سحر الشجن في ديوان “قد تصدق الكأس”

سحر الشجن وامتداد الصورة الشعرية

في “قد تصدق الكأس” لأحمد فرج الروماني

 

د. محمد المسعودي

من يطلع على كتاب “قد تصدق الكأس” للشاعر المغربي الطنجي أحمد فرج الروماني يُلفت نظره هذا الشجن الشفيف الذي يتسرب إلى نصوص العمل، ويُشكل أفقا جماليا يسهم بقسط كبير في بناء متخيلها، وتجسيد رؤية شاعرها إلى الحياة وإلى ما يجري من حوله. ونظرا إلى الحضور المميز لهذا البعد الدلالي وإيحاءاته وظلاله في شعرية أحمد فرج الروماني ارتأينا أن نجلي سحره ووظيفته في تشكيل الصورة الشعرية، والرقي بها إلى مدارج من البوح الشعري الممتد. فأين يتمثل سحر الشجن في نصوص “قد تصدق الكأس”؟ وكيف تعمل هذه السمة على تشكيل الصورة الشعرية؟ وكيف يتحول الشجن إلى امتداد تصويري يُمتع المتلقي ويقربه من الدلالات والأبعاد التي رامها الشاعر؟

يقول الشاعر أحمد فرج الروماني:

“وحدي، أصيخ السمع إلى دبيب النمل يهرع خائفا

من صخب خُطاي.. لم أبتسم لخوفه (ولا سليمان في

الطريق)..

أرى نورسا يرنو إلى ماء رنقٍ في الأسفل.. ما عاد النورس

يهيم بمراكب الصيادين.. صار البحر رماديا.. صارت

السماء شاحبة.. يحملني هذا الرصيف إلى فائض الوقت:

القيامة تأخرت كثيرا.

ثمة متسع للخطيئة..

أي خطيئة تنتشلني من هذا الفراغ؟ !..” (قد تصدق الكأس، ص. 19)

بهذا الشجن الشفيف الذي ينسرب بين ثنايا المقطع يعمل الشاعر على تشكيل صور شعرية تشخص حالته الوجدانية، وتنبئ عن واقعه، ووضعه. والناظر إلى الصور في هذا المقتطف يجد لها امتدادا في صور أخرى من الكتاب الذي تتداعى صوره وتتصادى في رؤاها وأبعادها الدلالية والرمزية. والمتأمل في هذا المتن يلفي صوره تتشكل من خلال تركيزها على قلق الذات الشاعرة، وشعورها بالفراغ، وهروبها من وحدتها، وإحساسها أن ثمة فسحة للخطيئة ما دامت القيامة قد تأخرت. غير أن ما حولها يتسربل بالأسى الذي تشعر به، ويعتريه ما يعتريها من مشاعر وأحاسيس. فالنمل يدب خائفا، وإيقاع دبيبه يتماشى مع صخب خطى الشاعر وتوترها، ولم تعد النوارس تهيم بمراكب الصيد وإنما تتملى، تماما كالشاعر، انعكاس شحوب السماء، في ماء البحر الرنق، وترقب رمادية لونه. وبهذا يكتسي المشهد الذي يصوره الشاعر بالحالة النفسية للشاعر، ومن ثم نرى سحر الشجن يحكم تفاصيله وجزئياته، ومن ثم يمنحه صبغة عذبة، وإيقاعا هادئا، يختزن في طيه توترا جليا ينبئ عن معاناة الذات الشاعرة وإحساسها بوقر الحياة. وتتواتر مثل هذه الصور التي توحي بشجن شفيف في كتاب الشاعر إلى درجة تصبح معها امتدادا تصويريا فنيا يسم النصوص بميسم دلالي ورمزي معبر عن حالات الذات وتحولاتها. يقول الشاعر، أيضا، في حيز آخر من كتابه:

” لا سماء فوق رأسي

لا خلاص

من شرك حدسي.

منذورا للتيه

أنادمُه

ولهذا الفراغ

أشاكسُه

كل ما يبقيني

إيقاع الصمت

صوت الصمت..

كل ما يفنيني

ولَهٌ كبير بنجوم بارقات.

شجيرات

كلما هبت الريح،

ترقص،

تغني مع الكناري والقبرات.

يسألني كأسي مستنكرا:

أنى لك هذا الإحساس

                   بالحياة. (قد تصدق الكأس، ص. 42-43)

هكذا تتصادى صور هذا المقطع مع صور المقطع السابق عبر استدعائها لمعاني الخوف، والإحساس بالتيه، والشعور بالفراغ، ووقر الصمت (انعدام التواصل مع الآخر). ومن ثم كانت الوجهة نحو الكون في شساعته للانعتاق من الوضع القلق الذي تحياه الذات، ورغم ذلك، فإن هذه الرغبة تلقى استنكارا وسخرية من كأس الشاعر التي تأبى عليه الانغماس في لحظة، الألق، والفرح، والنشوة، وترده إلى حالة الشجن. وبهذه الكيفية نجد ظلال الشجن، وشرنقة الأسى تغلف الصور الشعرية في هذا النص وتلقي بإيحاءاتها على متنه. وبهذه الشاكلة نرى أن سحر الشجن يشكل أبعاد الدلالة ومراميها عبر امتداد تصويري بين في هذا النص، وفي باقي نصوص الكتاب.

ويقول أحمد فرج الروماني، في مقطع آخر:

“وبعضي،

يسافر بعيدا عن بعضي

يركب دمعي

يُبقي حيا علي بعدي

وبعضي

يعود إلي.. يناوش صمتي

ينادم في ظلمتي لحدي

فيرفع الأبيض نخب ظلي..” (قد تصدق الكأس، ص. 65)

تحضر في النص المستشهد به مخايل من معاني النصين السابقين: الشعور بالتيه والضياع، والإحساس بالوحدة والبعد عن الآخرين، والتوزع الذاتي والتشظي. وعبر هذه المعاني نرى أن حالة الشاعر النفسية تنعكس في الصور الشعرية وتلقي بشجنها وأساها على المشهد الذي يتمثله الشاعر عن ذاته، ويجهد لكي يوصل تجلياته إلى المتلقي. ولا يخفى على القارئ أن سحر الشجن الثاوي في هذا المقتطف يجعل من الصور التي نقف عندها صورا ممتدة بحكم أنها تتقاطع في رؤاها ودلالاتها مع صور سابقة في الكتاب وأخرى لاحقة عليها، مما يعني أن هذه السمة الفنية تسربت إلى نسغ الصور الفنية في الكتاب من ألفه إلى يائه.

ويقول الشاعر، في مكان آخر من كتابه:

“جسد ينسلخ عن جسد.. كأس مترعة بالخيبات..

والطاولة التي سئمت منكبي، تهددني في أسراري..

يسقط الجسد عاريا.. (تصمت الطاولة).. ينساب

وراء رائحة عطر يثير شبق عازف “الشيللو” (تصمت

الطاولة).. يهرب من قوقعة صخب مفتعل.. يستمر

في سقوطه القديم نكاية في الجرأة وفي الهاوية..

(الطاولة المثقلة بوجعي ما زالت صامتة)..

وحيدا ستبقى: قالت لي ال”سوناتا” قبل أن يرتعش

وتر الكمان.. اشتريت ما يكفيني للصراخ من ورق

ونبيذ، بينما عازف “الشيللو” لم يبال أبدا ل”فوس

نوت” أحدثها وتر رنان..” (قد تصدق الكأس، ص. 87)

هنا جسد ينسلخ من جسد، وفي النص السابق بعض من الشاعر يسافر بعيدا عن بعضه الآخر؛ والصورتان معا تجليان حالة الشتات والتوزع والتشظي النفسي والروحي والجسدي. وبهاتين الصورتين يعبر الشاعر عن حالة تيهه وضياعه، وعن شعوره الفادح بثقل الحياة ولا جدواها. وها هو في هذا المقطع يضيف تفاصيل أخرى تزكي دلالات الصور السابقة: الخيبة، والسأم، والتهديد بالفضيحة (كشف الأسرار)، الوجع، الوحدة الأبدية، والاستمرار في الخطأ واللامبالاة به. وبهذه الشاكلة نرى أن هذه الصور الشعرية ترسخ الإيحاءات السابقة التي حملتها الصور الشعرية السالفة جميعها، وأن ظلال الشجن ترخي بمسحتها السحرية على الصور فتمنحها طاقة تصويرية كبيرة على حمل الرؤى والتصورات التي رامها الشاعر في بناء متخيله، وكما وجدنا نوعا من اللجوء إلى الطبيعة، أو محاورة الكأس وتجاذب أطراف الحديث بينها وبين الشاعر، نجد في هذا المقتطف حضور الطاولة وأنسنتها في هذا المشهد التصويري مما يجعل منها معادلا موضوعيا لأنا الشاعر تعكس معاناته، وتعبر عن حالاته وتحولاته.

ويقول الشاعر، أيضا، في نص آخر دال من نصوصه:

“كل الذي عشته

دخان:

         عنائي عنادي

        غبائي دهائي بهائي

        وكل هذا الهباء..

        أنفضه لأكون معي:

أكتب

لأتخفف من هواجسي

أثمل لأصحو

     -لأشاكس ألوهية اللغة-

أعيش

    لأعشق…” (قد تصدق الكأس، ص. 143)

وكأنها الخلاصة والنتيجة التي وصل إليها الشاعر عبر تجربته في الحياة: كل ما عاشه دخان، وهباء. وأن كل ما مرت به هذه الحياة من أفراح وأتراح ينفضها عنه كغبار ليتوحد بذاته، ليكون معها، ليكتب هواجسه، ليشاكس ألوهية اللغة، ليجرب مرة أخرى أن يكون، وأن يعشق: أن يعشق ذاته رغم تيهها وتشظيها وضياعها، أن يتشبث بوحدته التي تمكنه من الرجوع لأناه. وبهذه الشاكلة ينتصر الشاعر للحياة ولمحبة الحياة. وبهذه الكيفية نجد أن هذه الصورة لا تخلو من شجن يلقي بظلاله على المشهد الذي يصوره الشاعر، وأن الأمل ينبثق من اليأس، وأن الصحو يكون بعد الثمل، وأن العشق يأتي بعد خيبات الأمل الكثيرة.

وانطلاقا من كل ما سبق يمكن القول إن سحر الشجن أدى دورا فعالا في تشكيل الأبعاد الدلالية والفنية في كتاب “قد تصدق الكأس”، وأنه السمة التي جمعت بين صوره الشعرية، وكثفت إيحاءاتها، ومن ثم جعلت بينها نسبا، وأكسبتها امتدادا تصويريا بينا، إذ تتداعى صور الكتاب وتتصادى بما يجعلها كاشفة عن حالة الشاعر وما تعانيه الذات في تفاعلها مع الوجود والحياة من حولها.

ولا يسعنا في خاتمة هذه القراءة في العمل الأول للشاعر أحمد فرج الروماني سوى أن نثمن تجربته الشعرية هذه، وأن نهنئه على إصداره الجميل في انتظار عمله الشعري القادم الذي نرجو أن لا يقل جمالا عن ديوانه الأول.

*أحمد فرج الروماني، قد تصدق الكأس، منشورات، منتدى الفكر والثقافة والإبداع، طنجة، 2019.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *