السنة البطيئة

  • آدم فتحي

لعَلّ أفضل ما نتمنَّاه لنا وللقادمين، أن تكون سنة 2021 سنة «يقظة الوعي الجماعيّ»، ودرساً كافياً للبشريّة كي نفهم جميعاً أنّ مصيرنا مشترك أو لا يكون، وأنّ مُستقبلَنا رهينُ تضامننا، وأنّ إهدار الثروات والاعتداء على المناخ وتلويث البيئة طريقٌ إلى تدمير الإنسان وكوكبِه، وأنّ الثروةَ الحقيقيّة ليست الاقتصاد أو الطاقة أو المال أو المصانع والأسواق أو المطارات والطرق السيّارة والتكنولوجيا الرقميّة، بل هي التربية والصحَّة والبحث العلميّ والإبداع. أي أن مستقبلَنا ثقافيّ تحديداً، وثقافيٌّ أو لا يكون.

«كلّ عام وأنتم ومَنْ تحبّون كما تحبّون». بمثل هذه العبارة اعتدنا أن نختتمَ سنةً ونفتتحَ أُخرى، متمنّين لأحبّتنا الصحَّةَ والنجاح والسّعةَ والسعادةَ والوقت الطيّب… مسارعين في أثناء ذلك، كلٌّ على طريقته، إلى تقييم السنة المُنصرمة في نوعٍ من «جرْد الحساب». واليومَ وقد حزمت سنة 2020 حقائبها ودخلت التاريخ، شأنها في ذلك شأن السنوات التي سبقتها، نستطيع أنْ نسأل: أيّ سنةٍ كانت؟ وبأيّ عبارةٍ يمكننا اختزالُها لأنفُسنا وللأجيال القادمة؟

تحدَّث أسلافُنا عن عام الجراد كلّما اجتاحهم الجراد، وعن عام الحزن كُلّما اختطف منهم العامُ «بُدوراً» تُفتَقَدُ في الليلة الظلماء. تحدَّثوا عن عام الرّمادة حين أصاب الناسَ قحطٌ حتى صارت وجوههم في لون الرماد من الجوع. وقِيل: كانت الريح تسفي تراباً كالرّماد لشدّة يبس الأرض. كما تحدَّثوا عن عام الرّعاف وسُمِّيَ بذلك لكثرة ما أصاب الناس فيه من الرّعاف، وعام الجحاف حين وقع بمكّة سيل عظيم ذهب بالإبل وعليها الحمول.
تسميات أُطلِقت على سنوات معيَّنة، لكنّها ظلّت صالحة للتعبير عمّا تلاها من «محطّات». ولعلّها تصلح كلّها لوصف بعض أبعاد السنة المُنصرمة دون أن تلمَّ بكافّة وجوهها. والحقّ أنّ سنة 2020 لم تترك أحداً في مأمن. وليس من شكّ في أنّ أغلبنا يرغب في القفز عليها بذاكرته ويتمنَّى نسيانَها أصْلاً.

أذكُرُ هنا (والشيء بالشيء يُذكَر) أنّي كنتُ حاولتُ قبل أكثر من عشرة أعوام النسج على منوال «السنة الكبيسة»، فاقترحتُ إطلاق عبارة «السنة النسيئة» على البعض من سنواتِنا العصيبة، على الرغم من أنّ أسلافنا لم يتحدَّثوا عن النسيء إلّا نسبةً إلى الشهور التي كانوا يُنسئونها في الجاهليّة، إذ كانوا يعظِّمون الأشهر الحُرم الأربعة ويتحرَّجون فيها من القتال، فإذا قاتلوا في شهرٍ حرام، حرَّموا مكانه شهراً من أشهر الحلّ…

وقد حكى ابن إسحاق صاحب «السيرة» أنّ أوّل من نسأ الشهور على العرب وأحلّ منها ما أحلّ وحرّم ما حرّم القلمس، ثمّ قام بعده نسله وصولاً إلى أبي ثمامة. فكانت العرب إذا فرغت من حجّها اجتمعت عليه بمنى، فقام فيها على جمل وقال بأعلى صوته: «اللّهمّ إني أحللتُ شهر كذا (ويذكر شهراً من الأشهر الحرم وقع اتّفاقهم على شنّ الغارات فيه) وأنسأتُه إلى العام القابل (أي أخّرتُ تحريمه) وحرَّمتُ مكانه شهر كذا من الأشهر البواقي…». وفي ذلك يقول عمرو بن قيس بن جذل الطعّان مفتخراً:
لقد علِمَتْ مَعَدٌّ أنَّ قومِي كـِرامُ الناس إن لهم كراما
وأيّ الناس فاتُونا بِوَقْرٍ وأيّ الناس لم يعلك لِجاما
ألسنا الناسئين على مَعَدٍّ شهورَ الحلّ، نجعلها حراما؟

وكنتُ حاولتُ أن أنسب «النَسَأَة الجدد» إلى النسيان لا الإرجاء. بانياً اقتراحي على رغبةٍ «بعيدة المنال» في أن نعمد إلى بعض السنوات المُثقلة أوجاعاً وخيبات، فننسِئها إلى أجَلٍ غير مُسَمَّى، وننفيها بعيداً عن الذاكرة، وننساها إلى الأبد كأنّها لم تكن.

آدم فتحي (تونس)آدم فتحي (تونس)

والأرجح أنّ أغلبنا يرغب بشدّة في نسيان سنة 2020 مرّةً واحدةً وإلى الأبد. وليس من شكٍّ في أنّنا ما كنّا لنتردّد لحظةً لو سألتنا عنها الأجيالُ القادمة، في القول إنّها كانت سنة ثقيلة الظِلّ والوطأة، أخذت معها الكثير من أعلامنا نساءً ورجالاً، وشهدت خلالها القارّات الخمس ما شهدته من انفجارات وحرائق ومجاعات وحروب، وتجلّت في منعطفاتها مآزق الخيارات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة الدوليّة، وبلغت فيها «الشعبويّة» ذروةً غير مسبوقة، وتراجعت معها الثقافة والإيطيقا أمام نوعٍ من «السينيزم المُتوحِّش»، ومرَّت خلالها «الديموقراطيّة العالميّة» بامتحاناتٍ عسيرة بلغت أشُدّها مع طريقة خروج ترامب من الحكم، وأطاحت بالكثير من أوهامنا، ووَضَعَتْنَا أمام حقيقة «هشاشة» الإنسان وكوكَبِه.

إلّا أنّها كانت قبل كلّ ذلك وبعدَه سنة «الكوفيد – 19» بامتياز. وليس من شكٍّ في أنّ جائِحة «الكوفيد» اكتسبت بعضاً من وقْعِها غير المسبوق من «الانفجار الإعلاميّ» الغالب على المرحلة. وهو ما ألمحتُ إليه في مقالةٍ سابقة حين أشرتُ إلى نجاح «الوسائط الجديدة» في إرغام «أصحاب القرار» العالميّ على التصرُّف «مكشوفين» أمام الرأي العامّ وكأنّهم في أكواريوم، فإذا كُلٌّ يخشى أن يُتّهَمَ بتغليبِ دواعي الاقتصاد على مصالح العباد. إلّا أنّ الجانب الآخر من وقعِ هذه الجَائِحة راجعٌ إلى طابعها المُلغَّز، وإلى سهولة عبورها كلّ الحواجز، فإذا هي قادرة على إصابة الجميع، لا فرق في ذلك بين غنيٍّ وفقير أو بين «متقدِّم» و«متخلِّف».
لقد وضعتنا هذه الجَائِحة، جميعاً، أمام الخوف من المجهول. وكشفت فينا عن الشيء ونقيضه. ولعلّها تبدو في نظر البعض «السنة المنعرج» بين زمن الانفتاح المُعَوْلَم وزمن «الانكفاء على الذات» والعودة إلى نوع من «الحمائيّة» الهيستيريّة.

تغيَّرت نظرتُنا إلى المكان في 2020 أكثر من أيّ وقتٍ مضى. أصبحت «المسافة» ضروريّة لحماية الآخر وحماية الذات. أغلقت الأماكن دونَنا وعلينا. فضاءات العمل. فضاءات التَّعَلُّم. الشوارع. المطارات. المحطّات. الموانئ. دور الثقافة. المكتبات. المسارح. قاعات السينما. المقاهي. المطاعم. الملاعب. أصبحت كلّها موضعَ ريبة: المكانُ هو العدوّ! فما بالُك بالآخَر؟!

تغيَّرت المقاييس والإحداثيّات تبعاً لذلك. بدَا البُعدُ أبعدَ والطُّولُ أطوَلَ. تعطّلت الحركة وثقلت الخطوة. أصبح السفرُ أمنيةً والتنقُّلُ إنجازاً يُحسَب له ألفُ حِساب. استمرأ البعضُ التواصُلَ عن بُعد والمُحادثة عن طريق الفيديو. لم نعد نجرؤ على المُصافحة فضلاْ عن العناق، وخرجت «القُبلة من خلف زُجاج» من حيِّز الاستعارة إلى حيِّز الواقع. بتنا حريصين على المسافات بعد أن كُنّا نطويها طيّاً، وأصبح «التباعُدُ» غايةً بعد أن كان عيباً.

كما تغيَّر إحساسنا بالزمن. ضاقت علينا جنبات الشوارع حين أرغمتنا على العودة إلى البيوت. ضاقت علينا جدران البيوت حين أصبح الخروج إلى الشوارع «فردوساً منشوداً». لم نعد واثقين من «الغد» بعد أن أصبح «الفيروس» قادراً على الضرب في أيّ لحظة. شيئاً فشيئاً صعُبَ علينا التخطيط لأيّ مستقبل واضح. أصبحنا نعيش يوماً بيوم لائذين بالانتظار: ننتظر انحسار الجَائِحة. ظهور اللقاح. النهوض من النوم دون أعراض. مرور اليوم دون سماع خبر سيّئ عن إصابة حبيب أو وقوع صديق. استئناف العجلة الاقتصاديّة والاجتماعيّة دورانها المعهود. وباختصار: عودة الحياة.

وازدهرت إلى جانب ذلك عقليّة التآمر و«نظريّة المُؤامَرة». بدايةً من إرجاع أسباب ظهور الجَائِحة إلى هذا الطرف أو ذاك، مروراً باعتبارها «جزءاً من خطّةٍ يائسة» لتغيير فلسفة العمل والخروج من مأزق المنظومة الاقتصاديّة المُوشكة على الانهيار، وصولاً إلى «الاحتراز» من «اللقاحات» المُقتَرحَة، مرّةً بدعوى أنّها لم تستكمل مواصفاتها العلميّة، ومرّات بدعوى أنّها جزءٌ من خطّةٍ أُخرَى لتعقيم البشر أو تسميمهم أو التخلّص من عددٍ منهم!!

وما كان لذهنيّة المُؤامَرة أن تتفشَّى بهذا الشكل لولا طريقة مُعالَجة الجَائِحة التي اتّبعتها الدول الكبرى جارّةً معها أغلب شعوب العَالَم. لقد أفرطت تلك الأنظمة في تخويف مواطنيها من الجَائِحة حتى لم يعد أمامهم بُدٌّ من التهوُّر! من ثَمَّ ازداد تمرُّدهم على مقتضيات «التباعد» وازداد ضيقهم ذرعاً بإغلاق شتّى فضاءات العمل والثقافة والتسلية، فإذا هم يرفضون لزوم البيوت والانضباطَ للتوجيهات الحمائيّة، بدعوى تفضيل الموت رفقة الآخرين على الخيار بين أن يموتوا فرادى وأن يموتوا جماعات.

هكذا مرَّت سنة 2020. ولعَلّها كانت من تلك السنوات «الجامِعة» التي تضمَّنت شيئاً من «ويلات» السنوات التي سبقتها، إضافةً إلى «تميُّزها» بتأثيرٍ ذي طابعٍ جماعيّ كونيّ. وإذا كان لابدّ لها من تسمية خاصّة بها فلنقُل إنّها كانت «السنة البطيئة» بامتياز. لقد «طالت» علينا حتى كدنا نتوسَّل إليها أن ترحل. ومرَّت ثقيلةً أكثر من أيّ سنةٍ أخرى. انكفأ خلالها المكان على الزمان، وثقلت علينا وطأة الانتظار، فإذا لعقارب الساعة إيقاع السلحفاة والنملة، حتى لكأنّ الثانيةَ دقيقةٌ والدقيقةَ ساعةٌ والساعةَ يومٌ واليومَ شهرٌ والشهرَ سنةٌ.

ولعَلّ أفضل ما نتمنَّاه لنا وللقادمين، أن تكون سنة 2021 سنة «يقظة الوعي الجماعيّ»، ودرساً كافياً للبشريّة كي نفهم جميعاً أنّ مصيرنا مشترك أو لا يكون، وأنّ مُستقبلَنا رهينُ تضامننا، وأنّ إهدار الثروات والاعتداء على المناخ وتلويث البيئة طريقٌ إلى تدمير الإنسان وكوكبِه، وأنّ الثروةَ الحقيقيّة ليست الاقتصاد أو الطاقة أو المال أو المصانع والأسواق أو المطارات والطرق السيّارة والتكنولوجيا الرقميّة، بل هي التربية والصحَّة والبحث العلميّ والإبداع. أي أن مستقبلَنا ثقافيّ تحديداً، وثقافيٌّ أو لا يكون.

  • عن الدوحة الثقافية

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *