سعدي يوسف في عُمان .. ولقاء إذاعي

  • محمود الرحبي

زار سعدي يوسف عُمان مراتٍ منذ أواخر الثمانينيات محبّة وتيها في تنوّعها وبحرها وتاريخها. وكل من رآه وقابله في زياراته عُمان المتكرّرة، سيشعر بأن سعدي بدا كأنه يعود إلى وطنه العراق. وكان يرحّب بأي دعوةٍ من الكتّاب العُمانيين لزيارة أي بقعة في بلدهم، وإنْ كانت قصية.
صاحبتُه، في إحدى زياراته في التسعينيات إلى الجبل الأخضر، حتى إن الدليل الذي التقيناه عند قاعدة الجبل، وهو الذي رفعنا بسيارته رباعية الدفع إلى قمّته، لم يسأل سوى عن سعدي يوسف، على الرغم من أننا كنا في الرحلة خمسة أشخاص. وفي زيارة أخرى، ذهب إلى وادي الطايين. ومن هناك صعد إلى الجبل الأبيض بصحبة الكاتب العُماني زهران القاسمي. وحين صافح والدة زهران قال إنها “تذكّرني بأمهاتنا في العراق”.
وتوالت الزيارات والمحبّات إلى عُمان وكتّابها. وانطلاقا منها، جرّب غرضا شعريا كان مهجورا، الهجاء. وكأنه بذلك يسير على درب شعراء الهجاء العرب، ومنهم الشاعر الكلاسيكي العُماني راشد الحبسي، الذي ترك في ديوانه المطبوع فصلا سمّاه “الهجاء والشتم”. وقد احتسب سعدي أن بيئةً تقليديةً كالتي حلّ بها تحتمل الخوض في الهجاء. حيث ختم تلك الزيارة الأخيرة بقصيدة هجاءٍ كلاسيكيٍّ استُقبلت باستهجان. وربما كنت محظوظا بعدم مشاركتي في الرحلة التي قام بها بصحبة كتّاب عُمانيين إلى ربوع صحراء الربع الخالي. حدثت فيها خلافات؛ على الرغم من اقتراحه واقتراح الصديق محمد الحارثي لي بالمشاركة، وذلك في أثناء حضوري الجلسة التي أقيمت للضيف سعدي يوسف في النادي الثقافي بمسقط، وعُرض فيها فيلم عنه، تحدث فيه عن ألمه الكبير برحيل ابنه الوحيد حيدر.
طيش عواطفه المعروف، هنا وهناك، لا يشكّل سوى سطرٍ رماديٍّ صغيرٍ وعارضٍ في مجلد متراكم وضخم، اسمه سعدي يوسف. أما هجاؤه فكان على هيئة غضب المحبّ أو نزقه، من دون أن يقلل ذلك من محبّته المكان وأهله. حيث إنه في مقالاتٍ تحت عنوان “خطوات الكنغر”، تطرّق إلى أسماء مهمة في قصيدة النثر العُمانية. وذكر قرية سرور التي عرّفته عليها. وأخيرا، كتب مقالا عن أهم رموز الشعر العربي الحديث، وكان منهم الشاعر العُماني زاهر السالمي.
تحدثت المقالات التي نشرت عن سعدي يوسف منذ وفاته قبل أسبوع عن أهميته الثقافية، لأنه كان مجتهدا ومجدّدا على أكثر من مستوى، فحظي بالتقدير العربي الكبير والاعتراف بمكانته شاعرا صادقا ثريا شغولا ومجدّدا ذا قوة بيانية عالية، ولديه إضافاته الجوهرية، ليس فقط للشعرية العربية، إنما حتى لقاموس اللغة. ويذكّرنا في هذه الجزئية بما أضافه الشاعر الروسي بوشكين لمعجم اللغة الروسية. ناهيك عن دراسات وترجمات عديدة عن الإنكليزية، وأنطولوجيات للشعر العالمي، من أهمها ترجمة مائة قصيدة لليوناني قسطنطين كافافي الذي عاش في الإسكندرية وعشقها.
نظرا إلى دلالة الأمر، أشير هنا إلى لقاء أخير مع سعدي يوسف في إذاعة طنجة في فترة جائحة كورونا، اشتركت فيه زوجته إقبال محمد علي. أعادنا فيه إلى طفولته في قرية حمدان. وحين سألته المذيعة عن اهتمامه بالشعر الجاهلي، قال: “كنتُ حفّاظا للشعر، وكنت قبل أن أكتب الشعر استظهر المعلقات والشعرين الأموي والعباسي. لقد فعلت، كما أوصى أبو نواس، ابن مدينتي البصرة، أن على الفتى لكي يصير شاعرا حُفظ آلاف الأبيات، ثم عليه أن ينساها. فعلت مثل ذلك تقريبا، ولكني حاليا أقرأ باللغة الإنكليزية معظم الأوقات”. صاحبت اللقاء نبرة سلام وتصالح مع العالم، فعلى الرغم من أن صوته كان واهنا، إلا أن ذاكرته بدت وقّادة، وهو يدعو الشعراء الشباب إلى الاهتمام بمدنهم وبالتفاصيل، والنزول بالقصيدة إلى الأرض بعيدا عن التهويمات. كما تحدّثت زوجته عن عاداته في القراءة، وعن تفاصيل لم يكن يعرف عنها أحد، من قبيل أنه حين يهبط عليه الشعر يكون في لحظة صمتٍ مطبق، ولا يرد عليها، فهو، كما تقول، يبني قصيدته أولا في ذهنه، قبل أن يفرغها على الورق أو على صفحة الكمبيوتر. كما أن شقتهم في لندن تمتلئ ممرّاتها بالكتب. ومن أهم العبارات الدالة التي قالها سعدي في ذلك اللقاء: أنا أكتب بحرية لأني أعيش في لندن.
وداعا الشاعر الفريد، شاعر المنافي وخزّاف اللغة الذي اعتبر أطراف الوطن العربي كلها وطنه. والذي شكل “ضوءا في سراديب ظلمة الشعر التقليدي الذي خيم لسنوات وعقود”، حسب الكاتب المغربي سعيد كوبريت.

  • عن العربي الجديد

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *