يعقوب العودات" البدوي الملثم"

“البدوي الملثّم”: أحد رواد الحركة الأدبية الأردنية في الذكرى الخمسين لرحيله

* كايد هاشم

تشرفت الأسبوع الماضي أن شاركت بحديث عن يعقوب العودات “البدوي الملثم”، أحد الرواد الأوائل في الحركة الأدبية الأردنية والأدب العربي الحديث، في فيلم وثائقي بمناسبة مئوية الدولة الأردنية، وأيضاً في حديث إذاعي حول سيرته ومؤلفاته ولا سيما عن موسوعتيه الشهيرتين المهجرية والفلسطينية .

وهو من أدبائنا الذين أسعدتني الأيام بدراسة سيرهم وآثارهم وأوراقهم، فكتبت عن المرحوم العودات، الذي لم أعرفه بشكل شخصي وإنما من خلال كتاباته وآثاره، عدة دراسات ومقالات نشرت في كتب وصحف ومجلات، وشاركت الأستاذ الدكتور صلاح جرار تحقيق وتقديم كتاب “أطلال جرش: فصول من التاريخ والآثار والأدب” (2006)، الذي ألفه العودات عام 1937 / 1938، وقبل ذلك قمت بمراجعة وتقديم كتابه “من رواد أدبنا المعاصر” الذي نشر بعد وفاته بحوالي 23 عاماً، وهو جزء لم يتمه مما كان يمكن أن يشكل موسوعته الثالثة في التراجم والسير لو مد الله في عمره .

وفي شهر أيلول (سبتمبر) من هذا العام تمر الذكرى الخمسون لوفاته رحمه الله، ويسعدني أن أعيد نشر مقال كتبته في ذكرى ميلاده المئوية :

(يعقوب العودات “البدوي الملثم” .. رائد موسوعي راهن عليه الخلود وكسب الرهان! )

رائد من روّاد حركتنا الأدبيّة والفكريّة في الأردن، وأحد أهم من كان لهم الإسهام الحقيقيّ في عقد الوشائج بين هذه الحركة وحركة الفكر والأدب الأم على امتداد العالم العربيّ، ذلك هو الأديب والمؤرخ الأردنيّ الكبير يعقوب العودات “البدوي الملثم” (1909-1971)، صاحب الموسوعتين الفريدتين: “الناطقون بالضاد في أميركا الجنوبيّة”، التي جالَ من أجل وضعها في جمهوريات أميركا اللاتينية مدّة تزيد على العامين (أواخر 1950- أوائل 1953)، وأرَّخ فيها للهجرة العربيّة إلى تلك القارة النائية، ودور العرب في النهوض الحديث لبلدانها، وأعلامهم في ميادين الأدب والقومية والسياسة والأعمال، وصدرت في مجلّدين كبيرين في بيروت عام 1956. وحتى الآن لم تعرف المكتبة العربيّة نظيرًا لها في غزارتها وشمولها وغنى مواردها؛

ثم موسوعة “من أعلام الفكر والأدب في فلسطين”، (طبعتان في عمّان 1976و1987)، التي صرف في جمع موادّها من تراجم أعلام فلسطين (نحو ثلاثمئة ترجمة)، وتأليفها، أكثر من عشرة أعوام؛ مرتحلاً في عددٍ من بلدان الشتات؛ باذلاً الوقت والجهد والمال، من قوته وقوت أسرته الصغيرة، في سبيل موسوعة كان يأمل أن يصدرها في مجلّدات عدّة، لتكون وتدًا راسخًا في مقاومة هجمات التدمير والطمس والتذويب، التي تعرَّض لها تراث فلسطين الفكري والثقافي بالغزو الصهيونيّ، وما جرّه هذا الغزو الإجرامي من نكبات ومآسٍ على الإنسان والأرض والتاريخ والتراث.

إضافة إلى ما يزيد على العشرين كتابًا مطبوعًا – طُبع أغلبها بإنفاقه الخاص – ومعظمها في حقل التراجم والسير لأعلام بارزين من أقطار عربيّة مختلفة (مثل: القافلة المنسيّة من أعلام الأردن، وفوزي المعلوف شاعر الطيارة، وإبراهيم طوقان في وطنياته ووجدانياته، ومصطفى وهبي التل “عرار شاعر الأردن”، وشكري شعشاعة الإنسان الأديب، وفتح الله الصقّال الرائد الإنساني الكبير، وعيسى اسكندر المعلوف المؤرخ الموسوعي الأديب، وعبد العزيز الرشيد رائد الإصلاح وشيخ مؤرخي الكويت، وغيرها).

وهذه المؤلَّفات كلّها تنصَب مضامينها وأبعادها في الكشف عن مكامن العبقريّة العربيّة وقدرتها على الاستمرار في تغذية روافد الحضارة الإنسانية بقيم الحق والخير والجمال، والأسمى من معاني حرية الفكر والعمل النافع الباقي.

 عاش العودات حياته في نكران بطوليّ نادر للذات، واختار لأدبه رسالة تترفع عاليًا عن التجارة بالقلم وتلميع اسمه وبروَزته … قال كلمته في كلّ ما كَتَب بتوقيعه الذي اختاره منذ مطلع حياته الأدبيّة (البدوي الملثم)، حتى غَلَب اللقب على اسمه الحقيقيّ، ومشى في هذه الحياة متمسكًا بمبادىء من صميم إنسانيته وعروبته، لم يحد عنها حتى في سلوكاته اليومية، وعلاقاته بالناس، ونظرته إلى تقلبات عصر مضطرب تجرَّع فيه مرارات الإنسان العربيّ في كلّ مكان، جراء سلسلة الانكسارات والهزائم والخذلان.

لم يكن من دُعاة الأيديولوجيات والحزبيات ولا من أدعيائها، لكن رسالته، رسالة أدب الحياة، لا جعجعة الأبراج الفارغة الآيلة للاندثار، صانته ودفعته بقوّة لأن يُنجِز معتمدًا على نفسه ليس إلاّ، غير متنطع على أكتاف سواه، فكان مُنجَزه، وهو الذي أمضى عمره موظفًا يعيش على راتبه المحدود، كما لو أنه عمل مؤسسات لها كوادرها وسكرتاريتها ولجانها ومقرّريها، وعُرفَ بعمله المُنجَز هذا علمًا من أعلام الأدب العربيّ المعاصر، لا مجرد اسم بهالةٍ موهومةٍ من الأمجاد الصغيرة تطيح بها هبّة رياح عابرة.

كَتَبَ عن الآخرين وعاش لهم ليخلِّد سِير نبوغهم، ولم يكتب عن نفسه سوى صفحات جد قليلة، بصيغة رسالة أب إلى ابنه (خالد)، أشار فيها إلى ملامح من كفاحه المبكّر في الحياة، من أجل التعلُّم والتثقُّف، ليغدو “اليتيم” الذي خرج من مسقط رأسه الكرك لا يملك سوى عزّة نفسه وأصالته الوطنية وشغفه بالثقافة والعلم، نموذجًا للإنسان العصامي وصاحب الكلمة في الارتقاء بوجوده إلى الأجمل والأنقى؛ متساميًا عن نَشَب الدنيا والمكاسب الآنية والانتفاخ بالأنا “ومن بعدي الطوفان”. ولا أقول إن العودات كان يراهن على الخلود؛ بل راهن عليه الخلود وكَسِبَ الرهان!

هذه القيم العالية بكل ما تعنيه في ضميرنا الأدبي والإنساني هي أيضًا من مكاسبنا ومكاسب الأجيال التي أتت بعد جيل العودات الرياديّ، وستظلّ من ذخائر الأجيال المقبلة. وجدير بالوطن وبنا وبها أن نكرِّم رمزًا من رموزها بإتاحة الحصول على أعماله الكاملة للناس وللدارسين، فذلك أوّل التكريم، وأعظمه أن يُعاد النظر في هذه الأعمال وأن تنال ما تستحقه من البحث والدراسة والانتشار، إلى جانب تحقيق مخطوطاته ونشرها.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *