ثلاث قصص قصيرة لخلود المومني

بيت العائلة  

فتحت الباب، استقبلتني رائحة الحنين. لبيوت الأمهات حميمية لا يعرفها إلا من تجرع مرارة الفقد.

 حجرة الجلوس كما هي المقاعد المكسوة بالمخمل مرتبة في أماكنها، جهاز التلفاز، الستائر المنسدلة، رائحة الغبار وكل التفاصيل المؤطرة بالغياب.

ترتطم بأذني أصوات الملاعق والأطباق، رائحة الفاصولياء اللذيذة التي كانت أمي تعدها، خزائن المطبخ الخشبية المكتظة بمرطبانات اللبنة المرصوصة بعناية مغمورة بزيت الجبل حيث نشأت أمي، بشكير صغير كانت تمسح به عرقها، قطع قش مستديرة مخصصة لحماية الطاولة من حرارة أواني الطبخ.

 صورنا أنا وإخوتي ما زالت تزين المكتبة والجدران، بصمات أمي واضحة عليها أكتشفها بمختبر القلب والشعور حرصت على أن لا يغلق بيت العائلة رجوت إخوتي أُتركوه على حاله، نجتمع فيه في العيد أو في المناسبات المشتركة هز شقيقي رأسه بسخرية:

– دعوه فليكن لها ما تشاء

 شعرت بالنصر لحظتها.

 قبل العيد ببضعة أيام حضرت للبيت، أخرجت خرطوم الماء من مكانه بدأت برش الجدران والنوافذ وما تبقى من زروع أمي، تجمع الغبار في رئتي سعلت كثيرا، إنها الحساسية الموسمية.

مع ذلك سأكمل بعد غد العيد وتذكرت أنني لم أشتر القهوة السادة سأجلبها من بيتي يوم العيد وأجهز معها بعض التمر، من غير المقبول أن توزع الحلوى في العيد الأول لوفاة أمي استيقظت صباحا على أصوات:

 الله أكبر ولله الحمد. أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا.

 عضني الفقد.

 جهزت نفسي وأطفالي وحملت أغراضي توجهت إلى بيت العائلة، انتهت الصلاة وقارب الوقت على الظهر، العصر ولم يحضر أحد، حاولت الاتصال بأخي.

 هذا الرقم لا يمكن الاتصال به.

 سافر أخي لقضاء العيد مع زوجته وأولاده، اتصلت بأختي

– وإنت بخير مع زوجي والأولاد عند حماتي.

 لم أكمل بقية الأرقام عاد إليّ منظر أمي محمولة على الأكتاف صرخت طلبت النجدة دون جدوى، مسحت دموعي لملمت شعث قلبي وغادرت.

بالأمس وأنا عائدة من العمل، شاهدت سيدة غريبة الملامح تنظف نوافذ بيتنا، وشاحنة كبيرة تدخل أثاثاً لعائلة لا أعرفها.

*******

لوحة: إسماعيل الرفاعيلوحة: إسماعيل الرفاعي

  • زهايمر

سحبت الكرسي الخشبي جلست الى جواره

أبي…. أبي.

رفع إليّ بصره، تعذبني وابتسامته التي لا تفسير لها، احتضن يده المعروقة بين يدي، أتحدث إليه لا يجيب، أمسح بأصابعي على بعض شعيرات صمدت على رأسه الفارغ.

أرجع إلى الخلف تصير الذكرى فراشة تطير في بساتين العمر، كانت رؤية والدي وفكرة أنه قد يعود إلى البيت في أيّ لحظة، كفيلة بضبط فوضانا، تتسارع خطوات أمي نحو الفرن تتأكد أن الطعام شبه جاهز، أخي المشاكس ينثر كتبه المدرسية ويدّعي الدراسة، أما أنا فحكاية أخرى أبنته الوحيدة المدللة نعم، لكن عصا التأديب تصل للجميع، هكذا كان أبي.

عركته الحياة العسكرية، أكسبته صلابة ومقدرة على اتخاذ القرار بحزم، صدقوني لأبي وسامة وابتسامة جذابة، لمحته يلعب الشطرنج مع عمي ظهرت غمازتاه عندما ابتسم.

كش ملك

عرف أقاربنا وأصدقاء العائلة بمرض أبي، صاروا يتوافدون للاطمئنان عليه، يربتون على خده، ولا رد فعل من ناحيته غير تلك النظرة الجوفاء، في فترات لاحقة صار ينخرط في بكاء قصير ثم ينسى ويعود لنظرته التي لا تفسر.

تباعدت الفترات بين زيارات أقاربي.

أبي يا سنديانة الروح، أرجوك لمرة واحدة املأ بيتنا صراخا، انبش أمي من ترابها احجدها بنظراتك ثم أتركها، افتح باب حجرة الضيوف استقبل جارنا.. أترك يده في يدك، وأنت تطمئن على صحته وأمور أسرته.

نهض أبي من سريره، صار يتطاول أكثر فأكثر، تضوع عطره في المكان، رأيتني طفله تفر خوفا إلى غرفتها، أبعدني أخي وضع يده على كتفي أخرجني من غرفة أبي، بدأ أخوتي بتفحص نبضه تحدثوا قليلا، صمتوا وتبادلوا نظرات لها أكثر من معنى وعرفت يومها معنى اليتم.

*******

  • صداع

أتحسس مؤخرة رأسي، يؤرقني هذا الصداع الذي يطاردني، منذ ليلة الأمس ولم تنفع معه كل المسكنات التي لديّ.

– لن أتمكن من أخذ أيّ أدوية أخرى؛ حتي يري الطبيب نتائج التحاليل التي أجريتها اليوم في المختبر.

كان الطبيب قبل ذلك قد سأل عن نشاط غدتي الدرقية، عن نسبة الهيموجلوبين في الدم ثم طلب التحاليل للتأكد.

– لا بد أنه ورم خبيث يطارد رأسي البائس فقد عانى هذا الرأس كثيرا، ضربته بيدي الاثنتين، يوم ظهرت نتيجة الثانويه العامة وكنت من الراسبين، ويوم مات أبي وشاهدته مسجي في أكفانه بلا حراك ولامبالاة، ضربت رأسي بجدران الحجرة وبكيت بحرقة.

الألم الشنيع عاد يضرب جدران رأسي، لا بد أن نتيجة التحاليل ستظهر أن هناك مرضا خبيثا يأكل جزءاً من خلايا دماغي.

أتألم كثيرا، تدخلني ذات الممرضة العجفاء إلى حجرة كئيبة في مستشفى متواضع، أتمدد على السرير، أشعر أن النهاية قد اقتربت، أتمني أن أعيد حساباتي في أمور كثيرة، دراستي، علاقتي بأسرتي، أسراري الصغيرة وأشياء أخرى.

تموت فرحة، تذبل زنبقه، ويجف ينبوع في أرض خصبة.

أحمل ملفاً فيه نتائج تحاليل المختبر، أقدمها للطبيب، وبداخلي مشاعر متضاربة، قرأ التحاليل، رفع الصورة للأعلى بحث فيها هز رأسه، راقبته متوجسه، رفع نظره إليّ، قال أشياء كثيرة عن تأثير نقص الفيتامينات على الجسم، استمعت إليه باهتمام، أخذت الوصفة حملتها بحثت عن صيدلية قريبة لأشتريها.

لحظتها ولدت فرحة، تفتحت زنبقه، وانفجر ينبوع في أرض قاحلة.

 

  • عن مجلة الجديد

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *