موسى حوامدة *
( ثقافات )
(الإفتاء في الأمور من المزالق الصعبة التي يقع فيها كثيرون، للأسف، وإذا كان الافتاء في مسائل الفقه، والقضايا الشرعية، والأحكام الدينية من حلال وحرام، ومن زواج وطلاق، قد نيط بمؤسسة مستقلة قائمة بذاتها هي دار الإفتاء، التي تعد من أبرز المؤسسات الدينية في غير بلد إسلامي، فإن الإفتاء في المسائل الأخرى مثل الأدب من شعر وقصة ورواية لم ينط بمؤسسة مثل تلك المؤسسة، لذا ترك الحبل فيه على الغارب. فكل من يتقن استخدام الحروف الهجائية يستطيع -عندنا- الإفتاء في العويص، والدقيق، من مسائل الكتابة الأدبية شعرا ونثرا).
هذا كلام ناقد وأستاذ جامعي أكاديمي يدرِّس في الجامعة الأردنية، اقتبسته من مقالته، المنشورة في موقع “قاب قوسين”، http://www.qabaqaosayn.com/ وكي لا نوارب في الكلام، فالكاتب الذي كتب هذه المقدمة هو أستاذ دكتور إبراهيم خليل، والذي كدّس ما يربو على خمسين كتابا في النقد، لا أدري قيمتها الحقيقية ومكانتها الأدبية، لسبب بسيط هو أن الكلام السابق يدل على عقلية سلطوية قمعية ديكتاتورية، فالرجل يريد إرجاعنا لعصر الرقيق والعبيد، وعصر الوصاية، وهو يطالب بمؤسسة نقدية تشبه سلطة الإفتاء، لكي تحجر على عقول الناس، وتوزع بيانات الإفتاء النقدية، ونحن في عصر الحرية والتنوير والربيع العربي؟
يرمي د.ابراهيم تهمه جزافا، بلا ضوابط ولا منهجا نقديا واضحا، بل بكلام يتعمد فيه المسخرة من قضايا لو تأملها قليلا لاعترف أنها جديرة بالتوقف عندها، أو ناقشها نقاشا موضوعيا، من دون توجيه كلمات نابية وبذيئة، ومن دون استخفاف لمن انتقد محمود درويش سياسيا أو إبداعيا. ومن الواضح أنه لم يقرأ سوى صفحات قليلة من كتاب الباحث الفلسطيني أحمد أشقر، ولست في موضع دفاع عن الأشقر، فهو قادر على الرد، لكن الإستخفاف الذي مارسه د.ابراهيم ضد باحث فذ، تعمق في اللاهوت اليهودي، أكثر من عشرات ولا أقول مئات العرب من حملة الدكتوراة، غير جائز، ولا ينم عن احترام للعقل والبحث العلمي، مع أنه من أولويات الأساتذة في الجامعات، وليس ذنب أشقر، ولا غيره من الباحثين والكتاب العرب عدم معرفة الآخر بهم، فهذه مهمة المؤسسات والناس وليست مهمة الباحث الحقيقي والجاد.
كتب د. ايراهيم يقول حرفيا :
((أما حقيقة ما يظهر في شعر درويش فلا يختلف عن حقيقة ما يظهر، ويتجلى، في شعر غيره، وذلك معروفٌ منذ أقدم الأزمان، ومن سالف العصر والأوان. ولم يقلْ أحد من نقدة الأدب، أو جهابذة الشعر، أنّ هذا سرقة، أو اختلاسٌ، أوْ سطو. وباب السرقات في الأدب بابٌ معروف جدًا، وقد فصل القول فيه قدماءٌ، ومُحدثون.. ولكن من يتصدون للإفتاء في هذا المجال يغربُ عن بالهم، ويعزب عن أذهانهم، أنّ ما يأخذه الشاعر من أقوال الآخرين، يندمج في ثنايا القصيدة، ويذوبُ، ليصبح قولا جديدًا، فعلى سبيل المثال قول الشاعر المخضرم:
الحمد لله لا شريك له
من لم يقلها فنفسه ظلما
اقتبس الشاعر فيه الآية الأولى من سورة الفاتحة، وهو لم يقتبس لغرض السَرَقِ، مثلما يَقولون، ولكنه استخدمها فعلا في الدلالة على أنّه يحمد الله، وَيشكرهُ، وقياسًا على ذلك يكونُ استخدام درويش لعبارة من التوراة، أو لبعض آية من القرآن الكريم، أو لشطْر منْ بيت شعر “لو أنّ الفتى حَجَرٌ” أو من فيلسوف “على هذه الأرض..” أوْ من إدوارد سعيد في قصيدته الموسومة بعنوان “طباق”، أو لكلمة من عنوان قصيدة لشاعر آخر “روميّة” والنرْد من “منازل النرد” لمحمد علي شمس الدين، هذا كله ممّا يُقاس على استعمال الشاعر لعبارة “الحمد الله” في البيت المذكور آنفًا. والنقد الحقيقيُّ لا ينظر للقصيدة من خلال عبارة وردت هنا، أو جملة قيلت هناك، ولكنه ينظر لتلك العبارة، ولغيرها في إطار القصيدة الكلي).
نلاحظ أن د.خليل استشهد ببيت شعر النابغة الجعدي، وغاب عن باله أن القصيدة كاملة، قد تكون من الشعر المنحول، والذي كتب في صدر الإسلام، على لسان شعراء جاهليين، ولو أن خليلا قرأ قصيدة النابغة كاملة لأدرك أنها منحولة وضعيفة، وأنها كتبت لزج المفاهيم الإسلامية فيها زجا، ومن ذلك قول النابغة:
الـمُولِجِ الـليلَ فـي الـنهارِ وَفِي الليلِ نَهاراً يُفرِّجُ الظُّلَما
الخافِضِ الرافِعِ السَماءَ عَلى الـ أَرضِ وَلَـم يَـبنِ تَحتَها دِعَما
الـخالِقِ البارِئِ المُصَوِّرِ في الـ أَرحـامِ مـاءً حَتّى يَصِيرَ دَما ثُـمَّ عِـظاماً أَقَـامَها عَصَبٌ ثُـمَّتَ لَـحماً كَـساهُ فَالتأَما
ثُـمَّ كَسا الرِيشَ والعَقائِقَ أَب شـاراً وَجِـلداً تَـخالُهُ أَدَما
مِـن نُـطفَةٍ قَـدَّها مُقدّرُها يَـخلُقُ مِنها الأَبشارَ وَالنَسَما
وواضح أن الذي كتب القصيدة، ووضعها على لسان الجعدي، وضع فيها قاصدا ومفسرا بعض الآيات القرآنية، وحتى لو كانت للجعدي نفسه، فإن “الحمد لله لا شريك له” ليست آية قرآنية، ولم ترد في الفاتحة، بل وردت “الحمد لله رب العالمين”، و”الحمد لله” جملة شائعة، ولا تعد نقلا أو سرقة، أو حجة على التناص، وربما تكون اكثر جملة متداولة بين الناطقين بالعربية، ولا تعتبر إجازة للسرقات الشعرية، والمثال الذي أورده د.خليل يختلف كليا عما نقله درويش من التوراة، من عبارات حرفية، وبالحرف وبالآية ودون أدني مجهود لتغييرها ونقل معناها، كما فعل في غيرها. (راجع آخر الجدارية وراجع سفر الجامعة).
طبعا حاول د.خليل تمييع الموضوع، وكتب من عنده، إننا قلنا أنه أخذ من الإنجيل والقرآن والتوراة وذلك لم يحصل، فلم نقل انه أخذ من الإنجيل أو القرآن لأن القرآن معروف في ثقافتنا، ولا يمكن له أن يضع الآيات التي استعملها دون إشارات، ولو وضعها دون إشارات فهي معروفة، لكنه رحمه الله كان يشير لذلك، كما أشار لآية وردت في سفر أشعيا “إن لم تؤمنوا لن تأمنوا” لكنه في الجدارية نقل الآيات نقلا حرفيا وكاملا، ولم يجر أي تعديل عليها، بل ذكر حتى خيول سليمان ومركباته بالعدد، كما وردت في سفر الجامعة.
يحاول د.خليل إيهام القارئ بما أوردناه مما أخذه درويش عن غيره، وهي طريقة تبتسر المعلومة بشكل ناقص، ليوهم القارئ بسخافة الفكرة، فقد أورد مثلا عبارة (على هذه الأرض…) من نيتشه ولم يكملها لكي لا يميز القارئ بين النقل والهضم أو التلاص، فلم يذكر الجملة كاملة (على هذه الأرض ما يستحق الحياة)، وهي عبارة فريدريك نيتشه التي سلخها درويش سلخا، كما سلخ غيرها من جمل كاملة أوردناها بالدليل الكامل. فذكرُ (على هذه الأرض) وحدها ناقصة لا تعتبر سرقة، فهي كلمة شائعة متداولة، لكن قيمتها جاءت بالجملة التالية.
كما أنه كاد يقول أن درويشا أخذ عنوان لاعب النرد من منازل النرد لمحمد علي شمس الدين، ونقل شيئا عن ادوراد سعيد وهو ما لم نذكره من قبل، ولكنه بهذه الطريقة أراد أن يخفي ما قلناه، وما وضعناه من نقل حرفي لعناوين معروفة مثل نظرية “أثر الفراشة”، أو “حالة حصار” وهي اسم فيلم سينمائي، أو “في حضرة الغياب” وهي عنوان قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود حامد، وكي لا تنطلي على القارئ طريقة د.خليل في تحويل الملاحظات وايرادها بشكل منقوص وبطريقة شفوية، نضع هنا رابط المقال الأصلي كاملا http://www.elnrd.com/monetary/1665.html
أو على هذا الرابط
http://www.doroob.com/?p=18739
ويمكن قراءة المقالات السابقة هنا أيضا والسجال بين الشاعر العراقي سامي مهدي وأحمد أشقر
http://www.doroob.com/?p=18527
لقد جاء رد د.خليل المنشور في قاب قوسين، متسرعا، غير مدروس، على قضية واضحة وضوح الشمس، فلم نورد عبارة فيما قلناه مثلا من دون تدقيق، ولم نتهم جزافا، أو تهما باطلة، بل وضعنا النص الأصلي والنص المسروق، سواء كان في العناوين أو الجمل التي أخذها درويش من غيره. لكن يبدو أن د.خليل، يؤمن أن درويشاً محصن عن النقد، أو تابو سياسي أو ديني، بوجود مؤسسة (إفتاء قوية)، ومنظمة تحرير قادرة على إسكات أي صوت يعارض أو ينتقد.
وتناسى د.خليل أن النقد والانتقاد أمر صحي وطبيعي، وأن النصوص حين تخرج من صاحبها تصبح ملكا للقارئ. ومن هذا الباب لم يستطع نفي التهم عن درويش، لكنه شن هجوما، في غير موضعه، من دون أن يعترف أن درويشا ليس نبيا معصوما عن الخطأ وأنه (جَرَف) من غيره، وبنى على ما نقل وأخذ، وأن ذلك موجود في نصوصه، وليس تجنيا عليه. أما إذا شاء خليل أن يبرر السرقة فليبررها لنفسه، لأن الأدب الحديث يختلف عن فوضى النقد القديم، والشاعر الذي يعتمد على غيره، وينقل الكثير عن شعراء آخرين، وكتب أخرى، لا يمكن أن يكون شعره صافيا ونقيا.
وختاما فقد حاول خليل أن يتحدث عن الكليات في شعر درويش، هذه الكليات التي ندركها، ونعرف قيمة درويش ومكانته، لكننا تحدثنا عن الجزئيات، وعن تفاصيل دقيقة، داخل المتن الشعري نفسه، وقد تغاضى د.خليل عمدا عنها، لأنه لا يملك حجة على نقضها، إلا القول أن هذا جائز، وأورده القدماء، وجوزوه، إنه لا ينظر إلى الجزئيات، بل ينظر للكليات والعموميات التي لم نختلف عليها أصلا، ولم نقلل من جماليات درويش في الكثير مما كتب، لكن شتان بين معرفة الجماليات والسلبيات، وبين الحب الأعمى المتعصب، الذي يفسد النقد والناقد.