في تجربة سميحة خريس الإبداعية



*د.حكمت النوايسة

الحديث عن تجربة سميحة خريس الروائية حديث عن تجربة مهمّة في تيار الرواية العربية، والرواية الأردنية، وهو ليس حديثاً مرسلاً مجانياً، وإنما أستند فيه إلى جملة ملاحظات تحصّلت لديّ من تجربتي المتواضعة بقراءة الرواية، ومن اطلاعي على تجربة خريس وغيرها من التجارب الروائية العربية والأردنية. وفي هذا المقالة أحاول أن ألملم هذه الملاحظات بما لا يخلّ باحتفاليتنا هذه، بهذه التجربة المهمّة والجميلة.

وأولى هذه الملاحظات تتعلق بالمسافة المتروكة بين المؤلف والنص، فسميحة خريس لم تخرج من كتابة عَقْديّة أو عُقْدية، وإنما كانت في الكتابة الاحترافية، وهي الكتابة التي تجعل مسافة بين النص وكاتبه، وتستطيع التوافر على أهمّ سمة من سمات العمل الروائي، وهي المحاكاة، أو النمذجة، أو التداول، بمعنى أنّ الكتابة العَقْدية لا بدّ أن تتوافر على التوجيه والموجّهات، وما يمكن تسميته «التخطيب»، حيث نرى إلى تدخّلات الروائي في التفاصيل، سواء أكان مباشرة، أم كان على لسان الشخصيات، وهذا مثار جدل لا أريد له أن يحرفني عن غاية هذه المقالة.. وأعود فأقول إن الكتابة الاحترافية تتيح مثل هذه المسافة تماماً، ونستطيع كقرّاء أن نسير في النص دون أن تكون شخصية المؤلّف حاضرة تطالعنا في كل حرف. أما الكتابة العُقديّة، فإنها تجعل الكاتب محوراً، ومصهراً وحيداً للكون، وهذا في الشعر مقبول، لكنّه في الرواية مثار جدل، بل إن كثيراً من النقاد لا يرونه محموداً، وتجربة سميحة خريس من هذا الباب تجربة احترافية متحررة من التوجيه الأيديولوجي، ومن الداتيّة الأنوية الضيقة، وأمثّل على ذلك برواياتها «شجرة الفهود»، و»القرمية»، و»يحيى»، و»الصحن»، وبابنوس».
ثاني الملاحظات متعلّقة بالتنوّع داخل التجربة، والتنوع هنا في مضمارين؛ التنوّع الشكلي، والتنوع المضموني. وأما في التنوع الشكلي، فهذه التجربة تمتدّ بين النوفيلا، الرواية القصيرة بمواضعاتها المعروفة (وأمثل هنا بروايتي «نحن»، و»الرقص مع الشيطان»)، والرواية الطويلة كما في «يحيى»، وفي الداخل تفاصيل في الشكل أيضاً، بين السرد الممسرح (دفاتر الطوفان)، والسرد العادي، والسرد المختلط، فضلاً عن تمايز الأعمال بعضها عن بعض في كثير من التفاصيل الشكلية التي لا يتسع المقام لذكرها. 
أما في الجانب المضموني، فقد امتدّت هذه التجربة من الذاتي/ السير ذاتي إلى الملحمي، وتنوعت الموضوعات من الموضوعات الوطنية والقومية والإنسانية، ومن حرية المرأة (الصحن)، إلى حرية الرجل (يحيى)، إلى حرية المرأة والرجل/ الإنسان كما في (الرقص مع الشيطان)، ومن التاريخ (كما في «يحيى»، و»القرمية»، و»شجرة الفهود»)، إلى الحياة المعيشة كما في «امبراطورية ورق».
الملاحظة الثالثة تتعلّق بعلاقة الروائيّة برواياتها، والحديث هنا ليس عن المسافة السابق ذكرها، وإنّما عن رؤية الكون، وأساس الاحتراف والكتابة الاحترافية أن يكون الروائيّ روائياً في حياته الخاصة، وفي حياته العامّة، بمعنى الإخلاص للتجربة الروائية، وسميحة خريس مخلصة لهذه التجربة، سواء أكان في مجال الحياة الخاصة، أم كان في مجال العمل، وهذا الإخلاص لا نقيسه بمقدار ما نعرف عن شخصيّة الروائي معرفة خاصة، وإنما من قراءة الأعمال، ويتأتّى ذلك من خلال البحث في البذرة الأولى لأي نص روائي، ومن خلالها نستطيع الحكم. 
وعندما نتحدّث عن تجربة سميحة خريس، فإننا نرى أعمالها الروائية تستند إلى رؤية روائية للكون وتفاصيله، وطاقة مبدعة في تسريده، وقد تكون البذرة الأولى لهذا التسريد فكرة عابرة، وقد تكون حالة إنسانية مشاهَدة، وقد تكون تجربة معيشة، وكل ذلك يمرّ من أمامنا مروراً عابراً، نتأثّر به، وقد نفرح أو نحزن، لكننا نمارس ذلك بشيء من الألفة، وعندما تأتي الذات المبدعة، فإنّها تزيل مثل هذه الألفة، وترينا الأشياء من زاوية نظر جديدة، والأهمّ في القدرة على التقاط ما يمكن أن يتحوّل إلى نص روائي، فهي تعيش كروائيّة، تفتح عينها وقلبها على العالم، وتراه سرداً ممكناً، وعندما تجد ما يمكن تسريدة أو إخراجه سرداً، ستعدّ العدّة المعرفيّة لذلك، ثم يأتي بعد ذلك دور الموهبة، فتحوّل تلك المعرفة إلى نص روائي، وما أصعب ذلك! ذلك أن في المعطيات المعرفية والتاريخية ثغرات هائلة دائماً، ولا يستطيع أن يسدّ هذه الثغرات إلا الخيال الخصب، وذلك بما يستطيع من تحويل المعرفة إلى سرد، وأمثل هنا على الفكرة العابرة برواية «نحن»، وفكرة المسؤولية الجماعية عن الحريّة بـ «الرقص مع الشيطان»، وعلى المعلومة التاريخيّة بـ «يحيى» و»القرمية»، وعن التجربة الإنسانية بعامّة بـــ «بابنوس».
ومن الأمثلة على الإخلاص للروائي في الذات اختيار سميحة خريس العملَ في الأماكن التي تبقيها قريبة من نفسها، وموهبتها، والروائي فيها، وعندما تعمل في مجال يمكن أن يبعدها عن ذلك، فإنّها تخلص للروائية، وترى الكون بعين الروائي، فتسرّد العادي والمألوف ليخرج عملاً روائياً، ومثال ذلك «نارة.. امبراطوريّة ورق»، فهي في صميم عملها في الصحافة، لكنّها ترينا ذلك العمل بسرد روائي جميل وآخّاذ.
الملاحظة الرابعة تتعلّق بالعمل الروائي نفسه، فالرواية بعامة لم توجد للتسلية، لكنّها سرقت عنصر التسلية مما سبقها من سرود، كالحكايات الفكاهية، وحكايات الشطار والعيارين والمكدين، وغيرها، ثمّ حمّلت هذا المسلّي ما تريده الرواية من خطاب، ولكي يكون العمل مقبولاً لقارئ عادي، قارئ عابر، لا بدّ له من التوافر على مقوّمات مسلّية، منها الإمساك بحبائل العالم الروائي، والتشويق في تقديم الحدث، ومنها اللغة السهلة القريبة الجاذبة، وقد توافرت تجربة سميحة على هذا، ومن يقرأ الرواية لا يصاب بملل أو ضجر أثناء القراءة، وإنما تسرقه الرواية فيكملها قراءة، وتسرّب إلى نفسه خطابها دون مباشرة أو وعظ أو غيره، وهذا ديدن الرواية بعامّة؛ أن لا تقول أي شيء مباشرة، وأن تبقى في منطقة التسلية، لأنّها فن موجّه للناس، للقارئ العادي، وليس فنّاً موجّهاً للنقاد، والسر الحقيقي أن يكون العمل موجّهاً للاثنين معاً، أيْ لقارئ عادي، وقارئ ناقد متمرّس في تحليل النصوص، هذا يقرأ ويمر، وهذا يفتّش في الأثر، ويفتّش في نجاعة التقنيات، ويفتّش في إمكان التداول، أو النمذجة أو غيره. 
______
*الرأي الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *