صراع الهويّات في الوسط الأكاديمي الفرنسي

* أبو بكر العيادي

يعيش الوسط الأكاديمي والإعلامي الفرنسي هذه الأيام صراعا حادّا بين المتمسكين بالدراسات الجندرية والنسوية وفكّ التبعية الكولونيالية وخصومهم الذين يتهمونهم بجلب مقاربات أميركية لا علاقة لها بالواقع الفرنسي، وحتى بالانتماء إلى ما صار يسمى بـ”اليسار الإسلاموي”، وهو نعت ابتدعه اليمين المتطرف لاتهام بعض اليساريين بالتواطؤ مع المسلمين لمجرد أنهم تبنّوا الدفاع عن حقوق الأقليات وخاصة المسلمين.

تفجر الخلاف يوم الـ13 من يناير المنقضي حين أقدم ما يزيد عن سبعين جامعيا، من بينهم عالمة الاجتماع نتالي هاينيش والفلاسفة ميشيل فيشان وبيير هنري طافوايو وجان فرنسوا برونشتاين، على نشر “مرصد فك التبعية الكولونيالية والأيديولوجيات الهووية” يندّدون فيه بـ”حملة هووية غير مسبوقة داخل التعليم العالي وميادين البحث”، ويحذّرون مما أسموه “النسبوية المتطرفة” التي تختفي وراء تلك البحوث، حيث صارت المعرفة حسب رأيهم “محصورة في رهانات نفوذ، وصارت العلوم مدانة باستمرار بدعوى أنها قائمة على هيمنة العرق والثقافة والجندر”، وندّدوا بـ”ظواهر حظر وترويع وتفرقة سياسية خلقت خطوط فصل غير مسبوقة، جعلت كثيرا من طلاب الدكتوراه مجبرين على اتباع أساتذتهم مخافة حرمانهم من وظائف في مراكز البحث”. وأكدوا أن إيمانهم بضرورة مقاومة التمييز العنصري داخل مجتمعهم هو الذي يحدو بهم إلى ضرورة مقاومة “هذه الأشكال الجديدة من التعصّب”، ذلك أنهم يعتبرون أعمال زملائهم نوعا من العرقية المعاكسة.

سمية المستيري: الغربيون يعتبرون أنفسهم رحل حضارة وما عداهم فلكلورسمية المستيري: الغربيون يعتبرون أنفسهم رحل حضارة وما عداهم فلكلور

والمعروف أن دراسات فك التبعية الكولونيالية هي مدرسة فكرية تعتقد أن القوى الاستعمارية السابقة لا تزال تمارس نفوذها وهيمنتها على مستعمراتها القديمة برغم حصول تلك المستعمرات على استقلالها، وهي دراسات ظهرت أول مرة مع نشأة جمهوريات في أميركا اللاتينية بعد استقلالها عن إسبانيا والبرتغال، فقد رفض أهم منظري تلك المدرسة الفكرة القائلة بأن نهاية الإدارة الكولونيالية وتأسيس دول قومية في أميركا الجنوبية خلقا عالما ما بعد كولونيالي فكّ ارتباطه بالاستعمار. فهم يعتقدون أن التقسيم العالمي للعمل بين المركز (أوروبا) والأطراف (بلدان أميركا اللاتينية وأفريقيا) وأن التراتبية العرقية للشعوب التي كانت قائمة طوال قرون من الاستعمار لم يتغيرا من حيث جوهرهما بنهاية الاستعمار. وكان باحثون مثل الكولومبي ساتياغو كاسترو غونيس والبورتوريكي رامون غروسفوغيل قد بيّنا كيف أن المنظمات العالمية، كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، هي من بين الأدوات التي جعلت للإبقاء على بلدان الأطراف (دول الجنوب بعامة) في وضع تبعية. فالرأسمالية في نظرهم ليست مجرد منظومة اقتصادية أو ثقافية، بل هي شبكة نفوذ شمولي، تُدمج عن طريق إجراءات اقتصادية وسياسية وثقافية، فيتم بذلك ترسيخها.

تلك الدراسات تهدف إلى إبراز علاقات الهيمنة، الظاهر منها والباطن، في تصوّر النظام العالمي لدفع المناطق التي تخضع للاستعمار الحديث بتحقيق استقلالها الذاتي. ولكن نقدها لا يتوقف على العلاقات الاقتصادية التي يمكن أن تقوم مباشرة بين بلد استعماري قديم كالبرتغال ومستعمرة سابقة كالبرازيل، بل يتعداه إلى علاقات الهيمنة بين البلدان الأوروبية والأميركية الشمالية والبلدان الخاضعة لها اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا من خلال نظام استعماري حديث. كما أنها تتوقف عند هيمنة أخرى هي الهيمنة الداخلية، أي أن يوجد في البلد الواحد قوى مهيمِنة وفئات مهيمَن عليها، كما هو الشأن في الولايات المتحدة حيث يقع تهميش السّود وسكان البلاد الأصليين.

جان بورغار غوتال: علاقات الهيمنة لا تزال موجودة بشكل أو بآخرجان بورغار غوتال: علاقات الهيمنة لا تزال موجودة بشكل أو بآخر

تلك البادرة ليست سوى حلقة من حلقات الحرب الفكرية الدائرة رحاها بين الداعين إلى الكونية وخصومهم ممثلي دراسات فك التبعية الكولونيالية. فالفريق الأول يعيب على خصومه خلطهم السياسة بالعلم، في سعيهم لإعادة بناء راديكالي يعتمد وجهة النظر وحدها، مثلما يعيب عليهم إسقاط المقاربات الأميركية على الواقع الفرنسي، حيث ينظرون إلى العلوم الأكثر موضوعية من زاوية هوية جنسهم وعرقهم، لأن المشكلة الأساسية في تلك المقاربات أنها تقوم على فرضيات يرفض أصحابها تحليلها والتأكّد من صوابها، فهي ترفض العامل البيولوجي في التمييز بين الرجل والمرأة، ومن يجرؤ على الحديث عن فوارق بين الجنسين يعدّ ذكوريا وعنصريا، لأن الجسد في تصورها مبني اجتماعيا، دون اعتبار ما توصل إليه الأطباء وعلماء الأمراض العصبية. بل إن جان فرنسوا برونشتاين، المتخصص في التاريخ وفلسفة العلوم، يؤكد أن الوضع اليوم هو شكل من أشكال الليسانكية، وهي نظرية تنسب إلى تروفيم دينيسوفيتش ليسانكو (1898 – 1976) حين قسّم العلوم خلال الحرب الباردة إلى علمين، علم بورجوازي، خاطئ من أساسه، وعلم حقيقي هو العلم البروليتاري، وهي النظرية التي اتخذها ستالين ذريعة لمواصلة تصفيته للعلماء والمفكرين.

 ويعزو برونشتاين نجاح تلك الدراسات الهووية لدى الطلبة والباحثين إلى التظلم، أي أن من يقومون بدراسات عن الجندر يرومون من وراء ذلك أن يقولوا إلى أيّ حد يعاني بعضهم من الميز، فهم حسب قوله “يريدون أن يكونوا الضحية الأبرز: امرأة، سوداء، فقيرة، معوقة…” وهذا اليقين بأنهم ينطقون باسم الضحايا هو ما يجعل تلك الأيديولوجيات بالغة العدوانية.

أما الطرف المقابل، أي الأقلية المتهمة باستخدام الهوية لفرض دراسات ذات خلفية أيديولوجية، فيرى أن ميله إلى الجندر وفك التبعية الكولونيالية جاء ردّا على الأدوات التي توسّل بها “التنوع الثقافي الليبرالي” كالتمييز الإيجابي، لكونها مجرد ستار دخاني لحجب علاقات الهيمنة الحقيقية المسلطة على النساء وعلى غير البيض، في حين أن دراسات فك التبعية الكولونيالية تبين أن مشكل الهيمنة يخضع لمنظومة، وكان من الأجدر فهم منطلقاتها التي تؤكد أن الإحساس بالهيمنة ليس وجهة نظر ولا نزق طفل مدلّل، بدل إدراج المطالبات الهووية في خانة الطائفية والتفرقة.

جان فرنسوا برونشتاين: الدراسات الجديدة تنظر إلى العلوم الموضوعية من زاوية العرق والجنسجان فرنسوا برونشتاين: الدراسات الجديدة تنظر إلى العلوم الموضوعية من زاوية العرق والجنس

تقول المفكرة التونسية سمية المستيري، من جامعة تونس، إن في موقف برونشتاين شكلا من أشكال الكولونيالية الفلسفية، فهي تنتقد هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم حمَلة مهمة حضارية، والحال أن ما يميزهم هو براعتهم في تمرير رؤية مخصوصة عن العالم، يكون فيها الإنسان الغربي هو المسيطر، في إطار مجمَّل، يريدونه كونيّا، ما يعني أنهم يرتكبون حيفا إبستمولوجيّا، حيث كل فكر لا يتم التعبير عنه حسب مقاييس ومعايير الفكر الليبرالي والأكاديميّ لا يُعتدّ به لديهم، لأن المعارف المحلية، التي توصف بالأهلية، هي في نظرهم مجرد فولكلور عديم القيمة. فهم يستهينون بكل ما هو محلّي، ويزعمون أنهم يمتلكون معرفة كونية صالحة لكل زمان ومكان.

فكيف يمكن أن ينشأ حوار بين الطرفين المتعارضين؟ بالتخلي عن المركزية تقول المفكرة التونسية، بإقرار الطرف المقابل بأن تصوره للعالم هو خصوصية بدل تقديم وجهة النظر هذه كشيء كوني، والخير في أن يعي الخصوم هويتهم بدل انتقاد هوية الآخرين. فلكي يذهب المرء نحو الآخر ينبغي أولا أن يتحمل تجذره وموقعه، مثل بركار ينبغي غرز رأسه، أي هويته، قبل الانفتاح على الآخر. غير أن المشكل هو أن من يزعمون أنهم ضحايا عرقية معاكسة يرفضون هذا التشخيص الذي يظل أساس حوار ممكن، وإلا فسوف يبقى الجميع في طريق مسدود.

غير أن خلافات جوهرية تمنع مثل هذا الحوار، فالفريق الأول يقر بأن من الجيّد أن تستكشف الفلسفة موضوعات جديدة كالجندر والجسد والهويات، ولكن ما يزعجه هو الهويات الجامدة التي تفترض أننا لا ننتمي إلا لفئة واحدة، أضف إلى ذلك أنه يمكن أن يكون المرء أبيض مناهضا للعنصرية، وأسود عنصريا، كما سبق أن أوضحه ميشيل فوكو عن تعدد المعايير وإمكانية استخدامها، وهو ما ترفضه دراسات الجندر وفك التبعية الكولونيالية، كما يعتقد أتباع هذا الفريق. غير أن الفريق الثاني يؤكد أن الدراسات التي تعمل على استكشاف تقاطعات الهيمنة على اختلاف مستوياتها (النساء، السود، الفقراء…) تشيّئ الهويات لكونها عاجزة عن تحسس الفروق الكامنة داخل الفئات، نظرا لوجود مهيمنين ومهيمَن عليهم داخل الفئة الواحدة. ولا بدّ حينئذ من إخضاع الهوية إلى نقد ذاتي مستمر. وهذا ما لا يوافق عليه الفريق الأول.

رامون غروسفوغيل: المنظمات العالمية جعلت للإبقاء على تبعية دول الجنوب للدول الاستعماريةرامون غروسفوغيل: المنظمات العالمية جعلت للإبقاء على تبعية دول الجنوب للدول الاستعمارية

أما الذين يقفون خارج هذا الصراع، مثل عالم الاجتماع جان لوي فابياني، فيرون أن فئة قليلة من الباحثين الأكاديميين تسعى إلى الاتكاء على مبدأ “اليسار الإسلاموي” في القيام بنقد راديكالي للتحولات الحديثة في مجال البحث، تقابلها أغلبية تعتقد أنها تواجه ظاهرة شبيهة بالماكرثية، والحال أن النزاع قائم على سوء تفاهم. فلئن كان اليسار الإسلاموي حقيقة، فإنه لا يخص سوى العمل السياسي، وهذا لا وجود له في الساحة الفرنسية حسب فابياني، بل في بريطانيا حيث اقترح كريس هارمان عام 1999 في كتابه “النبي والبروليتاريا” تحالفا استراتيجيّا بين الإسلام السياسي والتروتكسية التي لا وزن لها تقريبا في ذلك البلد، بيد أن الفكرة القائلة إن المهيمَن عليهم حقا هم المسلمون، ولا بدّ من استعمالهم كرؤوس حراب في الصراع من أجل الانعتاق، ما انفكت تنتشر ولكن دون أن تطغى على اليسار. أما في فرنسا فقد كانت نتيجة مساندة “الحزب الجديد المناهض للرأسمالية” لمرشحة مسلمة محجّبة في مدينة أفينيون خلْقَ خلافات في داخله وانتقادات من خارجه أساءت كلتاهما إليه. أي أن هذا التيار له حضور سياسي ولو مهمّش، ولكن القول بأنه تسرب إلى الوسط الأكاديمي مبالغ فيه، بل هو ادّعاء باطل، والجدل الحامي الذي يحتل صدارة وسائل الإعلام يمنحه حضورا افتراضيا لا يحظى به على أرض الواقع.

هذا الصدع بين دعاة الهوية وأنصار الكونية يمكن أن ينظر إليه بطريقة أخرى، كما يفعل عدة باحثين شبان ولعوا بمواضيع بحث جديدة، قادمة من الولايات المتحدة في معظمها، على غرار الفرنسية جان بورغار غوتال التي أجرت بحثا استغرق سبع سنوات عن الإيكولوجية النسوية، تلك الحركة، التي ربطت البيئة بقضية المرأة، ظهرت خلال سبعينات القرن الماضي في إطار الثقافة الأميركية المضادة، وكانت غايتها البحث عن التوافق بدل تعزيز الحدود الفاصلة، لأن “خط الفصل كما يقول التشيكي فاتسلاف هافيل لا يوجد بيننا وبينهم، بل يوجد في قلب كل رجل وكل امرأة”، فالمرأة البيضاء من الطبقة المتوسطة، المهيمن عليها داخل العلاقات الجندرية، يمكن أن تمارس هيمنتها على أشخاص آخرين، كخادمة المنزل أو العاملات الصينيات اللاتي يصنعن ثيابها. فما يهمّ جان بورغار غوتال هو الحرص على عدم خلق كتل تتصارع، لكن دون أن ننكر أن علاقات الهيمنة لا تزال موجودة، بشكل أو بآخر.

  • عن مجلة الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *