ليلة القبض على (واو)

( ثقافات )

*وفاء خرما

وقفت الروح (واو) في قلب مدينة نيويورك مندهشة أمام بناء مستطيل مرتفع من حجارة زرقاء خالف أبنية المدينة الخشبية بأشكالها الكوخية. دارت (واو) حوله فوجدت نفسها أمام واجهته . رفعت رأسها فقرأت : (فندق السجن السياحي) . اقتربت لتقرأ سطوراً محفورة على جدار الواجهة : بني هذا السجن بتاريخ ….. والغي بتاريخ ….. وأعدَّ ليكون فندقاً سياحياً.. أهلاً بكم .

تسللت الروح (واو) إلى الداخل مدفوعة بفضول متسائل : ما الذي يفعله أصحاء جسم وعقل ينزلون راغبين في فندق كان سجناً ، وفي غرف أقام فيها سجناء معذبون ؟ !

اجتازت الردهة … صعدت السلّم … فواجهها ممر طويل على جانبيه غرف كثيرة ، كما في كل الفنادق الحقيقية ، سوى أن أبوابها من حديد ، برز على سطح كل منها، برغم قذارته ، رقم ما .

اخترقت الروح (واو) بعض الأبواب وإليكم مارأت :

في الغرفة رقم (7) وقفت أو جلست مجموعات من رجال ونساء إزاء جدران كالحة يقرؤون بتأثر وانتشاء ابياتاً شعرية درزت حروفها هناك . وكانوا كل حين يتبادلون القراءة على الجدران الأربعة . في الغرفة رقم (19) عقد النزلاء مسرحاً وكانوا يؤدّون أدوارهم بحرارة ، يسعفهم حين تخونهم الذاكرة ، فريق من الملقنين يهرعون إلى الجدران التي زرعت بكلمات المسرحية . شاب زائغ النظرات مضطربها شغل على بعد يسير منهم ، بحقن ذراعه بمادة ما. وفي الغرفة رقم (80) كانوا يلعبون الورق ويتصايحون ، وإذ عمد غاضب إلى تمزيق الورق نتفاً ، ضربه آخر متهماً أياه بإتلاف ورق ثمين تداولته أيدي السجناء طويلاً . الضجة لم تحرك رجلاً وامرأة غابا في قبلة عميقة برغم أيديهما المكبلة بالقيود . في الغرفة (118) اتخذ فريق من النزلاء دور جلادين ، وفريق آخر دور السجناء ، فتعالت ضربات السياط ، وتأوهات المضروبين وهم يتلوون ألماً . رجل بلحية طويلة وشعر منفوش اعتزل مكاناً في زاوية الغرفة ، يصنع على ورق رسوماً يستوحيها ـ كما بدا ـ من خيوط العنكبوت المعلقة ومن لطخات دماء تحتها جافة حائلة اللون .

وعند الغرفة (220) أصمّ اذنيها ضحكات هستيرية وقهقهات غريبة كأن هناك أسوداً تزأر أو خيولاً تصهل . همّت بالدخول ، فأمسكت يد قوية بالجسم الأثيري لـ (واو) .

– ماذا تفعلين هنا ؟

– أتفرج على المكان .

– أين بطاقة الدخول ؟

– ليس معي واحدة .

– تعالـــي …

سيقت الروح (واو) إلى مدير الفندق . ارتجفت هلعاً وهي تسمع التهمة التي قذفها بها ثم وهو يؤكد في برود أنها ستحاكم محاكمة سريعة لن يكون فيها مصيرها أقل من الموت .

فقدت للحظات قدرتها على النطق ، لكنّها مدفوعة برعبها ، بدأت الكلام متعثرة في البداية، ثم في طلاقة وقوة :

– اسمع .. أنا … أنا روح .

– هذا لايغيّر في الأمر شيئاً .

– كنت في بلادي سجينة .

– معلومة لاتعنيني في كثير أو قليل .

– رُميتُ في زنزانة وسعتني جالسة ولم تسعني واقفة .

– ماذا ؟

– وانتهيت إلى العواء … عويت طيلة نهاري وجزءاً من ليلي إلى أن توقف عذابي بالموت ؟ .

– متِّ هناك في تلك الزنزانة ؟

– لم أخرج منها على الإطلاق .. نزعي الأخير تجسّد في عواء ضعيف خافت لم ينقطع إلاّ مع انقطاع خيط الروح .

هتف وهو يصفق فرحاً : يا إلهي … أنت ألقية !

* * * * *

اشترط مسؤولو فندق السجن السياحي لإطلاق سراح (واو) أن تقيم في فندقهم لأسبوع واحد في زنزانة منفردة ، يبنونها وفق مقاسات ومواصفات تمليها عليهم . وقد تضمن هذا الشرط أن يعرّضوها في داخل هذه الزنزانة لكل ماتعرضت له هناك في حياتها الماضية .

وافقت (واو) كي تنجو بروحها ، فرتبوا معها جلسة طويلة أقسروا فيها ذاكرتها على ضخ كل تفصيل وطريقة وفن من تفاصيل تعذيبها اليومي وطرائقه وفنونه آنذاك .

وهكذا جُلدت (واو) من جديد في زنزانتها الثانية ، بسياط لاهبة … اقتلعت أظافرها… اطفؤوا اعقاب سجائرهم في جسدها … ساقوا إليها لحماً فاسداً ومرقاً كريهاً بصقت منه حصيات فرشت الأرض تحتها … كتموا أنفاسها بنتن فضلاتها … وفي كل ليلة كانوا يسحقون كومة عظامها بحيوانية شهواتهم .

مددوا إقامتها في الزنزانة إلى أن عوت !

* * * * *

خرجت (واو) ففوجئت لدى خروجها ، بردهة الفندق تحتشد بأناس جاؤوا جميعهم يحجزون للإقامة في زنزانتها . بعضهم أغري بما سمع من نزلاء جاوروها ، كما جذب بعضهم الآخر شاشة عملاقة في صدر الردهة بثّت صور تعذيبها مقرونة بصرخاتها ، متوجةً بمشهد تبدو فيه تدب على أربع وهي تعوي !

إزاء هذا الإقبال غير المسبوق على (فندق السجن السياحي) غمر الفرح قلب صاحب الفندق ، فأمر بتكريم (واو) !

انشؤوا لها نصباً تذكارياً ركزوه على سطح زنزانة صغيرة بحجم قبر ، ووضعوه في المدخل الفسيح للفندق وسط حفل وداع رائع أقيم لها . لكنّ (واو) اختفت وسط دهشة الجميع، اثناء الاحتفال ولم يعثر لها على أثر !

أفاد قادم من بلادها البعيدة أنه رآها تهوّم في فضاء مقبرتها ، كما أكدَّ آخرون أنهم رأوها تتسلل إلى نصبها التذكاري فتستوطنه !

_________

*قاصة سورية.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *