*مريم عواد الطوالبة
يعدّ العمل الأدبيّ منتجا لأفكار ورؤى ومشاعر فاضت في لحظة إلهام معيّنة؛ هذه اللحظة التي نتجت عنها لغة مكتنزة تأخذ مسارين: مسار التّلذذ والحسّ الشجيّ لمتلقٍ هاوٍ، يحبّ القراءة، ويتأثّر بالعاطفة ويتلذّذ باللغة الأدبيّة، ومسار تشريحي (أركيولوجي) أمام ناقد أكاديمي يقرأ بعين تختلف عن عيون المتلقين الآخرين. فهذه اللغة المكتنزة بدفقات من روح الكاتب إمّا أن تلاقي القبول أو الرفض من القارئ الهاوي، أو أنّها تتمثل أمام الناقد جسدا مهيئا للتشريح بأدواته التي من خلالها يقرأ هذا الجسد قراءة سابرة، ويقف على الجماليّات فيه.
ففي فعل القراءة تظهر لدينا مركزيات ثلاث:
النّاقد النّص المبدع
وتنتج عن هذه المركزيّات علاقتان:
الأولى: الناقد- النص.
الثانية: المبدع – النص.
وهاتان العلاقتان غير منفكّتين عن بعضهما، فعلاقة الناقد بالنص هي التي تحدد علاقة المبدع بالنص، لذلك سيكون منطلق تحديد علاقة المبدع بنصه من خلال الحديث عن دور النّاقد وعمله؛ لأنّ كلّ ناقد ينتسب لمدرسة نقدية، وهذه المدرسة النقدية تنظر في النص وفق طروحاتها النقدية، فتظهر لنا مدارس نقدية تعزز العلاقة بين المبدع والنص، أو تقطع العلاقة بينهما.
لكن الحقيقة الثابتة أنّ لكلّ نصّ مبدعه، فالمرحلة الأولى هي مرحلة المبدع الذي ينتج نصّا برؤية ما، ثم تأتي مرحلة الناقد الذي يرى ما وراء هذا النص، وتختلف رؤيته عن رؤية المبدع. كما أنّ الموازين تختلف عند الناقد؛ فإمّا أن يرزح تحت وطأة السلطة الأبوية للمؤلف، أو أن يقوّض سلطة المؤلف ويفسح المجال لسلطته على النص.
فشتان ما بين قراءة مطلقة للناقد، وقراءة في ترس المبدع، كما أنّ هناك اختلافا بين القراءة النّصّيّة أو المراجعة لنص ما وبين القراءة النقدية، فالأولى نجدها بكثرة في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، فهي قراءات دون حرفة نقديّة، مما يجعلها مصبوغة بصبغة الإفراط في المجاملات، فيُحمَّل النص ما لا يحتمل، أو يُحمّل المبدع ما لا يحتمل!
إلّا أنّ النّقد بمثابة إشعال أضوية على النص وليس فصل كهرباء عن مواطن الجمال فيه، وهذه الأضوية ناجزة في البنى اللغوية، ولا يستمدها من معطيات خارجية؛ فالناقد يبرز الجماليات في النص، وهنا أحاول أن أدافع عن النّقد الحق بدفقة احترازية بعيدة عن الجملة الشائعة عن الناقد والنقد بأنه طبيب يمسك مشرطا بيده ليقوم بتشريح النص، فالتشريح ليس لغرض التجريح بقدر ما أنّ هذا التشريح يزيد جمالية في النص فوق جماليته التي جبل عليها قبل فعل القراءة النقدية.
فكلّ ناقد لديه أدواته النقدية التي يشترك فيها مع نقاد يتمثلون المدرسة النقدية نفسها، ويختلف فيها عن غيره من النّقاد الذين ينتمون لمدارس نقديّة أخرى. وعلى ذلك تتشكل علاقة النّاقد مع النّصّ والمبدع؛ فبعض النّقاد يدخلون صندوق النص ولا يسمحون بمصادر هذا النص (مبدعه، وبيئته، ومجتمعه، ثقافته، سياقاته) تتدخل في فعل المقاربة، فهم يقتحمون أعماق النّصّ من خلاله، أي من خلال بنية النص اللغوية. بينما البعض الآخر لا يكتفي بالنّصّ فيمرون على المبدع، والظّروف المحيطة بالنّصّ في فعل القراءة.
فتتمثل المقاربة النقدية في موردين: الجسد وأقصد بهذا المصطلح أي القراءة المنطلقة من النص نفسه (ناقد – نص) ، والفضاء وأقصد به: أي القراءة المنطلقة مما يحيط بالنص ( نص – مبدع).
وقد مرّ النّقد على هذين التيارين لحقب طويلة، فرحلة النقد تاريخيا سارت على النحو التالي:
(تاريخي- اجتماعي_ نفسي- النقد الجديد والشكلانية – البنوية – الاسلوبية- ما بعد البنيوية- التفكيكية- السيميائية- النقد الثقافي)
ففي سيرورة النّقد، وفي ظل المدارس النّقديّة السياقيّة ظل الاهتمام كبيرا بأبوية المبدع؛ على اعتبار أنّه هو المؤلف، ولكن فيما بعد بدأ النقد يأخذ منحًى آخر بعيدًا عن هذه العلاقة الأبويّة بين النّصّ والمبدع، بتقويض سلطة المبدع لنصه، وفسح المجال أمام المتلقي أو القارئ بما يثريه في النص جرّاء القراءة النقدية.
فتختلف القراءة النّقديّة من مدرسة إلى مدرسة، ولكن هذه المدارس تخضع لقانونين في القراءة: إمّا الانطلاق من النص أي المناهج النصية أو النسقية، أو الانطلاق مما يحيط بالنّص أي المناهج السياقية. فالنّقد السّياقي يجعل السّياق كل ما هو خارج النص أوليا على النص. بينما النقد النصي فيغلق الأبواب في وجه المداخلات الخارجية.
والقراءة النّصيّة النّسقيّة تبدأ من الشّكلانيّة وتنتهي عند السّيميائيّة، بينما القراءة السّياقيّة فتبدأ من التاريخية وتقف عند النفسية ومن ثم تعود وتظهر في النّقد الثقافي. وعلى إثر ذلك يكوّن الناقد رؤيته، فالنّاقد في القراءة السّياقيّة يهتمّ بالكاتب وظروف الكاتب وبيئته ومجتمعه، أمّا في القراءة النّسقيّة يقتصر فقط على النّصّ وينطلق من التراكيب اللغويّة والإشارات.
وتشترك المدارس الثلاثة الأولى والأخيرة في عودة النّاقد للمبدع، ومجتمعه، وظروفه السياسية، والاجتماعية في قراءة النّصّ، ويبدأ بإحالات ما فيه إلى هذه المرجعيّات المحيطة، فمثلا في المنهج النفسي كلّ ما يورده الكاتب في نصّه ينسب إليه، فيخرج الكاتب محمّلا بكل التجارب والأفكار الموجودة في نصّه، فهو الحبيب، والخائن، والمكتئب، والنزق، والديوث. وإن أورد مشهدا ما في نصّه فهذا بالضرورة كان قد حصل معه أو أنّه من ثقافة المجتمع، فخلاصة ذلك هو أن هذا النّاقد الذي ينتمي إلى هذه المدارس النّقديّة يتسلح بالمعارف التّاريخيّة والاجتماعيّة والنّفسيّة قبل أن يدخل إلى النّص. فتكون القراءة خارجية، ولا يعزل النص عن مبدعه.
وأمّا المدارس الأخرى فهي تبحث في الخصائص الجمالية للأدب، بعيدا عن أي مؤثر خارج النّص الأدبيّ، بعد أن أعلنت موت المؤلف، أي موت المبدع، أي فض العلاقة بين النّص ومبدعه، فهي مدارس أعادت الاعتبار للنصّ الأدبيّ؛ في أنّها تنطلق من بنيات النص، ولا انعزال في معمارية النّص عندهم؛ فهو شكل ومضمون، إذ كان هنالك فصل بين الشكل والمضمون في فعل القراءة في مرحلة ما، ولكن هؤلاء ينظرون إلى الأدب بوصفه وحدة متكاملة ينصهر فيها المضمون في بوتقة الشكل فيكتسي بعدا جديدا يجعل منه مركز اهتمام وموضوع دراسة كالمدارس البنيويّة والتّفكيكيّة والأسلوبيّة والشّكلانيّة والسّيميائيّة.
-
باحثة من الأردن، الجامعة الهاشمية