دور الدراما في تمكين اللغة العربية الفصيحة ونشرها

*زياد أحمد سلامة

 

  يتصور الكثير من الناس أن التحدث باللغة العربية الفصحى بطلاقة وسهولة أمر صعب، وأن من يقوم بذلك إنما يتكلف في الأمر، أو أنه يتشدق بالكلام، فهل هذا التصور صحيح وان التحدث بالعربية الفصحى أمر طواه الزمان، وان هذه اللغة لا يليق بها إلا بطون كتب التراث، ولا يجيدها إلا أناس كهول كانت حياتهم حول هذه اللغة نحواً وصرفاً.

  وفي هذا السياق نرى الكثير ممن ينسبون أنفسهم للثقافة ـ فضلاً عن الكثير من العوام ـ يحرصون على التحدث بكلمات أجنبية يخلطونها بشكل عجيب أثناء حواراتهم اليومية، وكأني بهم يعانون من “عقدة الخواجا” عند ممارسة هذا السلوك، حتى إن فريقاً من الكتَّاب والمفكرين يعتبرون التحدث بلغة أجنبية او الكتابة بها إنها هو “غنيمة حرب” غنمناها من الاستعمار، كما قال الكاتب الجزائري “كاتب ياسين”، الذي كان يكتب بالفرنسية. وحال هؤلاء تماماً كما وصف الشاعر الكبير “حافظ إبراهيم” في قصيدته عن اللغة العربية:

أَيَهجُرُني قَومي عَفا اللَهُ عَنـــــــــهُمُ *** إِلى لُغَةٍ لَــــــــــــم تَتَّصِلِ بِرُواةِ

سَرَت لوثَةُ الإِفرِنجِ فيها كَما سَرى *** لُعَابُ الأَفاعي في مَسيلِ فُــراتِ

فَجاءَت كَثَوبٍ ضَمَّ سَبعينَ رُقـــعَةً *** مُشَكَّلَةَ الأَلوانِ مُختَلِفـــــــــــــاتِ

  وليس أدل على سلاسة اللغة العربية وسهولتها أن الكثير من الأطفال لا سيما في سنوات عمرهم الأولى ـ ونتيجة لمشاهداتهم مسلسلات وأفلام متحركة وبرامج مخصصة لهم تتحدث الفصحى ـ نراهم يتحدثون بها وبشكل سليم إلى حد كبير، وكأنها لغتهم الدارجة ولغة عامة الناس من حولهم، ولكن للأسف؛ وبعد أن يكبر هؤلاء الأطفال يتخلون عن الكلام بالفصحى ويعودون للعامية تأثراً بالمحيط الذي يعيشونه.

  في فجر عصر النهضة المعاصر برزت قضية قدرة اللغة العربية على الاستمرار ومجاراة المخترعات والصناعات الحديثة التي يقوم بها على الغالب أُناس من غير العرب، ولقد اشتكى حافظ إبراهيم في قصيدته تلك غربة اللغة العربية هذه واتهامها بالعجز، فقال:

رَمَوني بِعُقمٍ في الشَبابِ وَلَيتَنـــــي *** عَقِمتُ فَلَم أَجزَع لِقــــــَولِ عُداتي

وَسِعْتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَــــــــةً *** وَما ضِقْتُ عَن آيٍ بِـــــهِ وَعِظاتِ

فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ *** وَتَنسيقِ أَسْماءٍ لِمُختَـــــــــــرَعاتِ

أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كـــامِنٌ *** فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَــن صَدَفاتي

أَيُطرِبُكُم مِن جانِبِ الغَرْبِ ناعِبٌ *** يُنادي بِوَأْدِي في رَبيــــــــعِ حَياتي

    استخدام اللغة العربية الفصحى في الأغاني ساعد في التعريف بكبار الشعراء:

   فبعد أن كان أحمد شوقي شاعر النخبة رفيعة الثقافة اللغوية، أصبح قريباً من العامة عندما تغنت أم كلثوم ببعض بقصائده والتي منها “سلوا قلبي” و “نهج البردة”. وكذلك خرج علي محمود طه من كونه مغموراً إلى الفضاء الرحب بعد تغنى محمد عبد الوهاب بقصيدة “الجندول ” وكم شخصاً سيعرف الشاعر “أحمد فتحي” لو لم يقم محمد عبد الوهاب بغناء قصيدته “الكرنك” وكذلك الحال مع “محمود حسن إسماعيل” وقصيدته “النهر الخالد”، وما كان لإبراهيم ناجي أن يكون علماً في رأسه نار لو تقم أم كلثوم  بغناء بضعة أبيات من قصيدته “الأطلال”، كل هذا يؤكد أن اللغة الفصحى هي لغة تواصل مدهشة وقادرة على الوصول إلى أفهام حتى العوام من الناس، مما يؤكد صحة المقولة بأن الفصحى هي لغة سهلة ميسورة مفهومة، إنْ تيسر لها وسيلة اتصال مناسبة، وهل غير “الدراما” أقدر على القيام بهذه المهمة.

اللغة الفصحى ليست بديلا للعامية، كما أن العامية ليست ندا للفصحى

  يقول منتقدو استعمال اللغة العربية الفصحى في وسائل الإعلام، إن اللغة الفصحى تريد إقصاء استعمال اللهجات العامية كلغة متداولة للحديث اليومي، وهذا غير صحيح بالتأكيد، فمن العبث القيام بهذه المحاولة بعد أن صارت العاميات هي التي تحرك ألسنة الناس وفيها يتم التخاطب والتعبير، بل وصار لها أدبها الخاص من شعر وأمثال وطرق في التعبير.

   فإذا كانت اللغة الفصحى ليست بديلاً للعامية، فإن العامية أيضاً ليست نداً للفصحى ولا كفؤاً لها، وغاية ما نريده أن تبقى اللغة الفصحى هي لغة الثقافة والمثقفين، ولغة التعبير الراقي.

 وإذا كانت العامية محصورة في المنطقة التي تستخدمها، فإن الفصحى هي لغة العرب كافة في كل بلاد العرب، ولغة مَنْ يتعلم العربية ويريد فهمها والتحدث بها من غير الناطقين بها أصلاً، ولذلك ينبغي إيلاء جانب تقديم العمال الدرامية المقدمة باللغة العربية الفصحى الكثير من الاهتمام والانتباه، لا سيما لدى الكاتب صاحب الرسالة والذي يقدم من خلال الدراما قراءة للمسائل التي يريد طرحها بشكل يصل لأكبر قطاع من المقصودين برسائل هذه الأعمال الفنية. فالعامية قد تكون سببًا في الحد من انتشار العمل الدرامي بعكس العمل بالفصحى.

استخدام الفصحى يتوقف على الحدث موضع المعالَجَة:

  من غير المعقول ولا المقبول أن تكون جميع الأعمال الدرامية ذات بعد لغوي واحد، إما أن تكون بالفصحى، أو تكون بالعامية، والأمر يتوقف على طبيعة العمل المُقَدَّم، والقضية التي يتم معالجتها، فالأحداث التاريخية تُعالج عادة بلغة العصر الذي وقعت فيه من حيث استخدام المفردات وأساليب التعبير، والأمثال التي تُقال على ألسنة الممثلين، ولا ينبغي هنا بحال التحدث بالعامية في مجال عمل درامي تدور أحداثه في الجاهلية أو صدر الإسلام، أو العصر العباسي، ولهذا كان من الأخطاء القاتلة التي جاءت في بعض أفلام المخرج المصري يوسف شاهين أن تحدثت باللهجات العامية لفترات لم تكن تستخدم اللهجات التي جاءت في تلك الأفلام، ومنها فيلم “المهاجر” الذي تتشابه قصته بقصة سيدنا يوسف عليه السلام، فقد استخدم شاهين اللهجة المصرية القاهرية المعاصرة، مع أنه يتحدث عن فترة فرعونية قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، وكذلك استعماله اللهجة المصرية المعاصرة في فيلم “المصير” الذي يتحدث عن فترة قاضي القضاة الأندلسي “ابن رشد”، استخدام اللهجات العامية لتلك الأحداث يعطي المشاهد انطباعاً أن تلك الأحداث وتلكم الشخصيات تعيش بيننا، وأن مشاكلهم وقضاياهم هي مشاكلنا الآن وقضايانا المعاصرة، لقد استخدم يوسف شاهين اللهجة المصرية في هذه الأفلام (التاريخية) ليسقط مفاهيمه وأفكاره التي دسها على ألسنة الممثلين على واقعنا المعاصر، وليقول بأن ما عايشه ابن رشد من تضييق وحصار وتكفير ورمي بالزندقة وغير ذلك ؛ إنما قام به الفقهاء والمتشددون، وهم هم أنفسهم في كل زمان ومكان، وأنهم هم الذين يواجهون التنوير والعقلنة بالتزمت والتشدد والجهل الذي بلغ درجة حرق كتب ابن رشد، وأن ما تقوم به “الجماعات الإسلامية” في هذا الزمان هو امتداد لأولئك الفقهاء!!.

 اللغة الفصحى في الدراما

  الكتابة الدرامية وسيلة ممتازة للوصول لأكبر قدر من الناس وإيصال الرسالة إليهم، ولكن لا بد من التعامل مع اللغة بشكل يحقق هذا الهدف وبشكل يجذب المشاهدين ويشدهم لمتابعة العمل الدرامي وبالتالي إيصال الرسالة الفكرية والثقافية التي يريد الكاتب وطاقم العمل ـ إيصالها ـ للمشاهدين.

  كتب عددٌ لا بأس به من الكُتاب أعمالاً درامية بالعربية الفصحى، أذكر منها على سبيل المثال: محفوظ عبد الرحمن ومسلسله “الكتابة على لحم يحترق* 1987” وليلة سقوط غرناطة* 1979″وجمال أبو حمدان ومسلسله “امرؤ القيس: الثائر المر* 2003” ومسلسل ذي قار* 2002 وغيرهما، وممدوح عدوان ومسلسله “الزير سالم* 2000” وأبو الطيب المتنبي*2016، وكذلك مسلسل “أبو الطيب المتنبي، من تأليف: نجاة رفعت الخطيب* 1983” وغيرهم. وبطبيعة الحال يتربع الدكتور وليد سيف على عرش الكتابة الدرامية، بلا منازع بمسلسلاته المختلفة.

ومن أفضل الممثلين الذين أدوا أدواراً بجدارة واقتدار بلغة عربية فصيحة جزلة: محمد حسن الجندي ومحمد مفتاح وغسان مسعود ونجاح سفكوني وأسامة المشيني وجواد الشكرجي (الذي قام بدور أبي جهل في مسلسل عمر) ومنى واصف (لا سيما في فيلم الرسالة) وتيم الحسن وجمال سليمان وعبد المجيد المجذوب ونور الشريف ونضال الأشقر، وبالتأكيد هناك آخرون.

اللغة الفصحى في الدراما: وليد سيف أنموذجاً:

  عندما بدأ الدكتور وليد سيف الاشتغال في الدراما، ومنذ العمل الأول: الخنساء، عام 1977 أخذ على نفسه أن يقدِّم مادة أدبية رفيعة المستوى، فقال في كتابه ” الشاهد المشهود”: أما اللغة في الأعمال التاريخية فقد قررت منذ اللحظة الأولى ألا أتنازل عن المستوى البلاغي الأدبي وفقا لمقتضيات الموقف الدرامي والشخصية والعصر الذي تدور فيه الأحداث* ص 452″.

   أحدثت كتابة الدكتور وليد سيف الدرامية نقلة نوعية في مستوى الأعمال الدرامية من حيث اللغة، وقد كتب الدكتور وليد جميع مسلسلاته باللغة العربية الفصحى ما عدا مسلسل التغريبة الفلسطينية ، إذ تمت كتابته باللهجة العامية الفلسطينية لأن طبيعة العمل لا تحتمل أن يكون باللغة الفصحى، فهنا اللهجة العامية ناسبت جو وبيئة فلسطين، فمن الطبيعي أن تتحدث الشخصيات بلهجتها الواقعية، ولو فعل غير ذلك لكان هناك هوة بين شخصيات أبي أحمد وأم أحمد وأبي صالح وحسن وعلي وخضرة وباقي الشخصيات وبين المشاهدين؛ وهذه الهوة ستبعد إلى حد ما اندماج المشاهدين مع الأحداث، هذا الاندماج الذي بلغ حد الانصهار والتماهي من قبل المشاهدين مع كل عناصر العمل، ومع ذلك كانت اللغة الفصحى حاضرة في هذا المسلسل من خلال شخصية الراوي “علي”: الطالب، فالأستاذ فالدكتور المثقف الشاهد على الأحداث، إذ كان يروي الأحداث ويعقب عليها باللغة العربية الفصحى.

وأول ما يشد المتابع لأعمال الدكتور سيف تلك اللغة السهلة البليغة الثرية بالتشبيهات والكنايات، والتناصات التي تتقاطع مع الكثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والشعر العربي بمختلف عصوره، فأهم ما يجب على كاتب المسلسلات فصيحة اللغة أن يبتعد عن التقعر في اللغة وتعمد ذكر كلمات ومفردات غير مفهومة وتحتاج إلى كثير بحث في المعاجم، هذا التقعر كنا نراه في الكثير من المسلسلات والأفلام المصرية، ويكاد أن يكون فيلم “الرسالة” بداية اعتماد لغة فصيحة سهلة الفهم، ذات بلاغة جميلة.

   استخدم الدكتور وليد سيف عدداً محدوداً من الكلمات التي تحتاج إلى عودة للمعجم مثل كلمات: اللخناء والخرقاء والورهاء، كان الدكتور وليد متعمداً إيراد هذه الألفاظ “لعلها أن تحفز السامع أو المشاهد على استخراج معناها من المعجم”  كما قال سيف، وأيضا فإن المشاهد يستطيع أن يقترب من المعنى عند سماعه دون العودة للمعجم لأن العبارة التي ترد فيها هذه الألفاظ تشي بالمعنى، قال وليد سيف:” على أن محاكاة الأساليب القديمة في الدراما التاريخية لا يعني استعمال المفردات الغريبة التي تعيق فهم المشاهد المعاصر العادي، إلا ما يدل سياق الموقف على معناه أو على وجه استعماله في السياق، فليس من الضرورة أن يفهم المشاهد معنى كلمة “ورهاء” في المعجم، يكفي أن ترد في سياق الشتيمة: أيتها الحمقاء الخرقاء الورهاء!… وقال: وعلى أي حال، فإن الأساليب اللغوية القديمة لا تتمثل في مفردات المعجم فقط، وإنما تستظهر أولاً في سبك العبارة ونظمها” (الشاهد المشهود، ص 454).

   لغة وليد سيف لغة مفهومة لدى العامة والخاصة ولم تُسجل أي مفردة استعصت على الفهم. ولهذا يستطيع المتابع فهم حوار ولغة أي مسلسل له أي مشاهد مهما كان مستواه الثقافي وعلاقته باللغة العربية. والمدهش أن الكثير من مشاهدي مسلسل التغريبة ـ لا سيما في مناطق الأطراف في العلم العربي ـ وجدوا صعوبة في فهم الكثير من مفرداته.

  لغة وليد سيف تجمع بين الحرص على أن تكون في أجواء الحدث التاريخي، ولغة الأدب ومستوى الشخصيات الثقافي

أخطاء الممثلين قد تفسد لغة العمل الدرامي:

  من المشاكل التي تشوه العمل الدرامي المكتوب باللغة العربية الفصحى وقوع الممثلين في الأخطاء اللغوية، وقد يكون هذا الخطأ ناتج عن عدم تمكن الممثل من التحكم بمخارج الحروف لتخرج بشكل صحيح طبيعي، أو لعدم اتقان الممثل قواعد اللغة العربية صرفاً ونحواً وعدم تمكنه في استعمالها بطلاقة، فيقع في أخطاء نحوية وصرفية، وقد لمسنا ذلك في جل المسلسلات المستخدِمة للغة الفصحى، وبالنسبة لمسلسلات الدكتور وليد سيف، فكلما توجهنا إلى البدايات، من مسلسل الخنساء وبقية مسلسلات العصر الجاهلي نجد إجادة وإتقان الممثلين للغة العربية الفصحى، وكلما تقدمنا زمنياً إلى آخر المسلسلات إنتاجاً نجد أن أخطاء الممثلين قد زادت، وهذا مما يؤسف له، فقد كان حرياً بالمخرج والمنتج تعيين مراقب للغة، مهمته تدقيق أداء الممثلين لغوياً.

  هذه الأخطاء اللغوية تفسد العمل وتشوهه وتعيق إيصال رسائل العمل بصورة صحيحة، إذ قد يقلب خطأ لغوي المعنى رأساً على عقب.

ziadaslameh@yahoo.com

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *