في نقد تسييس الضمير الفلسطيني




*جهاد الرنتيسي

خاص ( ثقافات )


يراوح الجدل الدائر حول رواية “مصائر .. كونشرتو الهولوكوست والنكبة” للفلسطيني ربعي المدهون بين “نقد الرواية” و “نقد النقد” دون مفارقة احتمالات نقد “تسييس الضمير” و”تنميط المثقف” ليتناسب ايقاع حركته مع اوركسترا السلطة .
حماس الناقد فيصل دراج غير المبرر للرواية مثار الجدل دفعه لوصفها بأنها تنتسب ضمنياً، إلى رواية الراحل غسان كنفاني “رجال في الشمس” مشيرا إلى أنها أضافت بعداً لم تعرفه الرواية الفلسطينية من قبل، من حيث “بلاغة الحنين” التي أخذ بها المؤلف، ما جعل من روايته عملاً أدبياً ريادياً نفذ إلى قرار المأساة وأضاف إلى غسان كنفاني وجبرا ابراهيم جبرا واميل حبيبي ما لم تعرفه الرواية الفلسطينية من قبل.
والواضح أن دراج الذي تقدمه بعض الأوساط الثقافية باعتباره الناقد الذي لا يشق له غبار، أعتقد بأن “صك الغفران” الذي منحه للمدهون رافعة تتيح للأخير تجاوز العلامات الفارقة في الرواية الفلسطينية وتعفي روايته من أية انتقادات لاحقة .
لكن اعتقاد دراج تبدد عند أولى القراءات الجادة لكتاب فلسطينيين أثارتهم عبثية التصنيفات واستسهال إطلاق الأحكام والاستخفاف بذائقة ووعي قارئ الرواية الفلسطينية .

الناقد وليد ابو بكر، مثلا، التقط في الرواية أخطاء معرفية يصعب تمريرها على أميي الفلسطينيين الذين لا يتقنون القراءة والكتابة من بينها أن ” الشهيد أبو على مصطفى والشهيد مصطفى علي الزبري ليسا اسما لشخص واحد، بل هما لشخصين” وفي ذلك جهل بعلم وطني فلسطيني كان لاستشهاده وقع الصدمة عندما قصفته الطائرات الاسرائيلية من نافذة مكتبه، وأن “باب الواد” أحد أبواب القدس وليس منطقة قرب القدس جرت فيها معركة في عام النكبة، كما تنقل الرواية موقع استشهاد عزالدين القسام من “يعبد” التي تتغنى بها الأهازيج الفلسطينية إلى حيفا .
الالتقاطات المعرفية التي سجلها ابوبكر قابلتها التقاطات أسلوبية ومنهجية وأخرى تتعلق بجدة الموضوعات أوردها الأكاديمي عادل الاسطة في مقالة مطولة حرص من خلالها على تفكيك رواية المدهون ورؤى دراج .

بين التقاطات الاسطة وقد لا يكون أهمها مقاربته بين بطل الرواية “وليد دهمان” وشخوص رواية غسان كنفاني “رجال في الشمس” من خلال الإشارة إلى تخلي دهمان عن فلسطينيته مقابل الجنسية البريطانية وهي ملاحظة تستحق الاهتمام، وإن كان ينقصها الإشارة إلى سيرة ربعي المدهون على غلاف الرواية التي تتضمن حصوله على الجنسية البريطانية وكأنها ميزة مثل مكان ميلاده أو درجة علمية ما .
كما تضمنت مقالة الاسطة شواهد على تأثر المدهون بأساليب الثلاثي “كنفاني ـ جبرا ـ حبيبي” دون أن تكون هناك أية إضافة نوعية تذكر سواء على صعيد الشكل أو الموضوع .


ولا شك في أن التقاطات أبوبكر والاسطة تستند إلى أرضية صلبة من الانتقادات حيث كان الروائي والشاعر والناقد الفلسطيني محمد الاسعد قد كتب نصا مطولا حول رواية “السيدة من تل ابيب” التي تعد الجزء الأول من رواية مصائر .

يرى الاسعد في مقالته أن المدهون وشخصيته الروائية يتقمصان وصف “العربوش” الساخر الذي يطلقه “عاموس عوز” و”عاموس كينان” على الفلسطيني والعربي حيث يجرد الفلسطينيون في “سيدة من تل ابيب” من إنسانيتهم فيما يتم تقديم المستعمر الصهيوني إنسانا كامل الأوصاف، ويشير إلى استعارات الرواية من الخطاب الثقافي الاسرائيلي مثل التعامل مع عودة الفلسطيني إلى بلاده باعتبارها خرافة وإطلاق وصف المليشيات المسلحة على حركات المقاومة، لينتهي إلى أن الرواية لم تكن فضاء حرا بقدر ما هي فكرة مسبقة تستولي على كيان الكاتب .


اندفاعة فيصل دراج غير المبررة لتكريس المدهون مجددا ومحدثا في الرواية الفلسطينية تفسرها سرعة تحولاته تجاه النصوص والروائيين الذين اعتاد على تناول نتاجاتهم في كتبه ومقالاته .

ففي نهايات عقد التسعينيات من القرن الماضي أصدر دراج كتابه “بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية” الذي يتضمن قراءات نقدية تتناول نتاجات كتاب وشعراء فلسطينيين حيث بذل جهدا في إبراز سلطوية يحيى يخلف وعاد بعد بضعة سنوات ليقدم رأيا مغايرا في روايته “جنة ونار” ويصفها بأنها “وثيقة روائية فلسطينية استثنائية، تحاور أكثر من ذاكرة وتحتفي بروح فلسطين، كما كانت وكما يجب أن تكون، وتضيف إلى الرواية الفلسطينية نصاً مبدعاً جديداً” رغم مديح الرواية لحزب السلطة .
منح “صكوك الغفران” لروايتي المدهون ويخلف عثرة من عثرات الناقد في تعامله مع الحالة الثقافية الفلسطينية وليست العثرات كلها ففي كتابه “الهوية ـ الثقافة ـ السياسة: قراءة في الحالة الفلسطينية” بناء متكامل لفكرة الهوية المتحولة مع الزمن الواردة في كتاب ” الهويات القاتلة ” لأمين معلوف دون إشارة لصاحب الفكرة .
مقالة الروائي رشاد ابو شاور “بؤس مثقف فلسطيني .. فيصل دراج في المؤسسة” المنشورة في عدة مواقع إلكترونية خلال اذار 2014 تقدم بعض التوضيحات لتقلبات دراج ومن بينها أن يخلف استقطب الأخير ليعمل مستشارا بمرتبة مدير عام في وزارة الثقافة الفلسطينية ولا شك في أن مثل هذا الموقع يرتب عليه تقديم تنازل هنا وآخر هناك على حساب رؤاه وأدواته النقدية .
____________
• كاتب من الأردن

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *