-
نبيل سليمان
تغلب نسبة تأسيس القول فيما بين الرياضيات والموسيقا إلى فيثاغورث (570-495 ق.م.)، وكما جرى المداد عبر القرون عن العلاقة المعقدة والمذهلة، بين الرياضيات والموسيقا جرى أيضاً عن العلاقة بين الفلسفة والموسيقا، ونيتشه أكبر مثال، لكن المداد، ومعه الكمبيوتر، أضاف الرواية، وإذا كان الحديث لم ينقطع عما بين الفلسفة والرواية، فهو نادر عما بين الرياضيات والموسيقا والرواية، ومن هذه الندرة الثمينة ما أورثنا إياه علي الشوك (1930-2018م). ففي هذا الإرث عن الموسيقا كتبه: (الموسيقى الإلكترونية- الموسيقى والميتافيزيقيا- أسرار الموسيقى- الموسيقى بين الشرق والغرب). وفي الإرث أيضاً: (الأطروحة الفانتازية – الدادائية بين الأمس واليوم- تأملات في الفيزياء الحديثة- الثورة العلمية وما بعدها).
يكتب علي الشوك في سيرته (الكتابة والحياة) أنه قرر عام (1947م) أن يصبح كاتباً، يقول: (أما الرياضيات التي كنت أدرسها، فستكون نزهتي في حياتي). وقد رتّب أولوياته لتكون الموسيقا أولاً، والرياضيات ثانياً، فالرواية ثالثاً. وقد حضرت الموسيقا بنسبٍ في رواياته (الأوبرا والكلب)، و(مثلث متساوي الساقين: سيرة حياة هشام المقدادي) وسواهما، وكان مسحوراً باستاندال المسحور بالموسيقا، كما كان يعدّ فلوبير أول وأعظم روائي يدرك الأبعاد الدراماتيكية للبيانو. ومن الرواية العربية عدّ علي الشوك ثلاثية نجيب محفوظ (بين القصرين- قصر الشوق- السكرية) رواية كلاسيكية عالمية من الطراز الأول.
أشار بعض النقاد والصحافيين إلى الغناء بخاصة والموسيقا بعامة، في بعض روايات نجيب محفوظ (1911- 2006م) وفي حياته أيضاً، مثل رجاء النقاش (1934- 2008م) في كتابه (نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته)، ومثل الناقد الموسيقي كمال النجمي في مقالته (الغناء والمغنون في روايات نجيب محفوظ). والصحافي محمد الدسوقي، في حوار مطول ومهم يعود إلى عام (1994م). وأخيراً وليس آخراً: محاضرة سيد محمود، المهمة أيضاً نهاية عام (2019م) حول (النهضة بين أم كلثوم ونجيب محفوظ). غير أن كل ذلك يقصّر عن الدور الذي كان لنجيب محفوظ في الريادة، لحضور الموسيقا في الرواية العربية.
كثيراً ما تحدث نجيب محفوظ عن نشأته في بيت كان للموسيقا فيه حضور مميز، عبر أسطوانات كبار المطربين والفونوغراف، حيث فُتن الصبي بأصوات منيرة المهدية والشيخ يوسف المنيلاوي وسواهما. كما كانت الحفلات تقام في البيت، فتحييها العوالم للنساء، والمطربون للرجال، والفتى المدلل يتنقل بين القسمين، كما يصطحبه والده إلى مسارح روض الفرج، وكثيراً ما تحدث محفوظ أيضاً عن صداقته مع الشيخ زكريا أحمد، الذي وصل بينه وبين سيد درويش، وبيرم التونسي، ومع عبدالحليم نويرة، وصالح عبدالحي، وعبدالحي حلمي. أما الينبوع الموسيقي الآخر الذي نهل منه محفوظ فهو الشوارع، وهو القائل: (فنشأت ورأسي مليء بقاموس من الأغاني المصرية، من الأدوار والقصائد لغاية طقاطيق العوالم كلها). ومن المعلوم أن محفوظ درس الموسيقا سنة (1933م) في معهد الموسيقا العربية، وهو طالب فلسفة في السنة الثالثة، وكما كان يغني في طفولته، كان يعزف على القانون كثيراً.
يصف محفوظ، في الحوار الذي أجراه معه محمد الدسوقي الغناء حتى زمن الحوار في (1994م) بأنه (هيصة) كأننا في مباراة للإسفاف. وبالمقابل يقدر عالياً فن عبدالحليم حافظ، ومحمد عبدالوهاب، وأحمد عدوية، وصباح فخري، وفيروز، ووديع الصافي، لكنه لم يحب صوت أسمهان ولا فريد، وإن كان يثمنهما عالياً. كما كان يعتبر أن الإعجاب بالجديد من الغناء، أو بالموسيقا الإفرنجية، وحي من تقليد المحكومين للحاكمين، جرياً على قول ابن خلدون.
يتتبع سيد محمود حضور أم كلثوم في آخر ما كتب نجيب محفوظ من أحلامه. ففي الحلم (229) نقرأ: (وجدتني في مقهى ريش مع أصدقاء ريش وكلنا ننتظر بدء الحفل، وجاء أعضاء الأوركسترا حتى اكتملوا عدداً وعدّةً إلا المايسترو، فوضعني الأصدقاء مكانه وأدرت الحركة بنجاح، وتخلل العزف أداء صوت أم كلثوم وصوت عبدالوهاب، وغنى الأصدقاء والندل وصاحب المقهى، وفتحت النوافذ التي تحيط بالمقهى، واشتركوا جميعاً في الغناء حتى تواصل الغناء بين السماء والأرض). ولعل هذه النهاية لهذا الحلم تجيز للمرء أن يتحدث عن الموسيقا الكونية في رؤية ووجدان وإبداع نجيب محفوظ. وقد حضرت أم كلثوم أيضاً في الحلم (358).
وأُسرعُ هنا إلى الروائي اليمني حبيب عبد الرب سروري الذي يرى أن كتابة رواية مثل برهنة نظرية رياضية، تنبثقان مثل بقية النشاطات الإبداعية من سيرورات دماغية متشابهة. ويشبه سروري عالم الرياضيات الذي يتخيل صيغة لنظرية رياضية جديدة بالروائي الذي يتخيل مشروع رواية، فللرواية الكلمات، وللنظرية الكائنات الرياضية، لهذه الإيحاء والاستعارة، ولتلك البرهان الدقيق. ويضرب سروري مثلاً بالروائي الروسي فلاديمير ماكانين (1937- 2017م) والذي لقّب بآخر الكلاسيكيين وبدوستويفسكي القرن العشرين. فهذا الروائي كان باحثاً في الرياضيات قبل أن يختار الرواية، كما كان أخوه شاعراً قبل أن يختار الرياضيات ويصير أكبر عالم روسي معاصر فيها. وفي رواية سروري ذات الظلال السيرية (حفيد سندباد) تحضر الرياضيات وعلوم الحاسوب في الشخصية المحورية علوان الجاوي.
وقد صادفت على جوجل في جريدة (الاشتراكي) اليمنية دراسة تطبيقية خلاقة لنظرية النقطة الثابتة في الرياضيات على رواية صنع الله إبراهيم (ذات). فهذه النظرية التي لها تطبيقات في علم الأتمتة تقول: تُحسب كل قيمة من متوالية من القيم، انطلاقاً من سابقتها بواسطة دالّة رياضية. فإذا ساوت قيمةٌ ما سابقتها، فكل قيم المتوالية التي تتبعها قيم ثابتة، لها نفس قيمتها. وفي رواية صنع الله إبراهيم: حياة بطلتها (ذات) ومجتمعها هي متوالية من القيم. أما الدالة الرياضية فهي العلاقات السائدة. وقد تحدث وارد بدر السالم، عن الرياضيات الحديثة الخارجة على الإقليدية القديمة، بتجلياتها الخيالية، التي ترى أن الخطين المستقيمين، وإن لم يلتقيا كما توارثنا، إلا أنهما يعودان إلى منطلقهما بسبب كروية الأرض، حيث يصير المستقيم منحنياً يعود إلى منطلقه. ويؤسس السالم، على ذلك، أن الرواية مهما سارت خطوطها متوازية، فلا بد من نقطة لقاء، فالعمل الروائي أحدب مثل الأرض. ويضرب الكاتب مثلاً لذلك بروايته (عذراء سنجار).
ويشار هنا إلى رواية ضياء الخالدي (1958 حياة محتملة لعارف البغدادي)، والتي تقوم على لعبة/ نظرية الاحتمالات في الرياضيات، وتكتب بالتالي تاريخاً جديداً للعراق، فماذا لو لم يكن الانقلاب الذي أودى بالملكية في العراق وجاء بالجمهورية؟
من الجديد من غير الرواية العربية، أشير إلى رواية (غرفة مثالية لرجل مريض) لليابانية يوكو أوغاوا، وأحسب أن الكاتبة بالغت في استخدام الرياضيات، أو أحاجي الأرقام في هذه الرواية. وثمة من يعلل ذلك، بأن للكاتبة كتاباً في الرياضيات الأكثر أناقة. وفي الرواية يتواصل حديث عبقري الرياضيات الأستاذ الذي فقد الذاكرة، في جمالية الأرقام والحسابات.
من الرياضيات مفردةً، ومن الموسيقا مفردةً، ومنهما معاً إلى الرواية: تحدٍّ جديد هو أمام الرواية العربية، وغواية جديدة، بالأحرى هو وعدٌ جديد بعد كل ما أنجزته الرواية العربية، خلال قرن ونصف القرن.
- عن الشارقة الثقافية