*فراس حج محمد
في حديث سابقٍ عن الشاعر مريد البرغوثي استدعى أن أعرّج قليلاً على ذكر الشاعر تميم، لكن دون التوقّف مليّاً عند ظاهرة تميم التي كنت مستمتعاً بها جدّاً حينما سمعته أوّل مرّة على التلفاز عبر فضائيّة الإمارات في أمير الشعراء قبل سنوات- (2007)، وقد حصل على المرتبة الخامسة من بين شعراء الحلقة الأخيرة في تلك السنة.
بدا الشاعر حينها شابّاً مملتئاً ليس فقط من ناحية جسميّة، بل أيضاً ممتلئاً حماساً، لا نعرف نحن المشاهدين من أين مصدره. ربما كان مصدره ما مُنح من فرصة للمشاركة في برنامج جماهيريّ طاغٍ كبرنامج أمير الشعراء. وسبق أن أشرت في كتابي “بلاغة الصنعة الشعريّة” إلى دور هذا البرنامج في تعزيز جماهيريّة الشاعر –أيّ شاعر- وصناعة “النجوميّة الشعريّة” في فصل خاصّ بعنوان: “الشاعر وسلطة الإعلام المعاصر”.
لقد كان تميم البرغوثي أحد أولئك النجوم الذين صنعتهم “الميديا” الملقّحة بعناصر الحداثة مغروسة في جينات تقليديّة كلاسيكيّة، وبدا تميم أفضل مُنتَجٍ “حدا-تراثيّ” يصدّره البرنامج للجماهير العربيّة، ولعلّ الشاعر قد استثمر ذكاءه في الاستفادة من هذه التركيبة المهجّنة من البضاعة الإعلاموثقافيّة، فانعكست على شعره في البرنامج؛ فجاءت قصائده مزيجاً “حدا-تراثيّ” ليعتمد في المسابقة على نصوص شعريّة زاوج فيها بين النمطين التقليديّين للشعر العربي، الشعر المشطّر ذي القافية الواحدة وبين الشعر الحرّ، فكأن هذه المزاوجة إحدى تجليات الصيغة الحداثيّة المهجّنة للبرنامج بشكل عامّ، بعيداً عمّا يقوله بعض النقّاد من تأثّر تميم بأبيه في بناء القصيدة الأشهر له “في القدس” كما بنى أبوه بعض أشعاره؛ مزاوجاً بين النوعين من الشعر. ثمّة ما هو مختلف في الهدف بين الأب وابنه، فكلّ واحد منهما كان محكوماً باللحظة التي هو رازح تحتها في إنتاج القصيدة.
لم يكن هذا التزاوج بين القديم والحديث شكليّاً فقط، بل كان أيضاً يتّجه نحو المضمون، فقصائد الشاعر في البرنامج توغّلت في التراث العربي لتصل إلى العصر الجاهلي، وحضر شعراء كثيرون في قصائده، إمّا حضوراً مباشراً عبر التقليد أو المحاكاة، أو الإشارة إلى الشعراء والمتح من لغتهم وأفكارهم وصورهم، وحتّى طريقة إلقائهم وأعاد إنتاج شيءٍ من مضامينهم بطريقة تحديثيّة غير بريئة من ملامح القدماء الفنيّة والموضوعيّة والموقفيّة، جعلته شاعراً أقربَ إلى الكلاسيكيّة منه إلى الحداثة.
إلقاء تميم البرغوثي في البرنامج كان خاصّاً، ومختلفاً، ومثيراً، حمل من خلاله إلى المتلقي المشاعر القوميّة والإسلاميّة المختلطة بالعاطفة الذاتيّة، وصار الشاعر في شكله وحيويّته وشَعْره الطويل ووقوفه على المسرح وحتّى ملابسه مختلفاً عن غيره، عدا أنّه امتاز بالهدوء خارج المسرح، وأشعل المسرح بالتصفيق داخله، لأنّ أداءه كان مسرحيّاً بامتياز، موظّفاً بذكاء محسوب كلّ ما يلزم لصناعة “شاعر نجم”، ضمن معادلة إعلاميّة شكلانيّة في حداثتها، تراثيّة في تفكيرها والخلفيّة التي تسيّرها، معيداً إلى الأذهان في معمعان أضواء مسرح “شاطئ الراحة” صورة الشاعر القديم المعتلي صهوة جواده أو المرتقي مرتفعاً من الأرض، يسهب في مدّ المستمعين بهورمونات الحماس. هذا الحماس الذي ما إن يغادر الشاعر المسرح حتّى يموت على بابه الخارجيّ. ربّما كان تيم البرغوثي في هذه الصورة الحماسيّة العالية النبرة والمجّانيّة الهدف، أفضل من يمثّل “ظاهرتنا الصوتيّة” كما سمّاها يوماً غازي القصيبي، لقد علا صوته، وحمي وطيسه، وارتفعت درجة حرارته مع جمهوره، لكنْ ما إن تسكت القصيدة، وتكفّ عن الرقص البهلوانيّ مفسحة المجال لشاعر آخر، حتّى ينطفئ الجمهور ويبرد، وإذ بالشاعر يراجع حساباته منتشياً ومستعدّاً للقادم وهكذا حتّى وصل إلى ما يريد؛ تكريسه شاعراً شابّاً نجماً استولى على ما عداه، واستطاع بمجموعة من القصائد المشغولة بحِرَفيّة الأكاديمي أن يبارز ويناجز كبار الشعراء. ولم يستطع أحد من الشعراء أن ينافسه بمسرحيّته تلك سوى هشام الجخ لولا تلك اللثغة في صوته التي تأكل الراء في قصائده. والشاعر الشعبي الفذّ “ناصر الفراعنة” أحد نجوم شاعر المليون بامتياز ودون أيّ منازع، وإن لم يحصل على المرتبة الأولى.
هنا عليّ أن أعود إلى أبي تميم الشاعر مريد البرغوثي مرّة أخرى؛ لأجد الفرق بينهما كبيراً، فمريد ذو شخصيّة هادئة حزينة، يبدو عليها انكسار الزمن وانهزام أمّةٍ كاملة، لا يثرثر كثيراً، ولا يرفع صوته في إلقاء الشعر ولا في الحديث، ولا يسهب أيضاً في التفاصيل الشعريّة التي تخرج القصيدة من الشعر إلى اللاشعر. ربّما من أجل ذلك كان ضدّ الشعر السياسي، منتقداً بشكل علنيٍّ كثيراً من نصوص شعر الانتفاضة وشعر المقاومة إجمالاً، هذا الشعر المفخّخ بالقنابل الصوتيّة الصارخة. فقد بذل “جهدا كان لا بدّ من بذله من أجل التخلص من قصيدة المجاراة من سهولة النشيد، ورداءة البدايات”. (رأيت رام الله، ص75)
استطاع تميم أن يحتلّ الذائقة لبعض الوقت بفعل برنامج “أمير الشعراء”، وربّما ما زال إلى الآن يحتفظ ببعض التأثير عند طلاب المدارس الذين لم يحفظوا له سوى قصيدة “في القدس” التي يعيدونها ويستعيدونها في كلّ مسابقة شعريّة وفي كلّ مهرجان وفي كلّ مناسبة وغير مناسبة حتّى في الإذاعات الصباحيّة المدرسيّة فالقصيدة حاضرة يوميّاً تقريباً، ونافست قصيدته القصيدة المنسوبة للأصمعي “صوت صفير البلبل” في الحضور التلاميذيّ! لقد تمدّد تميمٌ كثيراً ليكون ضمن مناهجنا المقررة أيضاً.
إنّ كلّ ذلك كان بفعل هذه المسرحة الشعريّة الصوتيّة التي افتقر إليها أبوه؛ فظلّ خارج نطاق البثّ الجماهيريّ والاستعادة اليوميّة، متقوقعاً في الدراسات البحثيّة وجلسات النخَب الثقافيّة، وقليلة هي تلك النخب المصابة بأمراض جماهيريّة من نوع آخر ما كانت تفطن إليه فتتذكّره.
يبرهن شعر تميم البرغوثي أنّ الصوت المسرحيَّ حامله الحقيقي، لذلك فإنّ ديوانه المطبوع “في القدس” وما فيه من قصائد لا يجد فيها الدارس أو المتذوّق شاعريّة صافية دون الصوت وبهجة المسرح، لذلك عندما تقرأ قصائد هذا الديوان لا تصدّق أنّها هي نفسها التي سمعتها من تميم صوتيّاً مسرحيّاً. ثمّة أشياء غابت في القصيدة. إنّه ذلك الأداء الاحتفاليّ المسرحيّ المعتمد على وسامة الحضور ومهابة الجسم وجماليّة الصوت والإشارات والإيماءات.
هذه الإمكانيّات المسرحيّة التي تكسبه طلاقة في الحديث المتتابع دون أن ينقطع النفس في الإلقاء، والقدرة على حفظ الشعر، هي التي دفعته ليستثمر ذلك أو ليُستثمر؛ واقعاً تحت ضغط “الميديا” الحديثة وما تحتاجه من عناصر ترويج، لنراه يتمدّد مرة أخرى من خلال ما تقوم به (AJ+ عربي)، فتصدّر للجماهير الذين صار اسمهم “متابعين” أشعاره بين الحين والآخر، ولا تخلو القصائد من سماته الشاعريّة اللانصيّة المتعلّقة بالأداء والصوت والصورة والمزاوجة “الحدا-تراثية”، ولن تستغرب حينما تجد أنّ مئات الآلاف من المشاهدين قد شاهدوا “الفيديو”، وتفاعلوا معه بمختلف الأشكال، تفاعلاً إلكترونيّاً ينمّ عن مدى استمرار التأثير الجماهيريّ، لكنّه استمرار لحظيّ غير ممتدّ -غالباً- خارج لحظة الاستماع الآني. بالضبط كما يفعلون عند مشاهدة حلقة من برنامج “السليط الإخباري” أو “جو شو” أو أي برنامج تفاعلي آخر، موصوف بأنّه جماهيري.
لعلّ ما قام به تميم البرغوثي قد ساهم في تغيير صورة الشاعر التقليديّة إلى صورة أخرى مختلفة تماماً، الشاعر الظاهرة التي تتكئ على عناصر المسرح والتقنيات المعاصرة، فعند تحليل السياقات المصاحبة لكلّ قصيدة من تلك القصائد في “الفيديوهات” سيجد المرء ثمّة ما هو غير شعريّ يسند شاعريّة النصّ. وهذا لا يعني بالضرورة أنّ النصّ بحدّ ذاته غير جيّد، أو أنّه لا يتّكئ على عناصر جماليّة نصيّة شعريّة وبلاغيّة، بل ربّما كان معبّأ بالشعر وبالجمال، لكنّ السطوة ليست للنصّ في ذاته. معَ أنّ تميماً إلى الآن لم يسلم في كثير من النصوص من سيطرة الشاعر القديم عليه أو عناصر التراث بشكل عامّ؛ فيلجأ إلى نصوص تأخذ من القديم بعض العناصر أو تردّ الجمهور إليها. إنّه ما زال وفيّاً لعناصر مسرح “شاطئ الراحة” حتّى وهو يستكنّ وراء الكاميرا بفيديوهات (AJ+ عربي).
والسؤال الأهمّ بعد كلّ ذلك، هل من “عيب نقديّ” في هذه الظاهرة التي جسّدتها “الميديا” المعاصرة، ورأت في الشاعر تميم البرغوثي أفضل من يمثّلها؟ من المؤكّد أنّ السؤال يحتاج إلى وقتٍ طويلٍ لرصد الظاهرة، ومن ثَمّ دراسة مستفيضة وكبيرة ومنهجيّة. وكما أنّ الشاعر يتغيّر، وظروف إنتاج الشعر تتبدّل، فعلى النقد أن يتغيّر أيضاً، ويبحث لكلّ ظاهرة عن عناصر نجاح خاصّة بها، إلّا أنّني كنتُ فقط أشير إلى وجود تحوّل شعريّ في الظاهرة الشعريّة العربيّة، ربّما لم تجد إلى الآن منطلقاتها النقديّة الخاصّة لتأصيلها والحكم عليها، فلكلّ زمان دولة ورجال، ولكلّ دولة من هذه الدول شاعر خاصّ، ومختلف، ولعلّ تميماً أيضاً يمثّل هذا التحوّل في الجمهرة الشعريّة الحديثة وحركتها الفاعلة والمستمرّة. دعونا ننتظر، لنرى النتائج والحكم للنقد في نهاية المطاف
- كاتب من فلسطين