قراءة في فيلم “حرب باردة”

عام 2015 فاز البولندي بافل بافلكوفسكي بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية عن فيلم إيدا Ida، وكانت تلك المرة الأولى في تاريخ السينما البولندية الذي يفوز فيها فيلم بالأوسكار عن فئة الأفلام الأجنبية. في العام الماضي فاز بافلكوفسكي في مهرجان “كان” بجائزة أفضل مخرج عن فيلمه الحرب الباردة Cold War الأمر الذي منحه الترشح لجائزة الأوسكار لأفضل مخرج، وأفضل فيلم بلغة أجنبية وأفضل تصوير سينمائي. يقول بافلكوفسكي: -فيلم الحرب الباردة Cold War هو ”مشروع شخصي خاص“ وسياسي في آن مبني بالتصرف على قصة والديّ بافلكوفسكي اللذين كانا موسيقيين التقيا في بولندا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وبدأا زواجا عاصفا. قصة حب ملحمية متقدة لا تخمد أوارها إلا بانتحار المحبين بهدوء وسرور وقناعة في نهاية القصة وفاء لحبيهما بعد أن تدور أحداث القصة في بولندا، وألمانيا ويوغسلافيا وفرنسا. بعد ترشيح الفيلم لجائزة الأوسكار قال بافلكوفسكي لوسائل الإعلام: -لو أن والديّ على قيد الحياة لكانا في غاية السعادة لرؤية الفيلم. فهناك دائما نغمة حزن في مناسبات كهذه. لقد رحلا عن هذه الدنيا وهم يعتقدان بأني محض فوضوي، عدمي، إنكاري Nihilistic، تافه . . . بطل الفيلم فكتور (يجسد شخصيته توماسز كُت)

ملحن موسيقي شاب يغرم بمغنية هاوية تدعى زولا (جوانا كولغ) يكتشفها في برنامج بحث عن المواهب الشابة ترعاه الدولة البولندية إبان العهد الشيوعي، فترسل فيه فنانين في أصقاع بولندا بحثا عن مواهب واعدة يمكن تبنيها للاستخدام في إعلامها الدعائي. زولا تصبح النسخة الشرق أوروبية لمارلين مونرو: شقراء، مثيرة، رعْبُوبة. إذن الفيلم هو قصة محبين سييء الطالع فرقتهما السياسة وتصاريف الأقدار غير مرة على مدى عقود إبان فترات عصيبة في أوروبا قبل أن تفرقهما شخصيتهما ومزاجهما المختلفين، لكنهما يبقيان على حبهما ما استطعا إلى ذلك سبيلا؛ هو باختصار قصة حب مستحيلة في عصر يستعصى على الحب. لقاء، فغرام، فخصام، فزواج، فافتراق، فهجر، فهجرة، فزواج كل منهما من طرف آخر، فلقاء مرة أخرى، فغرام، فزواج من بعضهما وخصام على مدى أربعين عاما، فانتحار في النهاية بعد أن أنهكتهما الحياة ولم يبق لهما سوى بعضهما. لكن تم اختزال الفيلم وتكثيفه إلى 15 عاما فقط عوضا عن 40 حتى يتجنب المخرج تغيير الممثلين للدلالة على تقدمهما بالسن. فكتور لا يفتن بصوت زولا ورقصها فقط، ولكن يجذبه شيء آخر، إذ يصفها بأنها ”أصلية“، أو بـ ”الشيء الحقيقي“ أو ربما بـ ”بولند الحقيقية“. هذه باختصار قصة الفيلم ولكن أثناء تجلي القصة رويدا رويدا، لا تبدوا أنها قصة فيلم عظيمة. لا تتجلى روعتها إلا عندما تقدم زولا المتزوجة من رجل آخر متنفذ في النظام الشيوعي من إنقاذ حبيب الأمس من المعتقل لينتحرا سوية ببطء. يشترك فيلم “حرب باردة” مع فيلم “إيدا” بأنهما يغرفان من الماضي، وتجمعهما موسيقى الجاز التي استخدمها المخرج كشخصية ثالثة. ويتشابه الفيلمان بالتدخين الشره لإحدى شخصياته على الأقل، وما كان الفيلم لأن يكون ما كان عليه إلا بالأبيض والأسود: الأبيض نحن (الخير) والأسود (هم) الشر! لا أذكر أن مشهدا واحدا في الفيلم يظهر فيه البطل دون أن يدخن.شخصيا، ما أمقتَ التدخين عندي وما أمقتني له، لكنه راق لي عندما شاهدت طريقة بطل الفيلم توماسز كُت في التدخين، راقت لي تلك “المعصية”. المُشَاهد الحاذق ومن تمرس في الأدب والسينما يمكن أن يأتي بكثير عن الفيلم وعبقرية مخرجه وومثليه ومصوريه . . . فكل مشهد في الفيلم يمكن أن يدرّس. انظروا إلى فكتور عندما يأوي إلى الفراش بجانب امرأة لا يحبها كيف تم تصوير ذرعيه وكأنهما موثوقتين خلف ظهره كما لو كان مجبرا على النوم بجانبها. ما قاله المخرج عن سعادة والديه بالفيلم لو كانا على قيد الحياة ليس لأن الفيلم يحكي قصتهما وحسب، ولكن للجهد البين الذي بذله المخرج للإتيان بفيلم مدهش في تكوينه البصري، وفي التصوير، والإضاءة، والموسيقى، والملابس . . . إلخ.

  • مترجم وكاتب أردني

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *