( ثقافات )
*يحيى القيسي
مثل الكثير من الفواجع التي تداهمنا بقسوة، وتؤشر على مضي الوقت، وانقضاء الخطط، وتبدّل الأحوال، بدا لي رحيل مهنّا الدرة. كيف لا وبيننا حوارات عميقة، ولقاءات مؤجلة، وغربة متواصلة..!
التقيته للمرّة الأولى في العام 2002 في مرسمه بعمّان، والذي يشكّل جزءاً من بيته، إذ يحتل مساحات كبيرة، ويزدحم باللوحات المعلّقة، وتلك الملفوفة، والفراشي من كلّ صنف، وعلب الألوان الزيتية والمائية والأكريليك وغيرها، إضافة بالطبع إلى آلاف الكتب الفنيّة والثقافية بلغات شتّى.
كانت الفكرة من اللقاء في ذلك الوقت الإعداد لفيلم توثيقي عنه إنساناً وفنّاناً، ضمن سلسلة أفلام “سيرة مبدع” التي أعددتها وكتبت مادتها للتلفزيون الأردني حينها، وهي من انتاج خاص باللجنة العليا لعمّان عاصمة للثقافة العربية، وقد أخرج الأفلام فيصل الزعبي.
كنت حينها قد بدأت التورّط الجميل بالتصوّف، والروحانيات، وطرح الأسئلة الصعبة عن الكون، وهذا ما جعل المشتركات بيني وبين هذا الفنان كبيرة، والحوارات متشعّبة، وقد أذهلني الدرّة ضمن انطباعي الأول عنه بعفويته، ورقّته، وسموّ أخلاقه، وعلوّ همته، وعميق ثقافته، وكدنا ننسى الهدف الأساسي من اللقاء، أي الفيلم التوثيقي عن التجربة الفنية، والذي تمّ بالطبع لاحقاً، وقام التلفزيون الأردني ببثّه، ولا أدري في أيّ الأرفف من أرشيف التلفزيون يقبع اليوم..!
كان الرجل قد عاد للتوّ كما يبدو من عمله سفيراً لجامعة الدول العربية في روسيا، وما يزال مشبعاً بالحياة الفنية هناك، والغنى الثقافي والحياتي الهائل، ويستذكر بين الحين والآخر دراسته الفنية المبكرة في إيطاليا، فيما كانت تطلّ علينا – ونحن في المرسم – زوجته الإيطالية، وتحاورنا قليلاً ، أو تمضي للتجوّل مع كلبها الأليف في الشوارع الهادئة المجاورة للمنزل.
كان مهنا في بداية الستينيات من عمره تقريباً، مفعماً بالتجارب الكثيرة، والخبرات الفنية العالمية، ويبدو أنّه استطاع بنجاح أن يوائم ما بين عمله الدبلوماسي، وانشغاله الفني، فلم تأخذه السياسة بعيداً عن لوحاته وألوانه، ولم يجعل للفن من سبيل عليه لتعطيل جانبه السياسي، وهذا ما شهد له به بعض من زاملوه في جامعة الدول العربية، وتلك البلدان التي عمل وعاش فيها.
في وقت مبكر من حياته، أي في عمر العشر سنوات تقريباً بدأ بالرسم، وهذا يعني أنّه في العام 1948 والمنطقة تغلي بنكبة فلسطين، كان هذا الطفل شديدة الحساسية يذهب إلى حقل جديد غير مطروق بالنسبة لغالبية الأردنيين، فقد اكتشف عالماً من الألوان البهيجة وراح يحتمي خلفها من الظروف المحيطة، ولم يكن من المألوف بعد عشر سنوات من ذلك التاريخ أن يشدّ خريج مدرسة ثانوية في الأردن الرحال إلى غربة بعيدة من أجل دراسة تخصّص مثل “الفن” فقد كان ذلك ترفاً ما بعده ترف، وموضع انتقاد اجتماعي قلّ من يتحمّل وزره، لكن مهنا فعلها ومضى إلى إيطاليا، موطن الفنون والعمارة، والتأسيس الهائل للمواهب الفنية.
وحين عاد بتخصصه النادر محلياً وعربياً، ومع خبراته في بلاد أجنبية بلغة جديدة، ومع علاقات والده المعروف، وترسيخ علاقاته مع نخبة الدولة التي تعرف أهمية الفن، وخصوصاً من العائلة الملكية فقد استطاع مهنا أن يعمل في بعض الإدارات بالدولة، لكنه آثر أن يجد عملاً يليق بحريته العالية في السفر، والتثقف المتواصل، والانغماس في الحياة، فوجد ضالته في العمل الدبلوماسي الذي نجح فيه بامتياز، وقضى جل شبابه فيه.
ربما نجد توثيقاً تلفزياً نادراً لذلك الشاب الأربعيني الوسيم والناضج والذي يمثل الحداثة بأعلى تجلياتها في الأردن بداية الثمانينيات عبر اللقاء المسجل معه للتلفزيون الأردني في مرسمه، وهو يتحدث الانجليزية بطلاقة للمذيعة سيما بحوث[1]، ومن الواضح أن مثل هذا اللقاء المبكر يكشف عن وعي عال بالفن التشكيلي ومدارسه وتنوّع أساليبه، والتي مرّ عليها مهنا في لوحاته، وصولاً إلى التجريد باللون فقط.
يقول مهنا لمحاورته: لا أقتنع بالذين يقفزون إلى التجريد دون فهم الأساسيات أي دراسة التشريح للجسد الإنساني والتعمّق بالرسم الكلاسيكي.
من الممكن مشاهدة مهنا وهو يرسم بورتريه لوجه بالفحم دون تخطيط وبسرعة عالية، أو وهو يتماهى مع الألوان ويصبح جزءا منها مصبوباً على “الكانفاس”، فالرجل كما أوضحت من قبل يتمتع بحساسية فنية عالية، ومشاعر إنسانية رقيقة، وخجل فطري محبب، وكلها تظهر على جوارحه وحركاته وطريقة كلامه، ولكن وسط هذا الهدوء الذي يبدو عليه، ثمة عواصف عاتية، وأحاسيس متدفقة، وقلق وجودي يجد منفذاً له عبر لوحاته.
خلال الفيلم التوثيقي “سيرة مبدع” عن مهنا كان لا بد لنا من شهادات بحق تجربته ممن يعرفونه، وأذكر أنه قادنا إلى سيدة إيطالية تعيش في الأردن منذ سنوات طويلة، وكان والدها “روميرو” من الذين أسسوا المستشفى الإيطالي بعمان، وفهمنا أنها كانت تدير غاليري للفنون في روما، وقد قدمت شهادة نقدية بتجربة مهنا حينها باللغة الإيطالية، ووضعنا الترجمة على الفيلم لاحقاً بمساعدة مهنا نفسه، كما قادني ذات يوم إلى بيتهم القديم في جبل القلعة، وهو بيت بلون قرميدي بارز، ومن الواضح أنه كان من البيوت المميزة في عمان في الخمسينات والستينات قبل أن تزدحم المساحات من حوله بالبيوت العشوائية الكثيرة، وقد أخبرني مهنا أن والده كان معارضاً سياسياً في لبنان، وأنه قدم إلى الأردن خلال العشرينيات طلباً للأمان، وأصبح جزءاً من الحياة السياسية والتربوية فيها، ويبدو أن بقية عائلته الكبيرة أي “الدرّة” بقيت في لبنان.
حين فتح البوابة الحديدية الخارجية المتآكلة للبيت، ودخل إلى الغرف المهجورة، انثالت ذكرياته، ورأيته معه الغبار الذي شكل طبقة سميكة في أرضية البيت، وثمة صور كثيرة مرمية على الأرض تشير كما يبدو إلى تفاصيل لحيوات أصحابها..!
معانقة الشجر:
ذات مرة أخبرني مهنا ونحن نتبادل الحديث حول طاقة الألوان وأثرها على الإنسان، وعن الهالة الكهرومغناطيسية التي تحيط بالجسد، أنه يحب الطبيعة، ويحس بالأشجار ككائنات حية وليس كنباتات لا تعقل، وقال لي إنه حينما يصاب بالاكتئاب أو التعب من شيء ما يذهب إلى بعض أشجار الحديقة ويعانقها، وأنه يشعر بعدها بالراحة والهدوء.
كنت حينها كما أسلفت في بداية تورطي بهذه العلوم، ووجدت في هذا الرجل نبعاً دفّاقاً من الخبرات والتجارب، لكن بقية الحوارات ظلت مؤجلة، وتقتصر على اللقاءات الجماعية في أمسية ما أو ندوة أو معرض، ونسلم على بعض بحفاوة، وبانتظار أن نتواصل باللقاء، لكن الحياة ومتطلباتها لا ترحم، وآفة العلاقات تأجيلها، فاليوم الذي يذهب لن يعود أبداً..!
في تلك الفترة من العمل على انجاز مشروعي “سيرة مبدع” لنحو عشرين شخصية فنية وأدبية وفكرية أردنية ما بين 2002-2004 م اخترت مع بعض الأصدقاء “مقهى عمون” مكاناً للقاء في بعض الأيام، وكان يحضر معنا الراحل مؤنس الرزاز، وهاشم غرايبة، وسعود قبيلات، وسميحة خريس بشكل أساسي، وخالد الكركي، وانصاف قلعجي، ومهنا الدرة أيضاً بين الحين والآخر، ويبدو أن هذا المكان سرعان ما تحوّل إلى موئل لغير الكتاب والمثقفين والمتحمسين لهم، وانتهت تلك التجربة.
صرح ثقافي عربي:
بالنسبة لي سيظل مهنّا الدرة كنزاً مخفياً لم يعرف الأردنيون منه غير بعض ظواهره مما أنجز من لوحات وأعمال، لكنه يحتاج إلى الكثير من التأمّل في مسيرته، فقد تجاوز الجغرافيا الضيقة إلى الأفق العالمي، ولا أعتقد أن الجيل الجديد يعرف الكثير عنه، لهذا فالمجال مفتوح، ولو بعد فوات الأوان، لسبر أعماق تجربته، وفتح المجال لجعل بيته متحفاً للزوار، ففي كل بلدان العالم هناك احتفاء بالمبدعين الكبار، وسيجد الزائر منجزه الفني، وحتى تفاصيل حياته اليومية، ومهنا يستحق منا الكثير، ولا أجد في النهاية إلا كلمات الأمير الحسين بن علي على منصة “تويتر” وهو يودع الفنان الراحل، فهي تؤشر على الكثير:
“مهنا الدرة قامة أكبر من كونه رساماً. إنّه صرح ثقافي بحدّ ذاته في بلدنا والمنطقة. كان صديقاً للعائلة بأسرها. تعلمنا الكثير من مهنّا، وسنبقى مُمتنين له طوال حياتنا”.
-
روائي وباحث أردني
[1] https://www.youtube.com/watch?v=jEMMl60MmGA
-
عن مجلة فنون – وزارة الثقافة الأردنية