محمود شقير.. “كل ما بتكبر بتِحْلا”

  • حزامة حبايب

ثمانون عاماً يا محمود؟ معقول يا صديقي؟! أكبرتَ كلَّ هذا القدر؟ أحصدتَ كلَّ هذه السنوات، بسمانها وعجافها؟!  ها أنت اليوم رجل، ما شاء الله عليك هيبة، وبعض الخيبة – لا بأس – فلولا خيباتنا وهزائمنا يا صديقي لما ملأنا الفضاء حكاياتنا.

أدخلتَ العقد التاسع من عمرك يا محمود؟ (“العقد التاسع؟! أكاد لا أصدق! أو على طريقة ستي الشامية، رحمها الله: “لك ما عَمْ تنهضم معي”!).

لكن هذا ليس عمراً يا محمود. هذا زمن؛ زمنّ بهيٌّ ثريٌّ، فيه حياةٌ وحبٌّ وشغف، وفيه حسرةٌ وأسى، وفيه فقدٌ في الطريق بين ضائع لا يُحتسب، وبين كاسر ٍموجعٍ “ما بينتسى”. وفيه أيضاً بعضُ المباهج التي تجعل القهر محتملاً، والإحساس بالظلم يخمدُ إلى حين. هذا زمنك يا محمود الذي عمَّرَ بالكتابة؛ كتابة الحياة والحبِّ والشغف، وكتابة الحسرات والخسارات والاحتفال بالانتصارات الصغيرة.. العظيمة.

حسناً. من أين أبدأ يا صديقي؟

هل أخبرتكَ يا محمود متى عرفتُك؟ كان ذلك في ثمانينات القرن الماضي (وكنتُ “طفلة” – بالمعنى الفضفاض للطفولة – كي لا تذهبَ بك الظنون الآثمة للاعتقاد بأنني من جيلك!)، حين أعارني أحدهم مجموعتك القصصية البديعة “طقوس للمرأة الشقية”، في أول تجربة لي مع القصص القصيرة جداً. لكن أجمل ما في قراءة قصص امرأتك الشقية أنها أخافتني، لأنني رأيتُ نفسي في مرآة الصفحات والكلمات. كيف تستطيع كتابة تبدو سهلة جداً، ممتعة وممتنعة، دونما تمنُّع، أن تفضحَ عواطفَ قارئتها؟!

كنتُ أعيشُ في الكويت حينذاك، مسقط رأسي، البلد التي أوتنا، إلى حين. وكان كشفاً عظيماً لي أن أقع على كتابة، مثل كتابتك، لا تحمل سلاحاً يثقل ظهري، أو هوية معرَّضة لتهديدٍ وجودي على الدوام، تجعلني أتحسّسُ طريقي، وأتلفّتُ حواليّ بحذر، أنا التي اختبرتُ فلسطينيّتي في سنٍّ اعتقدت فيها أن العالم قد يكون رحيماً عليَّ وعلى أمثالي ممَّن وُلدوا في الشتات، نحمل معنا تاريخاً لم نصنعه، معتقدين أنه مع الوقت قد يتسرب منّا، فنندمج غصباً، قبل أن نكتشف أن الاندماج خرافة. نعم لقد اكتشفتُ أنني سأجرجرُ تاريخي معي أينما يمَّمتُ قلبي.

يومها، لم يخطر في بالي أنني سوف ألتقيك بعد سنوات قليلة في عمّان. كان ذلك في العام 1991 في مكتب الغد للدراسات، في المدينة الرياضية، مقر مجلة “صوت الوطن”، التي أصبحت فضاء لكتاباتي. عرّفني عليك صديقنا المشترك الراحل صلاح حزيّن. كلانا – حزيّن وأنا – من نازحي فلسطينيي الكويت، لا ننتظر عودةً إلى بلاد لُفِظْنا منها، وأنت “مبعدٌ” من القدس، قدسك، في انتظار عودة تحققت، وإن تأخرت.

يومها، قرأتَ لي.

اغتبطتُ كثيراً لأنّ الصبيةَ المنبهرة بالكاتب الكبير صارت من رفاق الكلمة، وهي رفقة ولا أغلى. (يجب التوضيح أن صفة “الكبير” هنا يُقصد بها مقاماً أدبياً وليس بمعنى “المسنّ”، إذ لا يجوزُ أن أثيرَ الآن غضبَ رجل وسيم طرق عتبةَ العقد التاسع.. أليس كذلك؟!)

وتحملُنا البلادُ يا محمود، وتطوينا المدن، وتبقى الكلمات؛ كلماتنا، تشقّ جسوراً من حبِّ عظيم، شفيف، حب الصديق للصديق، حب رفاق السردِ والدربِ، مكتشفي الوَجْد والجَوى في ثنايا الحكايات.

قبل أيام، عدتُ إلى رسائلنا التي تبادلناها قبل سنوات. كيف بدأنا هذا الطقس من المكاشفة؟ لا أعرف تماماً. لكنني أعرف شيئاً مؤكداً يا صديقي وهو أن كل رسالة منك كانت تطرق صندوقي “الإلكتروني” كانت تصنع يومي. كنتُ أستبقيها خبيئةً في الفضاء الرقمي. وأمنع نفسي بصعوبة من التلصُّص على بعض الكلمات، قبل أن أطبعها، لأحتفظ بها مطوية، لساعات وأحياناً ليوم كامل، من باب “تحميس” الذات، حتى إذا لم أطِق صبراً أخيراً، انتقيتُ زاويةً مخصصة للقراءات المهمة، وفضضتُ الرسالة ببطء، وأتيتُ على الكلمات بشراهة.

كثيراً ما أتخيلك يا محمود في بيتك المقدسي، تغرفُ من التاريخ من حولك كي تصنعَ ناسك وقصصهم. وأخشى ما أخشاه يا صديقي أن تغادر بيتك، لسبب من الأسباب، فيُسلب منك، كما حصل مع شخصية الكاتب، ذاتك الأخرى، في مجموعتك القصصية التي تحفرُ في القلب أثلاماً من الألم “القدس وحدها هناك”. أتذكُر كاتبك يا محمود؟ ذاك الذي عاد إلى بيته كي يحتفل مع امرأته بكتابه الذي حقَّقه عن المدينة، فيرى جنود الاحتلال يطوّقون بيته من كل الجهات؟

عِدْني يا صديقي أن تعيشَ أكثر وأن تكتبَ أكثر، وأن تبقى في القدس، قدسك، تُحصّنها بالحكاية، وتُحصِّن ذاتَك وقلبك بالكلمات.

في الثمانين، ما زلت يا محمود بهياً. ما زلت شقياً في كتابتك، وما زلت تتشاقى.

عن جد.. كل ما بتكبر يا صديقي بتِحْلا.

 

  • عن شبكة اخبار البلد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *