* عبده وازن
أحدث رحيل الشاعرة عناية جابر صدمة في قلوب أصدقائها الكثر وزملائها في الصحافة الثقافية اللبنانية والعربية، فهي لم تكد تتخطى الـ 63، وقد خلدت إلى عزلة في الأشهر الأخيرة، فرضتها ربما مأساة لبنان المتعاظمة يوماً تلو يوم.
انقطعت عناية عن الكتابة في الصحف بعدما خاضت تجربة مهمة وطويلة في جريدة “السفير” التي توقفت عن الصدور، مثلها مثل صحف ومجلات كثيرة جراء الأزمة اللبنانية المستفحلة. كتبت مقالات في صحف عربية منها “القدس” ثم توارت. ولم تطلّ إلا عبر تدوينات على “فيسبوك” و”تويتر”، وبدت كأنها هجرت الشعر، بعد سبعة دواوين تركت أثراً بيّنا في الشعر الجديد، ولا سيما النسائي منه، على الرغم من تمردها على الشعرية النسوية، وتجاوزها هذا المصطلح لمصلحة الشعر نفسه.
توفيت الشاعرة وحيدة في شقتها الصغيرة في شارع الحمراء، في قلب بيروت التي كانت كتبت عنها آخر كتاب لها وهو “لا أحد يضيع في بيروت” العام 2006، واضطرت الشرطة، بعد افتقاد أبنائها المغتربين لها طوال يومين، إلى خلع باب الشقة لتجدها ممددة على الأرض.
قسوة وألفة
ميتة لا تليق بشاعرة مثل عناية جابر، التي تحب الحياة على الرغم من ثقلها، وتألف العالم في كل قساوته أحياناً. كان في قدرة عناية أن تموت في نيويورك أو في باريس، المدينتين اللتين كان لها فيهما محط إقامة، لا سيما أن أبناءها الثلاثة كانوا على تواصل معها في أوج وحدتها. شاءت عناية أن تبقى في بيروت وفي شارع الحمراء وأن تموت في بيتها. وكتابها الأخير عن بيروت يوضح مدى تعلقها بهذه المدينة، حتى في أويقات احتضار المدينة. كتابها هذا أرادته عن بيروت، وضم نصوصاً نثرية تميل إلى الشعر، تمتدح فيها مدينتها وترثيها وتعاتبها بحرية، هي “التي تنام غلط” والتي يعيش الناس فيها “بلا فرح”، بيروت التي “كأن الشعر أصغر منها”. لكنها تؤكد بصوت مجروح: “لا يمكنك في بيروت أن تبقى في البيت”، فبيروت مدينة الحرية.
منذ ديوانها “مزاج خاسر”، بدت عناية كأنها تعاكس ما يسمى “النزعة الأنثوية”، كاسرة أوهام التراث الشعري النسائي المتراكم، ومتخطية حدوده التي رسمتها تجارب نسائية عدة. فمنذ ذلك الديوان، فرضت عناية جابر صوتها المتمرد والمختلف ولغتها المتحررة من أسر المعجم الأنثوي والأسلوب الأنثوي، وربما المضمون الذي يغرق عادة في الانفعال العاطفي والوجداني، منتقلة إلى شعرية الحياة بخيباتها وآمالها، وممكناتها ومستحيلاتها، ومستعيرة قناع الكتابة “الذكرية” لا لتكتب كالشاعر الرجل، وإنما لتكتب بحرية لا كامرأة ولا كرجل، ولتختبر ممكنات الكتابة، بصفتها كتابة متفلتة من أسر “الجنس” البشري.
إنها في معنى ما تفعل ما فعل بودلير حين أصر على الناحية الأنثوية التي يجب على الشاعر – الذكر أن يتمتع بها، مرتكزة إلى “الناحية الذكرية” الكامنة في عمق الكينونة النسائية أو الأنثوية. غير أن عناية جابر لم تتقصد الكتابة كالرجل، حتى وإن بدت جريئة جداً في أحيان، فالكتابة لديها هي حال من الحياد الوجودي، ولكنها حال من الانغماس والمواجهة أيضاً في معنى الخوض الشعري واللغوي، وقد تذكر قصائد عناية جابر بما قالته ناتالي ساروت واصفة حالها عند الكتابة: “عندما أكتب لا أكون رجلاً ولا امرأة”. إنها الشاعرة والبقية تفصيل في فضاءالالتباس الذي يشوب كل تجربة حقيقة. تقول عناية: “لأنني أعتقد/ أنني شاعرة/ لا أكف/ عن تعذيب نفسي”. هذا التعذيب الذي خبره بودلير أو سيلفيا بلاث أو أنسي الحاج، هو جوهر الشعر وسره، وهو الذي جعل شاعر “أزهار الشر” يشبّه نفسه بالطريدة التي تغري صيادها.
شاعرة شخصانية
عناية جابر شاعرة شخصانية، لئلا أقول ذاتية فيتسع المعنى ليشمل ما لم تسع إليه هي نفسها. يشعر قارئ شعرها أنه أمام شخص يكتب ويقول ويعبر ويحتج ويحب ويغضب ويرق حتى منتهى العذوبة، حين يكون الحب جذوة الداخل. صوتها شخصي جداً في معنى تذويبها “الأنا” و”الذات” في بوتقة حارقة تلغي نارها الفروق بين الأنا الواعية والأفقية والذات اللاواعية والعمودية. فالشاعرة هي التي تحضر كشخص معلوم ومجهول، بمزاجها المتقلب ولامبالاتها وعبثيتها الجميلة، بخيبتها وحبورها، بانكسارها وسخريتها: “لم تكن حياة باهرة/ كأني لم أفعل سوى لملمة الكلمات/ في مكتبة عامة”، تقول. وفي قصيدة أخرى: “هذا مجرد مساء صغير/ سأنام فأنا متعبة للغاية/ وسأترك القمر مضاء لسهر آخر”.
تكتب عناية الشعر كما تعيشه، بإيقاعه اليومي ونبضه وتوتراته المرهفة، تقطف القصيدة قطفاً، وإن طالت القصيدة فهي تقطف قفلتها قطفاً. لا إغراق في البلاغة ولا إكثار من المجازات والتشابيه، ولا افتعال في التخييل والإيحاء والغموض، بل لا إطناب ولا تفسير ولا لفّ ودوران. فالقصيدة التي تصهر الحسي في التجريدي، والبصري في المتخيل، والتفاصيل في الشذرات، تسعى نحو الاقتصاد في البلاغة، والألفة في النسج والاقتضاب في التعبير. تقول الشاعرة باختصار تام: “أنا شجرة بلا أوراق”، ومثل هذه الجملة الشعرية تفتح الباب أمام تأويل حرّ وواسع. حتى في لحظات الإشراق (غير الصوفي)، عندما تنفتح أمامها سماء المعنى تقول بإيجاز: “روحي تحلق فوق الغيوم/ أرقب حياة / لا أملكها”.
اصدرت عناية دواوين عدة هي : “طقس الظلام”، “مزاج خاسر”، “ثم إنني مشغولة”، “أستعد للعشاء”، “جميع أسبابنا”، “امور بسيطة” و”ساتان أبيض”. في ديوانها “ساتان أبيض”، بدت عناية كأنها ترسخ لعبتها الخطرة في هتك مقولة “الشعر النسائي”، معولة على قصيدة منسوجة من وقائع الحياة وتفاصيلها وهمومها الصغيرة أو الكبيرة، الموضوعية والذاتية، النفسية أو الجسدية. ولا تكتفي عناية جابر بما تكتب في هذا الحقل من نصوص ملتصقة بها، حياة وجسداً، بل هي تفصح عن طبيعة شعرها متخطية الهم النسائي أو الأنثوي قائلة: “الشعر مهنة قاسية” و “إن القصائد ليست الأشياء الرقيقة “. وتضيف: “لا أريد للنساء/ أن يقرأن أشعاري/ إنها للرجال الأشداء”.
رفض النسوية
وقد يظن القارئ أن الشاعرة، إذ تبالغ في رفضها الصفة النسائية، تقع في شرك آخر، هو شرك الإصرار على رفض الطابع الأنثوي، حتى ليتحول هذا الرفض شعاراً مناقضاً أو “كليشه” مضاداً. إلا أن الشاعرة التي تكتب لـ “الرجال” كما تعبر، لن تتخلى أبداً عن أنثويتها المتجلية، خصوصاً في نزعتها الرغبوية والشبقية، وفي جرأتها التي لا تهاب المحرم والممنوع والمقموع: “الرذاذ على سرتي / فضة عمل الأمس” تقول. ولا تتوانى عن مخاطبة الرجل – العشيق مخاطبة مباشرة ومن دون مداورة: “تعال الليلة إلى غرفتي” أو “لكي تشرب فخذاي/ أهوالك المعتمة”. لا تمعن الشاعرة في تبرئة نفسها حيال مثل هذه المواقف أو في تلميع صورتها وإخفاء رغباتها ، فها هي تصف نفسها بالمرأة “السوداء” التي “تحصي نساء عشيقها البيضاوات”، مذكرةً بامرأة “نشيد الأناشيد” التي لوحتها الشمس. وتصف أيضاً فخذيها بـ “الدلفينين الورديين”. وها هي كذلك “تعض سبابة العشيق” بفرح وتصفه بـ “الحيوان” قائلة: “إنك حيوان كبير وأنا أحبك يا حبيبي”.
عناية جابر شاعرة جريئة ومغامرة، تسمي الأشياء بأسمائها، فاضحة المشاعر التي طويلاً ما كانت مخبأة، جاعلة من اللغة شاهداً حياً على نزقها: “مثل امرأة حقيقية/أسافر وحدي” تقول عناية جابر. فالمرأة لم تبق أسيرة عشيقها أو رجلها، ومثلما يشتهيها هو تشتهيه هي وتريد أن “تحياه كاملاً”. وعندما تقبل الرعشة الأخيرة، كما تعبر، لن تتلكأ عن “رمي فضلات رغبتي في البوبل” (سلة المهملات)، وستقول للعشيق: “قضي الأمر يا لذيذ”. أما يقينها هنا فهو أن “اللذة هي التي ستبقى”، لا الحبيبة ولا الحبيب، ولعل هذه الجرأة في الهتك نادراً ما بلغتها شاعرة عربية.
قد يخال القارئ أن عناية جابر تسعى في شعر الحب لديها إلى كتابة شعر أروسي محموم بالرغبة ومستعر باللذة. هذا ما يبدو في ظاهر شعرها، أما باطنه فهو يتسع لما هو أبعد من الأروسية، وربما أشد احتراقاً، فالشاعرة التي تتمرد على رومنطيقية الشعر النسائي وعلى وجدانيته ومثاليته، تخفي في قراءتها إحساساً مأسوياً بالجسد والوجود معاً. فاللحظة الجنسية إنما هي لحظة عابرة كأي لحظة فرح أو حزن، والعقاب هو “الوحشة” و”الحيرة” التي تحل في منزلة “السكين”، و”المقامرة” توازي “منظر السكين” أيضاً. أما المزاج الذي سمته الشاعرة “خاسراً” في ديوانها الأول، فهو هنا “سيئ”، وستكرر هذه الصفة أكثر من مرة، فشعرها كأنه شعر المزاج، في ما يعني من سويداء وانقشاع وتوتر وانفعال. والحياة في نظرها “صفقة ضخمة” تفوق العاشقة والعاشق، وتجعلهما يعيشانها بالتحايل عليها حيناً، أو بقبولها كما هي، في وضاعتها وهامشيتها. وحينذاك يضحي الشعر أقرب إلى الكلام اليومي:
“أنت لم تفعل/سوى أن هاتفتني؟ ولم تقل حتى /أنك ستأتي”. هذا الكلام اليومي يتوزع في معظم القصائد المتخلية عن هموم الموت وأسرار الوجود وألغاز الذات والماوراء.
كان الشعر هوية عناية جابر وهاجسها، وكان الغناء هواية رائعة لديها، واعتلت مسارح عدة في لبنان والعالم العربي لتؤدي باقة من الأغنيات الأصيلة، المصرية خصوصا، بصوت مشبع بذاته وعربه وطربيته، لكنها لم تحترف الغناء ولم تتفرغ له على الرغم من نجاح حفلاتها القليلة، خصوصاً أنها عملت في الصحافة الثقافية اللبنانية والعربية، ورافقت الحركة الفنية والادبية عن كثب، وألقت الضوء على أسماء شابة وتجارب جديدة في الشعر والفن.
- عن اندبندنت عربية