*جمال القواسمي
خاص ( ثقافات )
في هذه المجموعة القصصية “أوهام أوغست اللطيفة،” للروائي مشهور البطران، عالم غرائبي يمسك واقعنا من نبع مخاوفه وأوهامه، من هشاشته وضعفه، من بيضاته وجبنه. يسيل الكابوس سردا في نسيج هذه القصص من الغلاف للغلاف، يظهر خافتا كمن ينتظر في القصة الثالثة عشر قصيدة لا تأتي أبدا، وچودو لا يأتي أبدا، ويتوهج في بشر مشرذمون كالراوي في قصة الرجل الجبار ذو العين الواحدة، وفي بعض الصور الصادمة مثل قصة ستائر، المكونة من فقرتين، حيث يحتفل بستائر بيضاء منشورة بملاقط على حبل غسيل، الستائر هي كل ما تبقى من البيت الغزي أمام دبابة إسرائيلية قصفته.
في الكتاب تبدأ القصة الأولى بفكرة راوي يتكلم بصيغة المتكلم؛ إذن، هي الأنا ساحة هذه القصص، الأنا والذات وعالمها الداخلي المعتم والمضيء؛ ليس غريباٍ أن الكتاب والقصة يبدؤها الراوي بفكرة عن الموت بل الموت الكابوسي:
اعْتَلَيْت النافذةَ لِأَرْمِي نفسي إلى الأرض، وحينَ نَظَرْت تحتي جَبنْت عن القفْزِ مِن هذا العلوِّ. وَمَرَّتْ بخاطري كَسَهْمٍ خاطِفٍ صورة رَجلٍ رَمى نفسَه مِن برجٍ شاهِقٍ اشْتَعَلَتْ بِه النِّيران. هل فَكَّرَ الرجل أنَّ الموتَ حطاما أفضل مِن الموتِ احْتِراقا؟ هل ظَنَّ أنَّه ربَّما يَنْجو لو قَفَزَ؟ لا أحدَ يَدْرِي، لكنْ مِنَ المؤَكَّدِ أنَّه رجلٌ شجاعٌ؛ لأنّه اخْتارَ الطريقةَ التي سَيَموت بها.
الأنا تريد أن تقاوم الرجل ذا العين الواحدة الذي يقضم أصابعه وأطرافه. عدوه رجل، ليس غولا بشعا ولا وحشا ولا كائنا سماويا خارقا، إنه رجل، إنسان من عجينة البشر مثلنا؛ أهو الاحتلال أم الذات أم الجبن نفسه؟ له عين واحدة فقط. أهي الحقيقة أم الكابوس؟ أهي السبب أم النتيجة؟ أهي السؤال أم الجواب؟ أهي فوهة المدفع أم القبر؟ في القصة ثمة سيخ، ثمة طعنة مستحيلة خارقة. ثمة بطولة منشودة للذات، فعل بطولي عجائبي…. :
“أستطيع القول الآن إنني امتلك سلاحا قويا إذا ما أحسنت استخدامه، اختيار اللحظة والمكان، وموقع الطعنة أمور تحدد مدى نجاح الفكرة. ولكني للأسف ما زلت أشعر بالخوف وأنه ينقصني كثير من التدبر والاستعداد.”
الأدب انعكاس للواقع، طبقة مجتزأة من الواقع، إرهاص أزلي بالتغيير، همه الإنسان والحياة والموت: الرجل الجبار ذو العين الواحدة يقضم أصابع الراوي كمكسرات شرقية، والراوي يقاومه بالسيخ، يطعنه في عينه. قصة قصيرة ناجحة واحدة تقول الكثير: يمكن أن تكون كتاب تاريخ ويمكن أن تكون فيلم رعب عن الاستعمار. لكن لماذا لم يكن عدو الراوي غولا؟ أو وحشاٍ؟ لماذا كان رجلا بعين واحدة: إنسان أعور!؟ لماذا هذا الأعور الجبار يريد الناس مبتوري الأطراف ومقطوعي الأصابع؟
بدأت القصة الأولى بفكرة الموت، انتهت القصة الأخيرة بفكرة حياة جديدة بعيدة عن القتل والدمار، هي دائرة تامة، مسار فلك مغلق، وحدة واحدة. بدأت بفكرة موت الراوي وانتهت بحياة جديدة ليست للراوي بل للآخر (أي الناشطة الإسرائيلية). أليس هذا منتهى الاغتراب!؟ بدل أن نتعاطف مع ضحية مثلنا، نتعاطف مع الآخر الإنسان الذي يخاف على نفسه، رغم انه ما زال يقبع منا أناس كثيرون بلا أصابع، ضريرون، مبتورو الأقدام، مبتورو الأرجل، أكتاع، عاجزون في كثير من العتمات.
لماذا أختار القاص مشهور البطران الأسلوب الغرائبي؟ لماذا لا يصف لنا الواقع كما نعرفه. لأننا نعرفه، ببساطة لا داعي لوصف شيء. ثمة اختلاف بين أن نعيش كابوسا مألوفا ولا ننتبه لوجوده وبين أن نقرأ واقعنا المقرف الذي نتهرب منه. هذه المجموعة القصصية سلسلة واحدة من الكابوس ذاته لكن في قصص، كل قصة هي عتبة من عتبات واقعنا الغرائبي ووعينا الضبابي تحت نير الاحتلال والتطهير العرقي والاضطهاد والتمييز الاجتماعي والجندري والاقتصادي والجغرافي والديني.
ورغم نجاح القاص البطران في رسم كابوسنا تحت نير الأوهام الحقيقية والواقعية، فقد وقع السرد أحيانا في ربقة العقل والمنطق وهما يتنافيان مع عالم الكوابيس واللامعقول؛ بالنسبة لسفر الناشطة الإسرائيلية عن فلسطين، نحن نتعاطف مع الناشطة وهذا التعاطف تعويض نفسي لنا حين نقدِّر لها أنها نأت بنفسها عما سيلحقه الاحتلال بها أو بنا من عذاب، ولكن هذا تعويض مخاتل لأننا لا نتعاطف مع أنفسنا المريضة، لقد تركنا رجلا مبتور الأصابع والأيدي ولا أحد يتعاطف معه، حتى هو نفسه لا يتعاطف مع نفسه. عقلانية الراوي في القصة الأولى هي إدانة عميقة وتحليل نفسي رائع: بعد أن يقتل الإنسان الوحش، يستنتج الراوي: “متعبا وفرِحا رحت أتأمل كل ما مضى، لقد كانت أوهامي وافتراضاتي المسبقة هي أكبر عدو لي، لقد آن الأوان كي أراجع كل شيء في حياتي”
ربما هي بارقة أمل، أو صحوة هنيهة أو دعوة لليقظة من هذا الليل الدامس وخراريفه القاتلة. متعبا وفرحا؟ كيف، أصابع مقطوعة، يديك ورجليك مبتورة!! ربما ببساطة نقول: عادي، هذا هو كابوسنا؛ أيادينا مبتورة ودمنا يسيل وفرحون أيضا! عادي جدا. في ثقافة المقاومة، نبارك باستشهاد أطفال وكبار قتلوا غدرا وغيلة واغتيالا وبدم بارد وعن مسافة صفر، ونوزع حلويات، وربما أيضا نزوج الشهداء ونحيل الجنازة إلى أعراس وأيام ملاح.
هذه المجموعة القصصية الجميلة تشاكس وعينا الضبابي فتشككنا بواقعنا وأحلامنا. تكفينا نظرة سريعة على شرفات القصص في عناوينها لنلمح عالمها الفانتازي الذي يحيك نسيجنا أو شراذمنا المأساوية: الجبار ذو العين الواحدة، الدمَّل، مسوخ، الطوفان، يدي اليسرى، الرجل الأزرق. هذه المجموعة القصصية ليست صور فوتوغرافية عن الواقع، بل فيلم أحسن مخرجه قصَّه وتقطيعه ورتقه ليرسم واقع أوهامنا وأوهام حياتنا.
___________
كاتب فلسطيني مقيم في القدس