جوهر.. القاهرة والأزهر..القصَّة التي لا يعرفها كثيرون

*حاتم السروي

يذكرنا شهر أبريل من كل عام بذكرى شروع القائد جوهر الصقلي في بناء الجامع الأزهر بأمرٍ من الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، وكان ذلك بالتحديد في الرابع من أبريل لعام 970م والمقصد من بناء الأزهر كما يطلعنا التاريخ أن يكون مسجدًا تقام فيه الشعائر وجامعة تدرس الفقه والتفسير والعقائد وفقًا لمذهب الشيعة الإسماعيلية الذين ينتمي إليهم الفاطميون، والسؤال الآن من هو جوهر الصقلي الذي بنى الجامع الأزهر؟.

جوهر الصقلي الحلواني الذي بنى مصر، والذي ترك صناعة الحلويات ليصبح أحد أنجح القادة العسكريين الذين عرفهم التاريخ، ولا شك أنه الأهم والأشهر بين قادة الفاطميين، كان موفقًا في كل الحروب التي خاضها لتوسيع رقعة الأراضي التي يتملكها سادته ولتدعيم أركان ملكهم. إنه مؤسس مدينة القاهرة وفاتح مصر وفلسطين وسائر الشام والحجاز، كما وحد بلاد المغرب الأقصى بعد أن نقض أهلها البيعة، وأظهروا ولائهم لحاكم الأندلس من بني أمية فوصل إليهم جوهر، وألقى القبض على ولاة الأمويين، وتقدم حتى وصل إلى المحيط الأطلسي وأمر باصطياد السمك وجعله في قلال المياه ثم أرسله إلى المعز إشارةً منه إلى انتصاره، وعاد إلى مولاه وبصحبته صاحب (فاس) وصاحب (سجلماسة) في قفصين من حديد! وفي يومٍ مشهود دخل بهما القيروان.

ولد جوهر بن عبد الله – وكنيته أبو الحسن- في صقلية عام 928م ومات في القاهرة في الثامن والعشرين من يناير عام 992م وينسب إلى صقلية وهي جزيرة تقع في البحر المتوسط جنوب إيطاليا، كانت خاضعة لسلطان العرب في ذلك الوقت، ويُعْرَف جوهر أيضًا بلقب الرومي، وقد جُلِبَ صغيرًا إلى مدينة (المهدية) أيام حكم (المنصور بالله الفاطمي) وتربى تربيةً عسكرية، ثم انتظم في سلك الجيش، وترقى فيه حتى صار قائدًا لقوات الفاطميين على عهد (المعز لدين الله) وسرعان ما أثبت كفاءته بأن ضم إليهم مصر، والتي كانت تحت حكم (الإخشيديين) مع التبعية الإسمية لخلفاء بني العباس.

وبأمر من المعز بنى جوهر مدينة القاهرة عام 969م بهدف جعلها عاصمة لملك الفاطميين، وبأمر من المعز أيضًا تم إنشاء الجامع الأزهر ليكون مركزًا علميًا وروحيًا ينشر عقائد الشيعة وعلوم الدين وفق مذهبهم.

وحين استولى الصقلي على الديار المصرية أرسل بشائره إلى مولاه المعز في منتصف رمضان المبارك، وكان المعز في إفريقية (الاسم القديم لتونس) ففرح فرحًا بالغًا وامتدحه الشعراء، وكان منهم (ابن هانئ الأندلسي) الذي أنشأ يقول:

تقولُ بنو العباس هل فُتِحَت مصرُ؟… فقل لبني العباسِ قد قٌضِيَ الأمرُ

وقد جاوز الإسكندريةَ جوهرٌ…تطالعه البشرى ويقدمهُ النصرُ

وبعد أن فرغ جوهر من الاستيلاء على مصر وبناء القاهرة سار بعسكره إلى دمشق فغزاها وملكها.
وقبل مقدم المعز إلى مصر أناب عنه جوهر ليحكمها باسمه مدة أربع سنوات، ثم حضر المعز فلم يعهد إليه بمهمة جديدة، وارتاح جوهر حتى ظهر خطر القرامطة في بلاد الشام فاستعان به الخليفة الذي مات بعد ذلك بسنة وحكم بعده (العزيز بالله) وفي أيامه استولى (البويهيون حكام العراق) على دمشق من خلال قائدهم (أفتكين) وطردوا واليها من قِبَل الفاطميين، وجعلوا الخطبة في أيام الجُمَع للخليفة العباسي، فاستعان العزيز بجوهر، وخرج القائد إلى الشام وحاصر دمشق لمدة سبعة أشهر، فأرسل (أفتكين) إلى (الحسين بن أحمد) من القرامطة لينضم إليه في القتال فأجابه وسار إليه بجيشه، ولما وجد جوهر نفسه بين جيشين فضل العودة إلى القاهرة، وطمع أفتكين في هزيمته فاتبعه وتقابلا عند مدينة (الرملة) الفلسطينية، فأرسل جوهر يطلب المدد من الخليفة الفاطمي، فخرج العزيز بنفسه في جيش عظيم، وتمت هزيمة البويهيين وحلفائهم القرامطة واستعاد العزيز دمشق سنة 368هـ.
أما عن فتح مصر وبناء القاهرة فنقول: كان الفاطميون قد حاولوا فتح مصر ثلاث مرات فلم يفلحوا حتى تولى (المعز لدين الله) فعزم على فتحها، وجهز لهذا الغرض جيشًا ضخمًا وصل تعداده إلى 100 ألف جندي، وولى عليه جوهر الصقلي، وخرج بنفسه لتوديع قائده، وأقام أيامًا في المعسكر، وكان يجتمع مع جوهر يوميًا، وذات مرة خرج إليه وقد اجتمع الجيش فخاطب المعز دعاته الذين سَيَّرهم مع جوهر قائلاً: ” لو خرج هذا وحده لفتح مصر، ولتدخلن إليها بالأردية من غير حرب ولتنزلن في خرابات ابن طولون وتبني مدينة تسمى القاهرة ” ثم استعرض الجند وودع قادته وكان عرضًا عسكريًا مهيبًا وصفه ابن هانئ فقال:

رأيت بعيني فوق ما كنت أسمعُ.. وقد راعني يومٌ من الحشرِ أروعُ

غداةَ كأن الأفق سُدَّ بمثلهِ…فعاد غروب الشمس من حيث تطلعُ

وكان أن خرجت الحملة في الرابع عشر من ربيع الثاني سنة 358هـ/ فبراير 969م، منطلقةً من القيروان بقيادة جوهر الذي دخل الإسكندرية فسلمها إليه أهلها دون قتال، ثم أدرك أهل العاصمة وكانت وقتها (الفسطاط) أنهم لا طاقة لهم بجوهر وجنوده، فأرسل الوزير (جعفر بن الفرات) رسوله إلى جوهر يطلب منه الأمان، فوافق الصقلي، وكتب عهدًا بنشر العدل وبث الطمأنينة، ثم دخل الفسطاط في السابع عشر من شعبان، وخرج إليه (جعفر بن الفرات) وسائر الأشراف والعلماء، وبهذا انتهى سلطان العباسيين دون قتال، وبنى جوهر قصرًا كبيرًا للمعز بلغت مساحته 70 فدانا في رمضان سنة 362هـ /يونيو 973م وصل الخليفة إلى مصر واتخذها مقرًا لمملكته.
وفي سنة 381هـ وتحديدًا في شهر ذي القعدة، اعتل جوهر فعاده العزيز بالله، وأرسل إليه خمسة آلاف دينار، ثم بعث إليه أحد الأمراء ومعه خمسة آلافٍ أخرى، لكن القائد ما لبث أن توفي، وقام العزيز بإرسال الكفن والحنوط، فكفنوه في سبعين ثوبًا بعضها موشى بالذهب! وصلى عليه الخليفة وحاشيته، ودفن بالقرافة الكبرى، وأمر (العزيز) بعدها بترقية ولده (الحسين بن جوهر) ليكون عوضًا عن أبيه وسماه القائد بن القائد.. إنها قصة لا يعرفها الكثيرون فآثرنا ذكرها، والتاريخ ديوان العبر.

شاهد أيضاً

ما سرّ فشل الرواية العربية في تحقيق مبيعات في الدول الغربية؟

(ثقافات) بمناسبة افتتاح معرض لندن للكتاب 2024: ما سرّ فشل الرواية العربية في تحقيق مبيعات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *