أصداء ذاك الزمان

كايد هاشم

 

على غير ما ألفته في أحلامي من حلم بمكتبة مكتنزة بالكتب والمجلدات ومترامية الأطراف على كوكب القراءة، أو على الأقل الحلم بكتاب أريد الحصول عليه وقراءته ولا أجده مع طول البحث والسؤال، أو أنني أؤلف كتاباً تلحُ فكرته في خاطري.. رأيتني في حلم الأمس ارتاد مجلساً حافلاً بأعلام ورواد الثقافة والفكر والأدب، ومعظمهم لم أرَه إلا في الصور والرسوم.. فقلت لنفسي إنني في “زمان غير زماني، فاصمت”.. وإذا الملامح التي تراءت لي ملامح وجوه طه حسين وعباس محمود العقاد وأحمد أمين وسلامة موسى، ومي زيادة وجبران خليل جبران وأمين الريحاني وشكيب أرسلان، ومحمد كرد علي وفارس الخوري وخليل السكاكيني، وروكس العزيزي وهو الوحيد بينهم الذي عرفته بشخصه في الواقع، وغيرهم رحمهم الله، فجلست في طرف القاعة أستمع إليهم وهم يخوضون في أحاديث ونقاشات شتى عن أحوال الزمان الذي مضى والزمان الآتي، فيصخبون حيناً ويقف أحدهم وسط الجَمع يتكلم بصوتٍ مرتفع، مدافعاً عن رأي أو وجهة نظر، ويلتفت الجَمع إلى واحد منهم يتكلم بنبرات هادئة، رزينة، فينصتون وأنصت معهم إلى حديث شجي عن زمان سيأتي، وما أن ينتهي من حديثه حتى يعود النقاش إلى وتيرته العالية الحيوية، فأجهد نفسي في أن استجمع قوى الذاكرة لأكتب في اليقظة ما سمعت ووعيت في الحلم، وقد صارحتني النفس صادقةً في عزُ المنام أنه حلم فاغتنم متعة الجلوس مع رواد العصر، إنما الأحلام الجميلة كما كل شيء في الحياة قد لا تأتي إلا مرةً واحدة !

استيقظت فجراً مؤرقاً بالحلم، ورأسي مليئة بالأصوات والأفكار مما سمعت في أثناء الرحلة البرزخية للروح، وحاولت أن أكتب بعضاً من رؤوس أقلام على شاشة الكمبيوتر الباردة، لكن الحروف بدت وكأنها عصية على ترجمة ما امتلأ به دماغي من تعابير سمعتها في الحلم كما هي.. رأيت قلم رصاص وحيداً مركوناً في الجارور، تناولته سريعاً وبريت رأسه بمبراة رَفَقَت به وأجادت البري، فإذا به يجري سريعاً على الورق، فرحت التقط أصداء الأصوات الباقية وكتبت ما استطعت من كلامها في ذاك المجلس.. فكانت خلاصة الحلم هذه الأصداء:

تراجعت ثقافة الجيل وذائقته وعلاقته بوعاء الفكر والتعبير الحَسن عن الذات أي اللغة العربية ولا شيء سواها؛ يوم تراجعت في الأساس علاقته بجماليات اللغة ابتداءً من دروس الخط العربي، وإنشاد الشعر، ووصولاً إلى التذوق البلاغي، والتدرّب على الخطابة والإلقاء، وقراءة نصوص تصقل المدارك وتعلم العقل، وترسخ معاني الكلام وصور مبانيه.

ولم تكن تلك من الأساليب التي يصفها البعض بالتقليدية في التعليم والتعلم قديمة عفا عليها الزمن كما أوهمنا أنفسنا يوم تركناها لنتعلم مشية الحجل، فلم نتعلمها ونسينا مشيتنا الأصلية كالغراب الذي تجمُل بمحاولة تقليد خطوات غيره، فأصبح غريباً حتى عن نفسه وأصوله!

وانحدر المستوى الثقافي للفرد حين لم تعد القراءة قيمة من قيم الحياة، الالتزام بها بحكم الواجب تجاه الذات حتى تصبح عادة يدرك من خلالها المرء نفسه وما حوله، ويطوّر ذاته، ويبني طموحاته على اكتساب المعارف، ووعي المعاني والأفكار، وتعلم كيف يفكر ويحاور وكيف يرتقي بالتفكير والحوار.

وخسرنا التواصل بين الأجيال حين قاطعنا زمان أبنائنا وقلنا “هذا ليس زماننا”، ولم نحاول تفهّم طبيعة العصر وتغيُر المفاهيم حين يكون التغير والتجديد نحو الأجدى والأفضل والأحرى بنا، ورفعنا الحوافز من طريق الجيل الجديد وألقينا باللوم عليه وخاطبناه بغير لغة عصره، وافتقدنا قنوات الحوار معه، فصرنا غرباء وصار غريباً عنا، ولم ندرك أننا قطعنا الحاضر عن الماضي، وقطعنا أيضاً الحبال بالمستقبل الذي هو نتاج امتداد وتفاعل الأجيال وليس صنيعة جيل واحد!!

وأكثر خسائرنا جسامةً حين أصبح التعليم الحصول على شهادة لا على المعرفة والتثقف والتهذيب، وفي جانب كبير منه صار استثماراً لشركات تلهث وراء الربح، وتجعل الناس في همٍّ ولهاث دائمين لتأمين نور الشمس والهواء لأبنائهم، يكدون لجمع المال من أجل تعليمهم في المدارس والجامعات ويفتقر غير القادرين منهم بسبب تعليم لا يغني ولا يسمن من جوع، فلا محتوى ولا مناهج قادرة على أن تقدم ما يساوي عناء التكلفة، والحاجة إلى الإصلاح تزداد وتشتد، والخطط والاستراتيجيات تتكاثر وتتراكم والحال هو الحال..

ونادى بعض المجتمعين أن استيقظي يا أمّة اقرأ التي تعلمت وعلَّمت العالم كيفية النهوض علماً وحضارةً.. فأدركت أن الحلم طال عن ومضة ليل واستيقظت لأستأنف الجري والكد واللهاث، وفاتني بقية الحلم وأحاديث من أحاديث ذاك الزمان!

*باحث وأديب من الأردن

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *