* نصيّف الناصري
“1”.
في حديقة سعدي يوسف
.
اكتشفت هذه الكلمة
عندما كنت أتأمل شجيرة الحبق الوحيدة في حديقة سعدي يوسف
في عمان. اكتشفتها في اللحظة التي تذكرت فيها ذلك الكوخ المنعزل
في “راوندوز” الذي قصفته مدفعية ميدان الفرقة 23 عام 1987
وقتل فيه شاعر كردي. هذه الكلمة التي اكتشفتها
فككت لي المعنى الغامض لهذه الجبال التي عبرتها عدة مرات، حاملاً فوق
رأسي نذر النسور. أَيّ لهب كانت تخفيه هذه الكلمة؟
أحياناً كانت تغطسني في بئر من الدماء وتعلمني المعصية، وأحياناً أخرى
كنت أخونها فتهرب مني لائذة بصمتها الذي يعذب صرخات العالم :
ليل الأبدية يضيء مقبض القصيدة
ويزيح الموت عن طريق الشاعر.
“2”.
أداعب موتي وأهزهز مرآته في دهليز البجعة.
في هذا الدهليز
عشيقة خائنة تدس السمّ في طعام البجعة، لسانها العفيف يقطر
غلظة وسفالة، أوثقتها عند منتصف الليل في سلم مهدم
نادت على محاربين من العصور الوسطى، جعلوني أنظف حدائق
في كوكب آخر، أغرز سكاكين في ليمون موضوع على طاولات
غير موجودة.
سال دمي
وسقطت مبعثراً.
تعلقت أنفاسي بمسامير مكسورة
نهضت وضمدت جروحي لاهثاً تحت أشجار نجمة تقلب صفحات
غيمة مستعجلة. المحاربون الغلاظ بأسلحتهم المشحوذة وجزما تهم
الضخمة، راحوا يثبتون كلمات محروقة فوق جبيني وتحت قدمي
خلعوا ثيابي
وسلبوني شبابي
لملمت نفسي وتظاهرت بالموت، تركوني معرى أداعب موتي وأهزهز
مرآته في الدهليز مع البجعة.
“3”.
فاتح أسبانيا.
تحت عشب النجوم المكسيكية، نجوم الهنود الحمر التي حاولنا دائماً
الإمساك بسكاكين وقائعها المأساوية، رأينا الجندي الأسباني الأكثر
انتظارا للصاعقة من شجرة، يمضغ التعاليم الشيطانية التي أعطتها له
الملكة إيزابيل وربما الملك فردينا ند المنتشي بتطهيره الشامل لشبه
الجزيرة الايبيرية من آخر عدو موري، هذا الجندي محترف القتل
جواب الآفاق بملابسه الرثة وسيفه الأشد لهباً من الجحيم
الذي كان يجلس تحت الأهرامات الازتيكية ويتذكر سنوات شبابه
في معسكرات الأسر عند الموريين في طنجة والقيروان.
ماذا فعل يا اوكتافيو باث بمناجمك ورهبانك وآلهتك التي خلقها
هنديك الأحمر؟ ما الذي تفعله المكسيك بعذراء غواديلوب
وأوهام المسيحية المتحضرة ومصارعة الثيران؟
قمح صخري في فم القديس الهندي، دنس في “حجر الشمس”
وأسبانيا العليلة منذ قرون، كلها قبر لقصيدتك التي هي ضمادها وعطرها.
باث ـ القديس
فاتح أسبانيا.
“4”.
شقة على الطراز السويدي.
أعيش هنا منذ شهور في شقة على الطراز السويدي
تهتز حياتي فيها متأرجحة بين الألم والضجر
أين أهرب من رماد الماضي الذي يسيجني بسياجات طويلة؟
أين ألبد من عواء جروحي؟
كل القبور التي شيدتها تهدمت، والحياة في هذه الشقة لا تشبه
تلك التي عشتها في كوخ القصب في”الناصرية”ولا ذلك البيت
القبر في بغداد ولا ذلك القسم الداخلي في”الباب المعظم” الذي
كنت ألبدُ فيه في هروباتي المتكررة من الخدمة العسكرية،
ولا ذلك الملجأ المقصوف فوق جبل “نواخين”ولا تلك الغرفة
المظلمة والرطبة في “عمَّان”، ضع يدك فوق رأسي المتألم
قذائف ثقيلة ستنهض من سباتها، ليل حياتي هنا، دمعة كبيرة
ما أوحش الحياة في شقة على الطراز السويدي،
ـ ما الذي تريده أيها الغجري، يا جواب الطرقات الهرمة ومغني العذابات
واللوعة الشجية؟ ـ “الجدران بأهلها”.
أريد ظل نخلة في هجير العراق
أريد ليل العراق
أريد قبراً بالعراق
أريد ضيم العراق.
“5”.
حديث صاحبة الحانة الأسبانية.
جئت حانة “مالقا” الأسبانية في “مالمو” تثقلني الهموم والأوجاع
أبحث عن انكيدو آخر يمنحني إنسانية السلوى.
عن كأس يدفع لي بالمجان أفرغ فيه بعض أحزاني. قالت لي صاحبة الحان”ة:
ـ الى أين تسعى يا نصيف الناصري
أن الحياة التي تريدها لن تجدها
حين خلقت السلطة المنفى، قدرت الموت على المنفيين واستأثرت
هي وشرطتها بجنات الوطن،
أما أنت يا نصيف الناصري فليكن كرشك فارغاً دائماً
وكن حزيناً متحسراً طوال الوقت
وأقم النواح في كل يوم من أيامك
والطم واصرخ صباح مساء
واجعل أسمالك نظيفة وزاهية
واغسل رأسك واستحم بالديون
واضرب الجلق
وافرح الوسادة التي في حضنك
وهذا هو نصيب الشعراء في المنفى.