* لطفية الدليمي
القسم الأوّل
« … كان منتصف الليل يمثلُ لي نوعاً من الغروب ، وغالباً ماينتهي الفجرُ وأنا في غمرة العمل إلى قدوم الصباح .
أسدلتُ ستارة الجدّ على كلّ ماله صلة باللهو ؛ فماعدتُ أجدُ نفسي إلا ساهراً أمخرُ عباب القراءة والتأليف . أخذتُ بهذا النهج خلال انصرافي لكتابة الصيغة الأولية لأطروحة السرد العربية التي بدأتُ بها في الساعة الثانية عشرة من ليلة الخميس 3/ 8 / 1989 وانتهيتُ منها في الواحدة والنصف من ليلة الجمعة 12 / 10 / 1990 …….»
الدكتور عبد الله إبراهيم
موسوعة السرد العربي
سيرة كتاب
عندما وصلتني نسخةٌ من آخر كتب الدكتور عبد الله إبراهيم ( موسوعة السرد العربي : سيرةُ كتاب ) ألفيتُني أقرأ وأواصلُ القراءة حتى أنهيتُ الكتاب في ثلاث جلسات إمتدّت كلّ واحدة منها من منتصف الليل وحتى مطلع الفجر ! لن أدّعي أنني أقرأ في أيامي هذه بعد منتصف الليل بل أجعلُ ساعات قراءتي الحقيقية تمتدُّ من الفجر وحتى الثامنة صباحاً في العادة ، ثمّ أشرعُ بعد هذا في عملي الكتابي أياً كان ؛ لكنّ ستراتيجيتي في القراءة عندما كنتُ في بيتي البغدادي كانت تمتدّ في العادة من منتصف الليل وحتى أوّل انبثاق الغبش من كلّ فجر جديد . كانت قناعتي أنّ هذه الساعات هي الساعات المباركة التي يحظى فيها المرء بقدر كافٍ من الخلوة الكونية التي يزيدها سحرُ الليل وسكونه جمالاً فوق جمال وقدرة على إستجماع القدرات المخبوءة في العقل وجعلها أفكاراً رائقة مكتوبة بصيغة ترقى لمرتبة التأثير في الآخرين وحثّ مكامن السحر الدفين في العالم لديهم ، واستجلاب أنظارهم نحو أفكار ماخطرت لهم من قبلُ أو – ربما – جاءتهم مشوبة بقدر غير يسير من التشويش الذي يثلم قدرتها على الإدهاش والإمتاع .
ليست هذه هي المرة الأولى التي أكتبُ فيها عن مؤلٍّفٍ للدكتور عبد الله إبراهيم ؛ فقد سبق لي أن تناولتُ عمله الأفخم ( موسوعة السرد العربي ) بمقالة ، ثمّ أعقبتُها بمادة مطوّلة عن سيرته الذاتية ( أمواج ) التي أحسبها واحدةً من أكثر السير الذاتية التي قرأتها مقدرة على حثّ عناصر الإمتاع والمواظبة على القراءة بين السير العربية والعالمية ، ثمّ كتبتُ مقالة ثالثة تناولتُ فيها كتاب ( أعراف الكتابة السردية ) .
كلّما قرأتُ كتاباً جديداً لعبد الله إبراهيم ( دعونا من الألقاب ؛ فالرجل أكبر من « دكتور « بكثير ) أجدني مدفوعة للكتابة عنه ، وتسويغي لهذه الظاهرة هو قناعتي بأنّ الإعلان عن المنشورات الرصينة ورعايتها بما تستوجبُ من اهتمام بحثي وقرائي على أوسع الأنطقة إنما هو بعض الواجب المستحقّ للكاتب المُجوّد في عمله من جهة ، ومجلبةٌ لنظر القرّاء بأهمية العمل من جهة أخرى ، ولستُ أجافي البداهة الانسانية وصحيح الرأي إذا ماقلتُ أنّ الكتابة الطيبة عن كلّ جهد بحثي ( وبخاصة إذا مااقترن بخصيصة المبحث العابر للأنساق الثقافية ) هي بعضُ الإعلان عن الشكر المستوجب لصاحب المبحث بقصد ردّ بعض الجميل له ومؤازرة عضده نحو مباحث جديدة تتسابق نحو الأعلى في مراتب المعرفة الانسانية .
أعادتني قراءة سيرة موسوعة السرد العربي إلى أيام خاليات إعتزمتُ فيها قراءة الموسوعة النقدية الرائعة التي كتبها أحدُ أكابر المؤلفين الأحب إلى نفسي وذائقتي الأدبية : رينيه ويليك Rene Wellek ، وأعني بالموسوعة النقدية الأجزاء العديدة من كتابه ذائع الصيت عالمياً ( تأريخ النقد الحديث A History of Modern Criticism ) الذي شرع ويليك بنشر جزئه الأول عن جامعة ييل الأمريكية منذ أواسط القرن العشرين ، وواظب على نشر الاجزاء الاخرى في مدى عقود ثلاثة لاحقة . كتابة ويليك أشبه ماتكون بشلال منعش من الأفكار تنهمر على القارئ الشغوف انهماراً ، والقارئ يستزيد في القراءة وهو غاطسٌ في الدهشة والمتعة . هكذا تفعل الأعمال الأصيلة في روح القارئ وعقله ، ولاأحسبُ سيرة موسوعة السرد العربي لعبد الله إبراهيم – وموسوعته كذلك بأجزائها التسعة – إلا مماثلة لتأريخ ويليك النقدي الحديث من حيث قدرتها على تحفيز روح القارئ وعقله ، ودفعه للإستزادة من الجهد البحثي في جذور السرد ومنابعه الأولى ، وعلاقاته المؤثرة مع ضروب المعرفة المعاصرة ، وقدرته الفائقة في تشكيل العالم الحديث باعتبار أنّ السرد هو الفعالية الثقافية الأكثر شيوعاً لدى البشر .
لو أراد القارئ إجتناء الفائدة الأعظم من قراءة كتاب عبد الله إبراهيم ( موسوعة السرد العربي : سيرة كتاب ) المنشور مطلع سنة 2021 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ؛ فعليه قراءة السيرة الذاتية ( أمواج ) التي تمثلُ سيرة ذاتية للكاتب أرادها أن تختصّ بالمؤثرات الإجتماعية والبيئية العامة ( بل وحتى الحسية ! ) التي شكّلت عبد الله إبراهيم وجعلته على الهيأة التي إستحال إليها اليوم ؛ أما هذه السيرة ، سيرة كتاب موسوعة السرد العربي ، فقد جعلها الكاتب مقصورة على المؤثرات الفكرية والمعرفية المركّبة التي وضعت بصمتها الثقيلة على مشروع عبدالله ابراهيم الذي أراده أن يكون مشروع حياته الأكبر : السرد العربي كتيار عريض مع كلّ الروافد الجانبية التي تصبُّ فيه . ليس مطلوباً من القارئ أن يكون قرأ الكتب الثمانية للموسوعة فضلاً عن الكتاب التاسع الذي جاء فهرساً شاملاً ومسرداً موسّعاً للمراجع البحثية – التي تاخمت الألف – للموسوعة ؛ فنحنُ هنا إزاء عمل يلامسُ تخوم الموسوعية البحثية والموضوعاتية بعد أن جاوز الاربعة آلاف صفحة ضمّت مايقربُ من السبعمائة ألف كلمة ؛ لكن سيكون أمراً طيباً ومحموداً في كلّ الأحوال لو توفّر القارئ على شيء من دراية مسبقة بطبيعة كلّ موضوع . لابأس هنا أن أشير لحقيقة أنّ هذا المشروع البحثي إمتدّ على مسافة زمنية لاتقلُّ عن الثلاثين سنة في كلّ الأحوال ، وهذه الثلاثون زمنٌ ليس بالقليل ، ولابدّ أن نتوقّع فيه مخاضات وصراعات فكرية بين الكاتب وذاته ، وبين الكاتب وموضوعاته البحثية ، وبين الكاتب ورؤيته للعالم ، وأحسبُ أنّ هذه الصراعات قد فعلت فعلها في عقل عبد الله إبراهيم بأكثر مما فعلت مع سواه لأسباب كثيرة منها أنه جعل موضوعة السردية العربية مشروعه الأكبر في الحياة ، ومعروف أنّ هذه الموضوعة حقل شائكٌ بسبب احتكاكها الحاد مع جنباتٍ في الحياة الفكرية العربية ذات طبيعة تختصُّ باللاهوت الفقهي ومعضلات الثقافة الشفاهية وعلويتها في الثقافة العربية إلى جانب المعضلات التأويلية في التفاسير القرآنية والأحاديث النبوية ، فَعَلَ عبد الله إبراهيم فعلاً طيباً عندما نشر بعض أجزاء الموسوعة بصيغة كتب مفردة خلال هذه السنوات الثلاثين ، كما كتب الكثير من المقالات – المنشورة في صحف مرموقة – والتي إستفادت من المادة البحثية للموسوعة ، وقد جاءت هذه الكتب والمقالات أقرب إلى « بروفات « تجريبية أضاف لها الباحث مواد لاحقة ، كما عدّل فيها تصويباً واستزادة من المادة البحثية ، وهذا كلّه مصداقٌ للقول بأنه جعل « السردية العربية « موضوعة تمحورت عليها حياته كلها ، وماأحسبه إلا مخلصاً لهذا المشروع بأجلى ماتكون شواهدُ الإخلاص لدى البشر .
عندما يقرأ المرء كتاباً لعبد الله إبراهيم يتوجّبُ عليه أن يحتفظ بقلم ودفتر ملاحظات لكي يسجّل عبارة هنا أو سطراً هناك ، وتتعاظم مناسيب هذه الحاجة إذا كان المرء باحثاً في حقل الدراسات السردية أو الثقافية العامة أو شغوفاً بالتفريعات المعرفية المتصلة بالسرد ؛ فنحنُ هنا إزاء طوفانٍ من الأفكار والمفاهيم والتسويغات والمسالك الفكرية غير المطروقة في بعض الأحايين ، ويحصلُ في العادة معي عقب انتهائي من كلّ قراءة لكتابٍ من كتب عبد الله إبراهيم أن تتكدّس عندي ملحوظاتٌ ليست بالقليلة أبداً . تفيد هذه الملحوظات في تثبيت الأفكار الجوهرية ، كما تعملُ كخارطة طريق تخدمنا عندما نقاطعُ هذه الافكار مع أفكار سواها أو حتى مع أفكار مقاربة لها وردت في مقاربة سياقية مختلفة في ذات كتاب سيرة الموسوعة أو في متن الموسوعة ذاتها .
كثيراً ماتفكّرت في الحقيقة التالية : لِمَ أنجز عبد الله إبراهيم موسوعته الفريدة دون سواه ؟ نعم ، هو تخرّج أولاً على دفعته في قسم اللغة العربية بكلية تربية بغداد بعد تنقّل غرائبي من أقسام القانون إلى اللغة الانكليزية ثم العربية ، وفي جامعات عراقية شتى ( بل وحتى مصرية ) ؛ لكنّ هل أنجز كلّ أوائل الجامعات مثل ماأنجز ؟ وهل تعامِلُ الجامعات الخصائص البحثية الراقية لدى الطلبة بالرعاية الكافية حتى تزدهر ؟ سأقول من غير تردّد أنّ أنساقنا التعليمية لم تكن مؤهلة يوماً لتخليق بحّاثة ذوي قدرة غير معهودة أو مألوفة في جامعاتنا ، وتتعاظم شواهد الركود والميل إلى الاستكانة البحثية والقبول بالسياقات المتبلّدة في حقل الدراسات الإنسانية ، وهذه سياقاتٌ يدفعُ ثمنَها الطالبُ المجتهدُ عنتاً وإرغاماً على الانضواء تحت لافتة ( تمشية الحال ) والقبول بالمهادنة الأكاديمية سعياً لبلوغ الطيبات في وظيفة الاستاذية الجامعية . قاوم عبد الله إبراهيم هذا الركود الاكاديمي بعناصر ثلاثة : إمتلاك مشروع بحثي يمتدُّ على العمر كله ، الإصطبار والمجالدة على العنت الجامعي من أجل بلوغ مراتب التفوّق التي ستتيحُ له الانطلاق في المضامير الأكاديمية من غير عوائق أكاديمية موهنة ومن غير التعكّز على لقب أكاديمي ، وأخرُ هذا المثلث هو الشغف : تلك المفردة السحرية التي لولاها لما كان في مقدوره المضيُّ في مشروعه بكلّ عزيمة وصلابة رغم كلّ المشقات التي إصطنعها بعض الأكاديميين إصطناعاً يقاربُ الرثاثة في أقبح تجلياتها .
جاءت موسوعة السرد العربي مبشرة بحيثيات معرفية محدّدة صارت بمثابة علامة دليلية لها ، وقد أفردتُ لها مساحة معقولة من المساءلة في مقالتي المعنونة ( عبد الله إبراهيم : رائد الدراسات السردية العربية ) ، وليس من ضير في إعادة تأكيدها هنا : تأصيل السردية العربية في إطار فضائها الثقافي ، علوية السرد على الشعر لدى العرب ( برغم إدعائهم أنّ علوم الدنيا – والسرد بعضُ هذه العلوم – فضلات ، العلمُ بها لاينفع ، والجهل بها لايضر ) ، عَنَتُ المرجعيات السياسية والدينية العربية تجاه الظاهرة السردية ، إعتماد التخيّل التاريخي بديلاً مسوّغاً عن الرواية التأريخية .
(يتبع القسم الثاني)
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
مقعد بابلو عبد الله*محمود شقيرخاص ( ثقافات )كاظم علي حزين هذا الصباح، لأن بعض الأمور لا تجري على…
-
عبد الله العروي: المثقف*سعيد يقطين هنيئا للأمانة العامة لجائزة الشيخ زايد لتفكيرها في منح جائزة الشخصية الثقافية لعبد…