السوريالية في مئويتها الأولى.. ‘رسكلة’ أدوات الحياة اليومية


*أبو بكر العيادي

يحتفي مركز بومبيدو بباريس (من 30 أكتوبر 2013 إلى 3 مارس 2014) بمئوية السوريالية، التي بدأت بعمل مستفز يمثل عجلة دراجة مثبتة على كرسي بلا ظهر، أو بما سمّاه صاحبه مارسيل دوشامب ready-made حسب نظريته الماكرة حول “اللامبالاة البصرية” التي تتوسّل بأدوات أو أشياء “لا جميلة ولا قبيحة” على حدّ قوله.

بالمناسبة، أقام مركز بومبيدو بباريس معرضا ضخما يضمّ مئتي عمل فني لأعلام هذا التيار من جاكوميتي إلى ميرو، ومن بروتون إلى دالي، ويستعيد تاريخها ومحطاتها الكبرى، وهو تاريخ تحدّ لمفردات النحت القديمة باللجوء إلى أدوات الحياة اليومية.
السوريالية، كما يدل عليها اسمها، كانت دعوة إلى الهروب من الواقع، ومعانقة الحلم والخيال، وقد عبّر بُناتها، وخاصة أندري بروتون ولويس أراغون وبول إيلوار وبيار أونيك وبنجمان بيريه، في بيان التأسيس عن نفورهم من العالم الحسي الذي تمثله في رأيهم العيون المغمضة لشخصية جورجو دي كيريكو في “دماغ الطفل”، ونادوا بنموذج داخلي يعكس قوى اللاوعي، وشعرية كاسحة تفيض على الواقع وتربكه.
ولكن انخراطهم في الحزب الشيوعي الفرنسي منذ 1925 حتّم عليهم أن يضعوا في الحسبان مبدأ الواقعية التي تعدّ الأساس النظري والفلسفي للشيوعية، فقد كانت الدعوة صريحة من قبل الشبيبة الشيوعية لمجلة “Clarté صفاء” التي التحق بها بروتون وجماعته، حيث طُلب منهم ترك ما فوق الواقعي، أي السوريالي، والاهتمام بالواقع. وهو ما دفع بروتون إلى تصوّر ما سماه “فيزياء الشعر” كتجسيد للحلم والرغائب، وذلك باختيار الأشياء الحسية والأدوات العادية وسيلة لفتح أبواب المخيال والمرور إلى عالم آخر، للتوفيق بين الإيديولوجيا ودواعي الرؤية الفنية.
ظاهرة فنية
كانت البداية إذن بـready-made في ما يشبه رسكلة أدوات الحياة اليومية، واستغلالها من منظور سوريالي، مثل “حاملة زجاجة” لدوشامب و”الكرة المعلقة” لجاكوميتي، وكذلك بـ”الكولاج” كما فعل ماكس أرنست في سلسلته العلمية، والتركيب على غرار “الدمية” لهانس بيلمر. وقد كان بيكاسو بمنحوتاته القائمة على التجميع قريبا من هذه الحركة منذ عام 1912، كما هو الشأن في “توليفة كرسي الخيزران” ثم في “كأس الأبسنتة” الذي أدمج فيها ملعقة حقيقية، ثم صار اعتماده على الموجودات أمرا جليّا منذ عام 1930، فلوحته “رأس ثور” مثلا كانت عبارة عن جمع بين سرج ومقود دراجة.
منذ نشأتها، شكلت الحركة ظاهرة فنية لافتة جعلها تحظى بمعرض خاص عام 1936، صنّف فيه أندري بروتون الأشياء المعروضة إلى أجسام طبيعية وأدوات معدنية ونباتات، وقد عرضت إما بشكل تأويلي، أو مدمجة في منحوتات، أو محوّلة بفعل المواد الكيميائية أو الحرائق والعواصف، وكان أغلبها من ابتكار بيكاسو ودوشامب، مثلما شملت المعروضات أقنعة بدائية من أميركا وأقيانوسيا وأشياء مجسّمة لنظريات رياضية وهندسية معقدة، إلى جانب الأشياء الملتقطة من الشارع.
ولما كان جوهر السوريالية تجلية الأشياء وتحويلها، وتحويل النظرة إلى الواقع من خلالها، بعيدا عن المهارة و”العبقرية الفنية”، فقد سعت إلى السيطرة على الحيز الجغرافي، كما حدث في المعرض العالمي الذي أقيم لها عام 1938 بقاعة الفنون الجميلة، حيث تولى دوشامب تهيئة الديكور والسينوغرافيا على نحو يطابق الفهم السوريالي للعمل الفني، فقد وضع ست عشرة دمية من دمى عرض الأزياء في صفين متناظرين على حافة ما سمّاه شارع السوريالية، وطلب من كل مشارك أن يكسو واحدة منها بالطريقة التي يراها.

مشهدية مربكة
تواصل ذلك في معرض “السوريالية 1947″ الذي ظل وفيا لمبدإ تجاوز الفن في مفهومه القديم، فقد كتب بروتون في مقدمة الكتالوغ عن “الأعمال الشعرية والتشكيلية الحديثة التي لها على الأذهان سلطة تفوق في شتى أوجهها سلطة العمل الفني”. والسلطة هنا تحيل إلى قدرة تلك المبتكرات على تشكيل خميرة ميثولوجيا جديدة. وقد وقعت تهيئة قاعة وسط المعرض تجمع ما يشبه الهياكل خصصت لكائن أو صنف من الكائنات أو أداة منذورة لحياة ميثولوجية. ثم في المعرض العالمي للسوريالية عام 1959، الذي ركز على قوة الإيحاء الإيروسي التي تكتمنها الأعمال السوريالية كـ”سرير” لروبرت راوشنبرغو أو “مرام” لياسبرس جونس، و”حذاء غالا” لسلفادور دالي، وحتى في السينوغرافيا التي أعدها كالعادة مارسيل دوشامب، وكانت هذه المرة أشبه بمعرض “غريفان” للشمع أو علبة ليلية أو “وليمة آكلي لحوم البشر” كما تصورها ميريت أوبنهايم.
كل تلك العناصر لم يغفل عنها المعرض الحالي. فبالإضافة إلى الأعمال المشهورة لأعلام السوريالية، حافظت السينوغرافيا على جرأة دوشامب وسعة خياله في ابتكار مشهدية مربكة. والزائر يجد نفسه في صميم مخيال المعارض الكبرى التي احتفت بالسرياليين من 1930 إلى 1960، وسط فضاء مغلق، ذي شوارع جانبية تحمل أسماء طريفة مثل “شارع الشفاه” و”شارع الضعيف” أو “شارع كافة الشياطين”.. وللدلالة على استمرار روح السوريالية بعد رحيل رموزها الأوائل، ساهم عشرة فنانين معاصرين مثل تيو مرسييه وفيليب مايو بأعمال تهتدي بالسرياليين.
يقول ديدييه أوتانجيه مفوض المعرض: “بُني المعرض على نحو يقدّم للزوار تجربة متكاملة، حيث الأصوات والروائح والمحيط والمسار تعيد إلى الذاكرة ما قاله بعض النقاد عن المعارض الأولى، إذ شبهوها بقطار أشباح حينا، وبحفلة متنقلة حينا آخر. فالمناخ العام هنا أقرب إلى عالم الأشباح، والمعروضات قد تثير في نفس الزائر قلقا وحيرة”؛ وتلك غاية السورياليين.
________
*( العرب)

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *