ابراهيم عادل
في روايتها الأولى التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب 2014 (فرع المؤلف الشاب) تقدِّم الروائية والناقدة “مايا الحاج” صورة مغايرة للمرأة مختلفة عما اعتدناه، وما كانت تقدمه الروايات والقصص العربية، حيث تحكي في رواية “بوركيني” عن فنانة تشكيلية يأتي تمردها مخالفًا لبيئة مجتمعها “المتحررة”، فتختار أن تكون الفتاة “المحجبة” بقناعة خاصة وكاملة، وتواصل دراستها للفن ورسم الأجساد حتى لو كانت عارية، حتى تمر بذلك الموقف/الحدث الذي يقلب أفكارها رأسًا على عقب ويجعلها تعيش في جحيم التساؤلات لتخلص إلى نهاية تراها مرضية.
قسِّم “مايا الحاج” روايتها إلى سبعة أقسام تدور فيها أحداث الرواية على لسان البطلة ومن خلال استخدام تقنية “تيار الوعي” التي تعتمد على تعبير البطل/ الراوي عن نفسه من خلال “مونولوج”-حوار داخلي- طويل يكشف لنا شيئًا فشيئًا عن طبيعة هذه الفنانة وحياتها، مما يجعل القارئ شريكًا لها ولمشكلاتها وأسئلتها التي تفرض نفسها على المواقف والأحداث التي تمر بها تلك البطلة.
وتبدو الراوية/البطلة وكأنها تقدم “اعترافاتها” الخاصة جدًا بطريقة حميمية وكاشفة، ولعل أكثر ما يميز هذه الطريقة واستخدامها هنا في الرواية أنه على الرغم من قلة “الأحداث” إلا أن القارئ يظل مشدودًا إلى ما يدور بنفسية البطلة منتظرًا الخطوة التالية أو الموقف التالي الذي يشعر معه طوال الوقت بأن ثمة مفاجأة تختبئ بين كل هذه التفاصيل.
وقد يبدو عنوان الرواية غريبًا، إلا أن البطلة تشير إليه وتوضح معناه وكيف يأتي معبرًا عن شخصيتها بجلاء:
( لو أردت أن أضع لهذه الحياة التي أعيشها عنوانًا لما وجدت أفضل من “بوركيني”، ذاك الاسم الذي اشتقته أسترالية مسلمة من كلمتين متناقضتين “برقع” و”بيكيني” لتطلقه على زي سباحة صممته لنفسها ولكل امرأة يمنعها حجابها من مرافقة أصدقائها وأسرتها في رحلاتهم البحرية.
وكم شاهدت هذا البوركيني (البيكيني الشرعي) لدى صديقات لي محجبات يعشن في بلدان لا مسابح نسائية فيها. لكنني لم أستطع أن أتصور نفسي أرتديه يومًا. فإما البيكيني في مسابح النساء وإما لا نزول في الماء. فما أحب في السباحة هو أن يغمرني الماء وتتلألأ حباته على جسدي. أنا أعيش فعلا بين عالمين.. بين ملابسي المحتشمة وأفكاري المتحررة.. بين حجاب رأس يغطيني وأجساد عارية تستهويني.. بين البرقع والبيكيني)
هكذا يبدو الأمر بكل بساطة وشفافية أمام الراوية والقارئ على حد سواء، نحن إزاء ذلك النموذج المختلف، والذي تختار صاحبته عن قناعة تامة أن تخوض تجربة التناقض الظاهري، بداية من عائلتها الصغيرة المتحررة التي يشرب أفرادها الخمر، ولكن تلك القناعات تنهار فجأة وتتخلخل بقوة، بمجرد دخول امرأة أخرى ساحة المنافسة مع حبيب البطلة وخطيبها وحلم زواجها المقبل، تشتعل نار الغيرة في قلبها بمجرد مقابلة حبيبته السابقة “غير المحجبة”، بالطبع تستعيد البطلة فجأة أسئلة السفور والحجاب، وأيهما أفضل للمرأة من وجهة نظر الرجل “الشرقي” خاصةً
ما قيمة امرأةٍ دون جسدها؟ هل الأنثى تظل أنثى بلا شعرٍ يطير وخصرٍ يميل؟ أنا لا أعلم ماذا يقول الناس عني لكني أشعر جيدًا أن ما أبدو عليه لا يشي حتى بأنني ظل امرأة.. عليَّ ألا أفكر بها الآن. هو، هل يحبني؟ أم أنه انتقم منها بي؟ أم أن فضوله دفعه إلى اكتشاف غموض المرأة المحجبة بعدما اختبر عشق المرأة المتحررة؟ لاشك في أنه يجدها أجمل مني بكثير، وربما لم يجدني جميلة أصلاً فهو لم ير من أنوثتي شيئًا، ربما أكون نوعًا جديدًا رغب في اكتشافه، وسيفقد شغفه بي بعد أن أغدو متاحة له…. يبدو أني لم أتخلص من شعور الأنثى التي فيَّ .. )
يستمر هذا الصراع الداخلي ويكبر، لا يتوقف عند لحظة المقابلة تلك التي يبدو أنها مرت بسلام، ولكن الأفكار لا تترك صاحبتها التي يفترض أنها تعد لمعرضها الأول بعد أيام، فتفكِّر بطريقة الأنثى كيف تجذب حبيبها وزوج المستقبل إليها مرة أخرى، كيف تكشف له عن نفسها كأنثى تمتلك كل المقومات وتستحق أن يضحي بكل شيءٍ من أجلها!
( اعتقدت أنني بحجابي سوف أخدِّر مشاعري الأنثوية حتى يبقى شعوري بفني هو الأقوى، لكنني اكتشفت الآن متأخرة أن استئصال الأنثى من دواخلنا.. هو أمرٌ غير ممكن، المرأة تظل فينا حيَّة وإن خنقناها بألف وشاح!)
لا يتوقف الأمر عند الحجاب فحسب، بل تحوي الرواية على عدد من وجهات النظر الفنية بما أن البطلة فنانة مهتمة بشكل أساسي برسم “الأجساد” وليس لديها أي غضاضة فيما يخص رسم الأجساد “العارية” فتناقش من وجهة نظرٍ فنية علاقة الالتزام بالفن والجمال
( اعتدت رسم أجساد الموديلات واحترفت إظهار مكامن الجمال فيها، وكانت الأجساد المثالية تخلق لديَّ رغبة عارمة في أن أحولها إلى مادةٍ للوحاتي)
كان عليها أن تواجه المجتمع المتحرر طوال الوقت، فتقف في لحظةٍ فارقة تناقش نفسها وتفكِّر في كل مسلماتها وقناعاتها وتعرضها مرة أخرى للتمحيص:
(رسامة مجنونة ومحجبة؟ ماهذا التناقض الغريب؟ هذه الاستفهامات لا أعرف سببها حتى الآن، فالفن والثقافة وجدا كي يغيرا المفاهيم المعلَّبة ويقلِّبا الأفكار الجاهزة، لماذا إذًا لا نقبل الفن إلا من هو على صورتنا؟ فلنفترض أنني التزمت بشريعةٍ وتمسكت بممارساتٍ -لا تضر أحدًاـ خوفًا من مجهولٍ ما، لماذا لا يتقبَّل الآخر خيار الإنسان الآخر وعقيدته؟ لماذا لا يحترم المثقف التزام المؤمن وخوفه؟ الفنون تمنح المعرفة ولكنها لاتنزع من قلبك الخوف، ولاتمنحه الطمأنينة!)
لا تجيب الرواية عن الأسئلة والصراعات الداخلية الكثيفة التي أطلقتها، وإنما تترك القارئ في عاصفةٍ من التساؤلات حول رؤيته للمرأة والفن والجمال وعلاقة الدين والالتزام بالحياة والحرية وما يشوب ذلك من مفاهيم متعارضة وأفكار مختلفة، وكيف يواجه المرء مجتمعًا مختلفًا معه بهذا القدر، وهي وإن كانت تعرض طوال الوقت وجهة نظر الفنانة الملتزمة في عالمٍ متحرر فإنها ولا شك تنكأ جراحًا عديدة في المجتمعات التي تحرص على التزامٍ ظاهري فيما هي تتعامل مع الفن والحرية بكل قسوة!
التقرير