سنواتى فى الصين.. رحلة ماركو بولو مصري

  • مصطفى عبادة

إذا كان يحيى حقى قد قال فى يوم ما إن أغلب أحاديثنا تنقلب بعد كلمتين لا غير من الموضوع – أيا كان – إلى الذات، وفسر ذلك بأن الحديث عن الذات أو الموضوع ينبعان من نزعة واحدة متكتمة هى استجداء تبرير الوجود، فإنك ما إن تطالع كتاب “سنواتى فى الصين” لأحمد السعيد، الفاعل الأبرز فى التفاعل الثقافى المصرى الصينى الآن، حتى تدرك أنه يوازن بين الذات والموضوع، بل إنه أحيانا يؤثر الآخرين على نفسه، وينسب الفضل لأهله، مع أنه – وهو فرد – نقل العلاقات الثقافية بين دولتين كبيرتين: مصر والصين، نقلة نوعية، وخرج بها من بين جدران الجامعة، إلى الأفق الثقافي الأرحب، بل لا نبالغ إن قلنا إنه جعل الثقافة والأدب الصينيين همَّا مصرياً، وكذلك جعل الأدب العربي هما صينيا عبر ما ترجم إلى اللغة الصينية، ومنحهما زخما وحضورا ناصعا، وقد كان ذلك الحضور يظهر أحيانا على استحياء في ترجمة هنا أو هناك، وهو مع ذلك، أو برغم ذلك، لا يفغل دور أساتذته وزملائه، وكل من سار معه أو أرشده إلى الطريق، وقد قال حين حصل على تكريم لهذا الدور الذي قام به: “الحقيقة التى أؤمن بها هى أننى لا أعد الجوائز – مهما كانت – تكريما للشخص بقدر ما هى تقدير واعتراف بنجاح المشروع والتجرية ككل، والأمر هنا ليس له علاقة بالغرور أوالتواضع بل بالموضوعية، فالعامل الشخصي فى نجاح مشروع أو تجربة مثل تجربتى، أو تجربة بيت الحكمة لا يتخطى 20%”، وهناك فريق عمل وزملاء وأساتذة لهم نصيب وافر من هذا التكريم وهذه الجوائز، وهذا ما قصدته من أن أحمد السعيد وازن بين الذات والموضوع فى الحديث عن رحلته وسنواته فى الصين، وتأسيس لمؤسسة بيت الحكمة الثقافى، والدور الكبير الذى لعبه لينقل التبادلات الثقافية من مشاريع بالقوة إلى واقع بالفعل، مستهديا بقول الفيلسوف “لاو تسى”: الشجرة العظيمة تنمو من برغم صغير، والمبنى الشاهق يشيد على تراب، ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة”.
وكان أن اتخذ أحمد السعيد هذه الخطوة، حسب ما يذكر فى كتابه “سنواتى فى الصين”، فما إن استقر فى مقاطعة “ننيغشيا”، حتى بادر بتأسيس هذا الصرح الثقافى.
ذلك أن نجاحك فى اختيار الباب الذى تدخل منه إلى أى مكان، هو نجاح لك، فى المكانه نفسه، وفيما يمثله، فى معرفته، فى التواؤم مع تفاصيله ومفرداته، فى فهم سياقك الإنسانى وأنت تتحرك، فأن تكون فى ننيغشيا، فى نيتشوان، ستجد أن “بيت الحكمة”، معك فى كل التفاصيل، فما هذا المكان، وما هذه البقعة من العالم، حتى لو أرادت لها الصين أن تعرف، لولا بيت الحكمة، سيذكرك الاسم بالتاريخ حين تأسس فى عصر المأمون بيت للترجمة، واسمه “بيت الحكمة”، وكأن الترجمة قرين الحكمة، من هذا التاريخ، من هذه الملايين الحاشدة، سيخرج شاب مصرى ليصل الزمن بالزمن، ليرتق فرق حضارة تبصر بعين واحدة، ليلضم الشرق بالشرق، ليكشف للشرق جمال الشرق، ونوره، ليقول إن العودة إلى المستقبل ممكنة، وخرافة الشرق الفنان، ستضم تحت جناحيها: الشرق المفكر، ليؤسس من جديد “بيت الحكمة” فى القرن الواحد والعشرين، ليكون النافذة الأصدق، والباب الأرحب لمعرفة الصين: فكرا وثقافة ومجتمعا وسياسة، بشرا وحجرا، وليس فيما فعل معجزة، ليس فيما فعل غير طموح شخصى فى المعرفة، فى التنوع، فى رؤية الذات بتجليها الجغرافى، ليس فيما جرى قصة، بل حكمة.
فى عام 2011، فى شهر سبتمبر، جاء أحمد السعيد إلى مقاطعة ننيغشيا زائرا، ومحبا وراغبا فى التجدد، وهو يرغب عرف، وعندما عرف أراد نقل معرفته إلى الآخرين، فقرر إنشاء مؤسسة “بيت الحكمة”، مؤسسة ثقافية وسيصبح مع مرور الوقت قبلة الزائرين من العرب والصينيين، ومن البلدان المجاورة، وراعي حلقات التبادل المعرفى والإنسانى، وحادى صداقات نشأت وتنشأ وستنشأ بين عرب وصينيين، بعد أن كانت خطوته الأولى معرفية، وقد أخرج للقراء العرب كتبا من مثل: “الإسلام فى الصين”، و”الموسوعة الإسلامية الصينية”، و”موسوعة الآثار الإسلامية فى الصين”، فى وقت كان الإسلام بيه متهما فى العالم كله أو فى الصين، كان الغرب وأعلامه يروجان لاضهاد المسلمين، وكانت رسالة الغرب من ذلك أن المسلمين يحكمون هنا ويضطهدون هناك، لتسوء العلاقات بين “الـ هنا” و”هناك”، كانت الخطوة أولى وموفقة، كانت الحقيقة ضد جبل الأكاذيب.

على أن المعنى الأعمق في تجربة أحمد السعيد، ونحن نتحدث عن وصل التاريخ بالتاريخ، عن بيت الحكمة معنى وقيمة، عن مبادرة الرجل الفردية بداية، المؤسسية لاحقا، هو أن تجارب التاريخ تخبرنا بأن حلقاته لا يمكن فصلها عن بعض ، فإن الأصالة والمعاصرة (التراث والحداثة) أيضًا لا يمكن أن تنشأ بينهما حدود قطْعية، وغالبًا ما تكون هناك علاقة توالُد وترابط بين هذه المفاهيم ، والتأكيد على رفض الحداثة للمفاهيم التقليدية والتراث لا يعني أن التحديث بإمكانه التطور بشكل مُنفصل عن التراث ، وسواء اعترفنا أم أنكرنا ، فإن التراث تبقى لديه القدرة على الكبح والتأثير في الثقافة المعاصرة ، فالثقافة المعاصرة لأية أمة ، لا يمكن أن تُولد إلا من داخل رحم تراث الأمة نفسها ، ومن المستحيل أن تنمو في الفراغ ومن دون جذور ، وأحيانًا حتى أحدث المفاهيم العصرية لا مفرّ لها من استلهام التراث ، وهذا دليل على أن الثقافة تمتلك روحًا وراثية «أزلية» لهذا فإن تحديث الثقافة، لا يعبر عن الإنكار الشامل للتراث بل يعني عملية تحويل وما يسمى «استخدام حيّ» للتراث ، وولادة جديدة للتراث داخل المُعاصرة.
إن ما يُسمى «الاستخدام الحيّ» للتراث – كما تخبر تجربة أحمد السعيد وبيت الحكمة- يعني أولا عملية استكشاف وبحث عن «الثوابت» التي صمدت منذ آلاف السنين ، ومازالت تمثل «تراثًا حيًا» في التاريخ والقيم المعاصرة ، ثم تفسير : لماذا لا تزال «حيّة»؟ ، وثانيا : يجب فرز واستخراج العناصر المنطقية داخل التراث القديم الذي يُنظر إليه باعتباره متخلفًا ، وتجاوزه الزمن ، وجعْل هذه العناصر تخْدم المعاصرة بشكل أو بآخر ، وبالنظر من خلال هذيْن البعديْن سنجد أن التراث الصيني (الثقافة التقليدية الصينية)الذي عاش منذ آلاف السنين يمثل «مغارة كنوز» للثروة التاريخية ، يمكن أن نستكشف منها موارد فكرية لا حدود لها لخدمة قضايا التحديث ، وهنا ينبّه عدّة مفكّرين إلى «عدم النظر إلى التراث والحياة العصرية على أنهما طرفان يقفان على حدّي التناقض» لهذا وجب العمل على استكشاف العناصر الحيّة داخل المنظومة القيمية للتراث الصيني ، ومحّصت لزمن طويل وأثبتت جدارتها ، وتمكينها من التأقلم مع الحياة العصرية ، وخدمة تطور الحضارة الراهنة فالتاريخ حلقات مترابطة ، واليوم هو امتداد للأمس.
ويثور هنا سؤال مفاده : لماذا اتبعت مسيرة التحديث في الصين طريقًا خاصًا ومختلفًا عن الجميع؟ لماذا ظهر النموذج الصيني من التحديث بوجهه الحالي؟ علينا أن نعود إلى «الماضي» إلى تلك «العناصر التاريخية» التي أثّرت ومازالت تؤثر في مسيرة التحديث الصينية ، وتحديدًا العودة إلى «المفصل» الذي يربط المعاصرة بالتراث ، فقط حينها سنجد الإجابة الدقيقة عن سؤال تشكُل طريق التحديث الصيني.
وذلك ما يكتبه أيضا أحمد السعيد في الباب الأول حين يتأمل الرحلة وما أسفرت عنه: “وبالطبع فلكل زمن مستجداته، ففي أول الأمر لم تطرأ على مخيلة أحد – وأنا كذلك – أن ثمة علاقات ثقافية وثيقة ستربط العرب بالصين بعد عشر سنوات، وأن آفاق التعاون المتبادل ستكون رحبة هكذا”
على أن الدرس الأبرز الذي نتعلمه من هذه الرحلة الممتعة أن الغاية لا تأتي قبل اختيار الطريق، وأن النجاح لا يتحقق قبل بذل الجهد، وأن أكاليل الغار لا تتوج جبينا لم يعرف العرق والسهر.

  • عن الدستور المصرية

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *