إغفاءة على كتف الحياة اليومية

  • راشد الخمايسة

علاقتي مع عمّان هي عَلاقة حُب/كراهيَة

إنها عَلاقة يتيم مع مُعلِمته في الميتم 

قاسية وصارمة، لكنه لا يملك ثمن الهرب

عليه أن يتقبل صرامتها مقابل جُرعة بخيلة من الحَنان

العابر

راشد خمايسة

عمّان مدينة تلتف حول رِقابنا

مثل وشاحٍ ثقيل وخشن

مدينة شوارعها مليئة بالندوب والجروح

التي تعكِسُ أرواح سكانها في الشقّ الشرقي تحديدًا

التكاسي والسرافيس تعمل وفق منطقٍ 

يستعصي فهمه على جهابذة الفلسفة والمنطق

عندما تحتاجها تختفي كُلها،

وعندما ترغب بالمشي تجدهم يكادون

يخطفوك حتى تركب معهم

أرتدي مَلابسي:

بِنطال جينز سادة 

حذاء كونفِرس أشتريته من السوق الصيني في العقبة

تيشيرت “بِنك فلويد”

نظارات شمسية حتى لا يقرأ الناس اتجاهات عيني

سجائر من عَلامَة تِجارية ما

محفظة هزيلة أضعها في الجيب الخلفي

سماعات هاتف مسروقة من زميل عملٍ قديم

هاتف مشحون طوال الليل

والكثير من المناديل خشية البكاء 

على إطلالات ليست موجودة إلّا في خيالي

أنطلق، تبدأ أبواق التكاسي والسرافيس

أتجاهلها بالطبع، لا أركب هذه المركبات

ابحث عن باص كوستر

والشمس اليوم صارمة وفي قِمّة حيويتها

أفكر في وِجهتي… لا توجد وِجهة

سأسمح لهذياني بأخذي حيثما 

قُدِّرَ لي أن أجول 

كونترول باص الكوستر يصغرني بعشر سنوات

أعطيه نصف دينار كنت أعصرها بيدي بقوة

خَشْيَة أن يُنادي الكونترول 

“مين ما دفع اجاره؟”

وأتأخر في دفعها له. 

أحرص على التخلص من هذا العبء بسرعة 

لحظة ركوبي الباص…

بالطبع لا يوجد كراسي شاغرة

وكان رُكاب الباص نفسهم كُل يوم

نفس التشكيلة الكلاسيكية للمعاناة المقروءة

على الجِباه العابرة في حياتي اليومية:

-امرأة سمينة في نهاية الأربعين تحملًا مُغلفًا بُنيًا 

في طريقها إلى مركز السكري.

-رجل طاعن في السِن يحمل أكياسا كثيرة 

يرتدي شماغًا باهت اللون.

-شاب ظن أن وضع نصف عُلبة الجِل

على شعره سيجعله جذابًا في طريقه 

لملاقاة فتاة تعرف عليها عبر الفيسبوك.

-طالب جامعي ذو نظارات سميكة، يُطالع 

مجموعة من الدوسيات لمادة “الديناميكا”. 

-فتاة في قِمة أناقتها، تتصفح انستغرام على هاتفها

وأحرص على استراق النظر ومشاركتها هذا الإدمان اليومي. 

-امرأة تحمل ابنتها التي يبدو أنها تعاني من سوء التغذية 

في طريقها إلى مستشفى الجامعة الأردنية

-طُلاب مدارس هاربون إلى المدينة الرياضية 

حتى يدخنوا السجائر التي اشتروها بالأمس…

-سائق الحافلة يبدو كسندباد على بساطه السحري

يقود الباص وكأنه سيارة “ميني كوبر” 

لا يخشى احدًا، سوى شرطي المرور

ينطلق بخفة

يتجاوز السيارات مثل الشبح

يشعل سيجارة، يعطي الكونترول بعض الفكة

يتفقد هاتفه

كُل هذا وهو يقود الباص…

الباص ممتلئ مثل سفينة نُوح

يتحرك على الإسفلت يمينًا ويسارًا 

مُسببًا لي دُوارَ البحر 

يتجاوز كُل السيارات ببراعة

يُغامر السائق بمجموعة من الحيوات

التي يُمكن استبدالها غدًا

حيث يوجد مثلها في كُل الباصات.

أكتم الحياة بالخارج بالاستماع إلى الموسيقى

أحرص على التمسك جيدًا في العمود المتاح في الباص

حتى لا أجد نفسي في حضن الكونترول

حينما يقرر السائق الضغط على المكابح

لدرجة استفراغ أجهزتنا الهضمية بالكامل

أطلب من الكونترول أن يرميني 

على البوابة الرئيسية للجامعة الأردنية

لفحة ساخنة من النوستالجيا تضرب وجهي 

لتعود معها كُل سنوات الحياة الأكاديمية

المَرِحة والمليئة بالمغامرات

والعلامات المُتدنية وتجاهل المحاضرات…

لم يتغير شيء، ما زالت بُرجُ الساعة 

واقفًا بشموخ 

والساعة التي عليه ما زالت مُعطلة

بائع القهوة في الكُشك ما زال هو

تشعر أن هذه العناصر كانت وما زالت جزءًا 

من التركيب الأصيل لهذه الجامعة 

عناصر لا تخضع لقانون التقادم

وتبقى ثابتة في بُعدِها هذا

أقف أمام بوابة المكتبة الرئيسية

أذكر كم من ساعاتٍ أمضيتها بين رفوف المكتبة

كُنت مبهورًا في هذا العالم 

مبهورًا كيف من تمكنوا من حشر آلاف الكُتب

في مساحة صغيرة نسبيًا

أذكر الغفوات الصباحية في القاعة الدراسية

حيث كُنتُ أطرب الطُلاب “النيردات”

بشخيري دونَ أدنى إحساسٍ بالإحراج

كنتُ أشعر بالإحراج لكن العالم

يقول أن علينا أن نتقبل أنفسنا 

تقبلت شخيري وحرصت على مشاركته مع الآخرين

أتذكر الجلوس في المكتبة ومحاولات التماهي

مع “النيردات” ودراسة مادة رياضيات الأعمال

رسبتُ أربع مرات

لستُ نادمًا على شيء

كُنتُ طالبًا جامعيًا فحسب

كان هذه دوري في العالم آنذاك:

الحضور إلى الجامعة

استعارة الكُتب وقراءتها على أدراج المكتب

الجلوس مع الحبيبة 

شتم أولئك الذين يضغطون -ولو قليلًا- على أعصابي

حضور المحاضرات مثل شبح بلا ارتباطات

ثم العودة إلى المنزل

سأعترف: كان لدي طموحات

نعم أيها السادة، كما سمعتم

“طموحات”

لكن سُرعانَ ما تخليت عنها 

أو هي اضمحلت مثل فقاعة على الماء

تخليت عنها، مثل أي مُنتجٍ آخر 

من منتجات العالم الحديث التي تُباع

لأبناء الطبقة الوِسطى من أمثالي 

لنشتري بعض الأمل، الذي ننفقه في العمل لدى شخصٍ

يمتلك طموحات حقيقية نحن من نُحققها له

كنتُ خفيفًا آنذاك، كنتُ نسيمًا رقيقًا 

يَصولُ ويجول في ممرات الجامعة

حاملًا حقيبتي، مُحاولًا التظاهر بالانهماك

في التفكير في قضية فلسفية ما

أو نص قرأته لفرناندو بيسوا

كنتُ مبهورًا بالبساطة الحانية للأيام

كانت أصعب الأيام آنذاك هي أحلى الأيام الآن

أغادر الجامعة، أبحث عن باصٍ آخر

لن أقرأ ماذا كُتبَ على الباص 

فليرمني الباص في أي مكان

لا شيء يُهِم في هذه المدينة 

ذات المليون عمارة سكنية

والمليون مطب

والمليون حفرة

والمليون سيارة

لا شيء يُهِم 

مشاريع استثمارية جديدة أراها من نافذة الباص

كنتُ محظوظًا يا سادة

صدقوا أو لا تصدقوا

لقد حصلت على مِقعد في الحافلة

وبجانب النافذة أيضًا

سوف استمتع بتأمل العمارة المعاصرة 

ذات الروح البشعة وباهظة الثمن

مَحَالٌ تجارية ومقاهي مكتوبٌ عليها:

“للبيع”

متسولون محترفون على الإشارات الضوئية

شرطي مرور يُعاني من نوبة صرع

تحويلة جديدة بسبب الباص السريع

مطب يرفع مؤخراتنا جميعًا عن المقاعد

عدد أُسّي من السيارات

أشخاص يقطعون الشارع بتهور وكأنهم يملكون

بضعة حياوات إضافية

قطة تستكشف حاوية

من خارج نافذتي 

تبدو عمّان مثل مريض في غرفة الإنعاش

يَصِّرُ على تدخينِ سيجارة

أفكر في كُلِّ هذا…

الضباب الصباحي الممزوج بدخان المركبات

السيدات اللواتي يُفاوضن الباعة على صفقة 

ثلاثة كيلوغرامات من البندورة البلدية

رجال في الأربعينيات يجلسون أمام محالِّهِم

لمعاينة الفتيات

طلاب مدارس هاربون من نظام تعليمي

يسبب غباءً مُنقطع النظير

ما موقعي من كُل هذا؟

أنا مُجرد فكرة مُفككة موجودٌ 

في عقول من يعرفوني فقط

مُجرد تائه على رصيف الأحلام

حدث عابر في النشاز اليومي 

مُجرد راكب حافلة تسير بسرعة 

لا تزيد عن: 7 كم/في الحُلم

والشرطي يعطيني مُخالفة

لتجاوزي الحد المسموح في أحلام اليقظة

أنا عُصفور لا يجد سلكًا كهربائيًا ليقف عليه…

أواصل التحليق والتحليق

بعيدًا وخارجًا 

خلف وما وراء

بعد وما بعد

أنا حُرٌ داخل البضع سنتيمترات 

المتاحة لي في جمجمتي 

ماذا يحصل للحياة حينما يرتفع بصري عنها؟

 كيف تتصرف كائنات الإنسان عندما تكون خارج إطار رقابتي؟

هذا هو التموضع الكمومي لشخوص قصة حياتي التي لم تكتب بعد،

أنا في حالتي هذه في منتصف الحياة،

 وأبعد ما اكون عنها..

 تنهدت بعد هذا الخاطر، ثم جفلت…

ورُبما غفوت…

“يا شب…يا شب أصحى” 

استيقظت على نقر كونترول الباص على كتفي

كان ينقر بقسوة 

“بكفيك نوم… وأعطيني أجارك”

هكذا قرر الكونترول أنني نِلتُ ما يكفي من النوم

أخرجت محفظتي وأعطيته آخر دينار في محفظتي

مهترئ ومُجعد

طلبت منه أن يُنزلني عند نقطةٍ ما…

نزلت من الباص،

عُدت للحياة اليومية…

نسيت أن آخذ باقي الدينار من الكونترول…

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

تعليق واحد

  1. نزار حسين اشد ...كاتب عالمي وشاعر معروف.

    جميل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *