مهنّا الدرة: تجربة ثرية ومتنوّعة في الموضوع والأسلوب

* محمّد العامري

في الخامس والعشرين من الشهر الفائت، فقدت الساحة التشكيلية الأردنية والعربية، الفنان الرائد (مهنا الدرة) الذي رحل عن عمر يناهز (83) عاماً. والدرة، المولود في عمان (1938-2021) لأب لبناني وأم تركية، فقد عاش (الدرة) منذ نعومة أظفاره في مدينة عمان، تحديداً وسط البلد المطل على جبل القلعة والمدرج الروماني، فكان على تماس دائم بالمكان وإيقاعات الناس في المدينة، فبرزت موهبته منذ شبابه الأول، حيث رسم اللوحة الأولى وهو في عمر الرابعة عشرة، فما كان من الأب حين وجد في مهنا موهبة عظيمة إلا أن أرسله لتعلّم الرسم على يد الفنان جورج أليف، حيث أفاد من أستاذه كثيراً، خصوصاً تقنيات الرسم وأساسيات البناء الفني.

وتوالت الأحداث ليبتعث مهنا إلى أكاديمية الفنون الجميلة في روما وذلك في العام (1954)، وبعد أن تخرج في أكاديمية روما عاد إلى عمان في العام (1958) لتدريس الفن في كلية تدريب المعلمين. وقد ظل مهنا الدرة طموحاً في إفادة الأجيال الموهوبة في الأردن، خاصة في العاصمة عمان، ففي العام (1964)، أسس قسم الفنون الجميلة في دائرة الثقافة والفنون، كما أسّس معهد الفنون الجميلة عام (1970).

شكل المكان الهاجس البائن في تجربة الراحل مهنا الدرة، فكان له الحضور الطاغي في أعماله، لكونه يعيش بتلك الأمكنة العمانية القائمة على الجبال السبعة، حيث بدت عمائر عمان كمساحات متباينة أقرب إلى التجريدية التعبيرية، فقد رصد تلك العمائر بحس مختلف عن واقعها عبر استنطاق الإضاءة وتراكم العمران وطبيعة الجبال التي تعتليها مساحات هائلة من أشجار وعمائر حجرية لها نمطها الخاص.

كما أنه جال في المكان بذهنية (الدرة) حتى صار حقيقة واقعة في مجمل تجربته، أنجز تنويعات عديدة على شكل المكان العمّاني، حتى تحول إلى مساحات تجريدية، من خلال الألوان المتجاورة، التي شكلت بمجملها جملة لونية مموسقة.

فكانت ذاكرة المكان، محركاً أساسياً في تجربته، من سيل عمان إلى الأسواق المكتظة وشرفات البيوتات العمانية الأولى، التي اشتهرت بالحجر الذي كان يستورد من الخليل ومنطقة معان جنوبي الأردن.

وكانت انتقالاته في مراحل أخرى إلى أهل المكان، فسجل الملامح الأردنية السمراء، تحديداً ملامح البدو ولباسهم المميز؛ من الحطّة إلى العقال، وألبسة السلطيات المطرزة.. كان مغرماً بكل شيء تقع عليه عيناه، حيث تثير تلك الأشياء سؤالاً متجدداً في ذاكرته، ليحوله إلى مادة جديدة في اللوحة، عاكساً طبائع الناس وحركتهم، وصولاً إلى الجيش الأردني، الذي أخذ قسطاً لا بأس به من تجربة مهنا.. فكانت ملامح الوجوه معبرة عن طبيعة قسمات البدو وأهل الصحراء، فهي مادة غنية في تعبيريتها الأكثر حرية لحركة الفرشاة والضربات العريضة التي تختزل مجموعة من التفاصيل في تلك القسمات.

لقد أفاد (مهنا) من دراسته مع أستاذه جورج أليف مبكراً، إضافة إلى موهبته القوية، فقفز عن مراحل كثيرة ليصبح فناناً محترفاً، حيث قال (مهنا) في هذا السياق: (كان أليف أول من علمني أساسيات الألوان المائية، حيث كانت أول تجربة أواجه بها مباشرة معرفتي بالفن، وكانت الانطلاقة التي جعلتني مستعداً لمواجهة العالم).

لم يتوقف (مهنا الدرة) عن السؤال الأكبر للفن، فلم تمنعه انشغالات الوظيفة عن الإخلاص لفنه، وقضاء ساعات طويلة في المرسم. كان مصاباً بشغف نادر للرسم، فهو دائم التفكير به، يخطط ويرسم في أي مكان يكون فيه، لم تكن اللوحة بالنسبة إليه صناعة تكرارية، بل هوس مشحون بأسئلة الوجود، فحين النظر إلى تجربة الفنان مهنا، نجد أن هناك رابطاً أصيلاً في معظم مراحله، برغم اختلاف الموضوع، فقد انتقلت التقنيات الفنية والبنائية في اللوحة التكعيبية والتجريدية إلى السطوح التصويرية في الوجوه، فأصبحت لوحته تمتلك صيغة تخصصه، بل ميزة ظاهرة في مجمل ما يفعل من فن.

دخل (مهنا) في أكثر من اختبار للذات، فكنت على علاقة صداقة دقيقة معه، فقد روى لي عن تخطيطات الراقصين فقال: لقد كنت في دار (أبورا) في موسكو، وكان الراقصون يتحركون بصورة مثيرة، فأمسكت بالقلم كي ألحق تلك الحركات، حيث وجدت نفسي كسائق مركبة سريعة، يحاول اللحاق بموعد ما. كان تحدّياً رهيباً بالنسبة إلى مهنا، في رسم المتحرك والتقاط الحركات المركبة في الرقص، أعتقد أن تلك التخطيطات، هي التي كشفت بشكل حقيقي عن قدرته في الرسم وضبط الحركات والأشكال في لحظات لا تتجاوز دقيقة واحدة، وهي تحولات تتبدل حسب موقف الشكل أثناء الحركة.

لم يهتم مهنا بمسألة التراث والمعاصرة حسب المفاهيم السائدة، بل كان يؤمن بأن الفعل الإبداعي فعل كوني، ولم يرتهن لشروط السوق وتزويقاته، بل انتصر لصدقية شعوره في حالة الرسم، لينفرد بطرائقه في التعبير عن موضوعات استهوته وأخلص لها، ليترك خلفه موروثاً فنياً بحاجة إلى معاينة دقيقة كاستحقاق إبداعي حقيقي فكانت تجربته ثرية ومتنوعة في الموضوع والأسلوب.

أخذت شخصية (المهرج) نصيباً طيباً في تجربة الفنان الدرة، فكان مثار نقاش حول هذه الشخصية الباكية في أعماقها، والتي تقدم الضحك للناس عبر السخرية في الحركة والعبارة.

ولم يكن موضوع (المهرج) بجديد على الحياة الإبداعية، بل كان منذ أزمنة بعيدة، حيث استقل (المهرِّج) بشخصيته في الأعمال الفنية في معظم تجارب الفنانين، ومن المستحيل إحصاء اللوحات التي شكل المهرِّجون موضوعها الأساسي. بالإمكان القول: إن فنانين كباراً أمثال بروغل وبيكاسو وتولوز لوتريك وبول سينياك (رسام السيرك) اهتموا بالمهرِّج وبرسم لوحات تمثله.

لكن مهنا، ظل يلاحق هذا الشكل المثير، ويحدق في عينيه الباكيتين، ليكسو حزنه المتخفي خلف تلك الألبسة المزركشة والمكياج المطلي على الوجه.

فقد اختار أن يبقى مجرباً يختبر الأشكال والموضوعات، حيث قدم منذ ثلاث سنوات أعمالاً عبر تقنية (الكولاج)، بل دخل مغامرة مع الفنان الدكتور جهاد العامري، في الدفاتر الفنية، وتعد الدفاتر الفنية التي أنجزها (مهنا) قبل سنتين من وفاته، تحولاً مهماً في تبدلات الشكل الكلاسيكي للعمل الفني لتتحول إلى (أوكرديون).

  • عن الشارقة الثقافية

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *