، أيتها القوى العمياء انصبي حجبك أمام هذا الصغير، لتمنعيه من رؤية ما يشتهيه.

يكفيني ألمُ الجناية بوجوده!

بينما هو في فضائه، جحيمه، يخبره ابنه، أبي هذا جزار. لا يدخله، يجيب صغيره أن أسعاره باهظة. يحثان الخطى.

مرة أخرى، الصغير، هذا آخر، لا يجيبه ويتابع سيره . يحار الصغير من لامبالاة والده!

لايعلم أن والده لم يدخل إليهم يومًا، ولم تلُك أسنانه المنخورة أية قطعة لحم من عندهم، إنما كان يتهرَّب من تواجد الزبائن بداخل المحال حَرجًا من طلبه! بينما هم يقتطعون بالأوزان.

كيفَ لهُ أن يخبر صغيره بكل هذا؟

يستفيق من ألمه على صوت صغيره، أبي .. أبي هذا واحد آخر.

ينظر، ويبتسم لتأكده خلوّه من الزبائن، يخبر ابنه هيا بنا لندخل.

يدخلان، يلقي التحية، مساء الخير!

أهلاً بفقر ابتسامة من البائع، وكأنه قرأ من خلال هيئتهما الطلب مسبقًا.

يا أخي، إذا أمكن أريد بدينار عظامًا ودهنًا.

نعم، نعم! بنظرةٍ كلها قرف واشمئزاز. يكرر طلبهُ الوالد بحياءٍ شديد أقرب إلى التضرع من الطلب.

يردُّ البائع بجفاءٍ وقسوة، لا يوجد، لايوجد مع السلامة.

اللسان طاغيةٌ بدوره. ينسلُّ إلى أعماقه هذا الوالد المسكين، يودُّ أن يخبره أنه أمام كائن خُلق ليتجرّع العذاب حتى النفاد، أشبه ما يكون بخليفة لسيزيف، وروحه تُذبح على مقصلة الواقع أكثر من أغنامه وعجوله!

يُمسكُ بيد صغيره كأنه يلتمس منه قوة، مواراة لعجزه وضعفه. بالمقابل يشد الصغير على يد والده كأنه أدرك ما حلّ به!

يخرجان، الوالد على صمته، لكن داخله يصطرع الحنق والاستنكار إزاء هذا البائع، وقاطني هذه الوسيعة بقماماتهم المبقورة، الذين دفعوه لهذا المآل، والصغير ليصطدم بهذه الوقائع الصلفة.

يودُّ أن يصرخ إلى أن تُشق خنجرتُه ويُشل لسانه، أن تسقط السماء على هذه الأرض اليباب، لتسحقها، وتذروها وتهوي بقاطنيها لمنازل الزمهرير.

هذا الوجود برمته ملوّث.

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *