حقيبةُ خُذلان

( ثقافات )

* أنس الغوري

إنني كائنٌ مُبتلىً بالخيال وهذه مأساتي، مولعٌ بالتفاصيل حدَّ الهوس.

شعورٌ هائل بالضياع والحرمان ينتابتي حينما أتذكر تلك التفاصيل، البسيطةَ للغير، الكبيرة لي.

ثمّة حقيبةٌ موجودةٌ في أحد المحالّ وحصرًا في المحلّ الذي يواجهني تمامًا.

مُنذ الصغر ولي شغفٌ كبيرٌ بالتفاصيل. لم أحظى بطفولةٍ فسيحة، ولم يكن لوالدي عصًا سحريّة، بلا أصدقاء؛ وهذا ما خلق هوةً بيني وبين الواقع إلى هذا السن الذي بلغته!

في كلِّ صباحٍ بعد وصولي إلى العمل وقيامي بالواجبات المترتّبة عليّ، وقبل البدء بالقراءة تَفرُّ عيناي إلى المحلّ الذي يواجهني، إذ يوجد بداخله عددٌ لا بأس به من الحقائب متعددة الألوان والماركات التي أجهلها.

أسأل نفسي، بأيِّ ذريعةٍ الآن سأجرُّ جثّتي إلى هناك!

أمدُّ يدي إلى جيبي وأحصي ما معي من فكّة لأتذرعّ بشراء أيِّ شيء لا قيمة له، ولكن ما أسعفني به المبلغ الذي أملك هو شراء قلم!

أدفع جثّتي المقيمة بين الهوامش بصعوبةٍ باتّجاه المحلّ بعد نظرات استطلاعٍ تخبر بخلوّ المحل من الزبائن. أقطعُ الشارع والمنصف والشارع الذي يليه.

أدخل، أبلغهم بثقةٍ مفتعلة تحيّة الصباح.  أذهب نحو زاوية الأقلام، لكن ناظري لا يفارق الرفوف العليا حيث الحقائب المتعدّدة.

شعورٌ يكتنفني لا يسعفني على وصفه ثمانيةٌ وعشرون حرفًا بعد أن فتحتُ باب عقلي للعيش مع المشهد كما أتمنّى باستراق النظر هذا!

أجدُ بينهنَّ حقيبةً كما رغبتُ يومًا باقتنائها، سوداء، عريضة بعض الشيء، تُحمل على الكتف، حجمها جيّد وتتسعُ لكتابينِ ودفتر، من الجِلد الصناعيّ، لكنها ناعمةٌ بتصميمها.

من غمرةِ هذا الخيال يُفزعني صوت الموظّف؛ بمَ أخدمك؟

أبادره بعدَ صحوي أنني بحاجة قلم مناسب!

وعلى عجالة، أدفع ثمنه وأخرج.

أتركُ ورائي عالمًا من الخيال، لازالت صورة الحقيبة في عليائها تسكن قلبي الخالي من الفرح، مُلتصقة تحت جفوني. أحادث نفسي، لابُدّ من أن أحصل عليها، لكن كيف؟ كيف السبيل؟ العين بصيرة واليد مبتورة الحلم …

لافائض من دخلي، ولازلتُ في عجزٍ طويل الأمد عن الاشتهاء. ما أحصل عليه من دخلٍ وما يترتب عليّ من التزامات لايبشّر على أيِّ حالٍ باقتنائها. كلُّ من في البيت يعيشُ على أجري الضئيل، وما باليد حيلة!

أووه يا إلهي!

أيُّ استحقاقٍ ثقيلٍ هذا!

أحاول أن أجد أعذارًا، مبرراتٍ كاذبة لانتزاع هذه الأمنية من جدران قلبي المتهدّم، أحاول نفض غبار الألق عنها، أقوم بالتخدير المضني من خلال وضع الالتزامات الأساسية على طاولة فضاء خيالي الحرون، والتذرّع بأنَّ كيس النايلون الذي أحمل به كُتبي لازال بوضعٍ جيد، بيد أنّها تحملُ أسماء محالٍّ تجارية ذات ماركة مشهورة،- هذه الأكياس أحصل عليها من الزبائن، الذين يأتون لبيع مُقتنياتهم أو التبرُّع بها-، والعذر الأكبر؛ لستُ أدري إن كان عذرًا  أم رهبةً بشكلٍ أساسيّ من مجتمع مقلوب، تربّى وتَشرّب التهكّم منذ تكوينه في هذا الشرق الوقور.

 إنّهُ الخوف! الخوف من سياط ألسنتهم، التي هي أطول من حدودِ منفانا!

إذ لايحقُّ لأحدٍ أن يحملَ الحقيبة  إلا أصحابُ التحصيلات المعرفيّة!

وإنني لا أمتلك أيّة شهادة لتحصيل علميّ يحقّ له أن يذكرها، غيرَ أنّه إلى الآن لم يُسعفني عقلي بتحليلٍ منطقيٍّ لهذا العُرف الجائر، ولا يحقُّ لي أن أستنكر فظاعة ودمامة هذه الأعراف لأنَّ كلماتي بلا لِسان!

هناك شعورٌ داخلي يكاد ينتهي مخاضه؛ ليصرخ بأول لحظة خروجٍ له، حاجتي هي …

حقيبةٌ بمساحة وطني المُغتال ربيعه لتتسع لآلامي وخيباتي اللامحدودة!

من مضاجعة الحرمانِ مع الخيال الجدب في حضن العبث تَوّلد كُل هذا!.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *