حكايات عن حرق المخطوطات: تاريخ موجز للإبادة

*إيميلي تيمبل – كاتبة أميركية

– ترجمة: طارق فراج

 

“المخطوطات لا تحترق»، هكذا قال الشيطان، في رواية الكاتب الروسيّ ميخائيل بولغاكوف «المعلم ومارغريتا»، وهو يسحب مخطوطة اعتقد الجميع أنها خرجت من تحت قطته المتكلمة الضخمة. بالطبع، المخطوطات لا تحترق، قد يظن المرء ذلك. حسنًا، ليس بعد الآن على أية حال. بعد كل شيء، يُكتَب العديد من الكتب هذه الأيام مباشرة عبر التخزين السحابيّ، بحيث يبدو الاحتراق شبه مستحيل باستثناء الانهيار العالمي الذي يقترب بشكل شبه مؤكد إذا بقينا على طريقنا الحاليّ. ربما هذا هو السبب في أن أساطير المخطوطات المدمرة باقية مدة طويلة في الخيال الأدبي، لقد بدأنا ننسى حقيقة أن أي شيء قد يضيع إلى الأبد.

وبالطبع تحترق المخطوطات. ولكن يمكن أن تختبئ المخطوطات أيضًا عندما يُعتقد أنها احترقت، لتُكتَشف بعد سنوات في درج في غرفة جلوس شخص ما، أو تُخفى هناك أو تُنسى فقط. يمكنها رفض الحرق، أو بالأحرى، يمكن لأي شخص رفض حرقها. يمكن حرقها عن طريق الخطأ، أو بعد معركة يائسة طويلة.

لقد جُمِعَ هنا عشر قصص عن التدمير (أو التهديد بذلك) للأعمال غير المنشورة واليوميات والرسائل من جانب مؤلفين بارزين- نصوص، بعبارة أخرى، تهم العالم. تثبت بعض المخطوطات أنها خالدة، وبعضها الآخر مدمّر بشكل كامل، وبعضها الآخر يعيش في أشكال تشبه الأشباح، أعيد إنشاؤها، ظاهريًّا بشكل غير كامل، من جانب صانعيها. قد نكون في نهاية القصص مثل تلك المخطوطات، بالنظر إلى السحابة وكل شيء، وهو ما يجعلها تشعر بصدى أكبر. أشك أنه حتى في المستقبل سيقرأ أي شخص عشر قصص لكتاب مشهورين عن الإخفاقات الملحمية لمحرك الأقراص الصلبة. ولكن بعد ذلك مرة أخرى، من يدري؟ واصل القراءة حيثما تستطيع.

اشتهر بايرون بالجنون والشر والخطورة في معرفته، وهكذا، على ما يبدو، كانت مذكراته، التي قال أصدقاؤه: إنها شديدة البذاءة، ومن المحتمل أن تلحق الضرر بسمعته وبسمعة زوجته السابقة وابنته، لدرجة أنهم قرروا تدميرها في فعل يوصف أحيانًا بأنه «أعظم جريمة في تاريخ الأدب». ها هو كما صورته «بينيتا إيسلر» في نيويورك تايمز: في يوم الإثنين، 17 مايو 1824م، قبيل الظهر، تجمع ستة رجال في غرفة رسم ذات سقف عالٍ، في 50 شارع ألبيمارل، قُبالة «بيكاديللي»، في منزل كأنه منزل ومكتب للناشر «جون موراي».

لأيام كانت المجموعة تتشاجر فيما بينها. انعكست التحالفات، تطايرت الرسائل ذهابًا وإيابًا، واستمرت الاجتماعات خلال الصباح. بمجرد توافقهم أخيرًا، اندلع جدال بين اثنين من هؤلاء؛ «جون كام هوبهاوس»، وهو برلماني شاب من عائلة ثرية في بريستول، و«توماس مور»، شاعر ولد في دبلن وابن بقال. هددت الكلمات الغاضبة بالتحول إلى عنف جسدي. وأخيرًا ساد قرار المضيف وعاد الهدوء. ثم طلب موراي (الناشر) من ابنه البالغ من العمر ستة عشر عامًا الانضمام إليهم لكونه وريثًا لأعمال والده، حيث دُعِيَ لمشاهدة حدث بالغ الأهمية. ظهر خادم يحمل مُجلَّدَيْنِ من مجلدات المخطوطات. بينما اقتربت المجموعة من النار المشتعلة في الموقد، أخذ اثنان آخران، وهما «ويلموت هورتون» و«الكولونيل دويل»، الكتب ومزقاها وزوَّدَا ألسنة اللهب المتلألئة بالصفحات المغطاة بخط اليد، المألوف لجميع الحاضرين. في غضون دقائق، تحولت مذكرات جورج جوردون، اللورد بايرون السادس، إلى كومة من الرماد. بالطبع، هذا محير بشكل لا يطاق: ما الشيء المروّع الذي جعل أصدقاءه يقررون تدمير الأدلة؟ وماذا سيكون شعورنا حيال ذلك اليوم، إذا علمنا بما احتوته المجلدات المحترقة؟ ربما لن نعلم ذلك أبدًا، ولكن مرة أخرى، أنت تعرف ما يقولونه عن المخطوطات.

كارلايل وتوماس كارلايل

إليك نصيحة: إذا كنت تريد أن توفر على نفسك كثيرًا من المتاعب، فلا تقرض كتبك. أو في الواقع، لا تعر مخطوطتك غير المنشورة، تلك التي كنت تعمل عليها منذ شهور، ولا سيما عندما تكون نسختك الوحيدة. في عام 1835م، طلب «توماس كارلايل» من صديقه «جون ستيوارت ميل» أن يقرأ مسودة كتابه «تاريخ الثورة الفرنسية»، الكتاب الذي اعتقد أنه «سيحقق أخيرًا سمعته الأدبية»، ولكن ذات ليلة، جاء ستيوارت ميل إلى بابه ليعترف بحقيقة مروعة: لقد أخطأت الخادمة في المخطوطة على أنها نفايات وأحرقتها.

لكن هل كانت هذه هي الحقيقة؟ كما كتبت راشيل كوهين في نيويوركر: في البداية، لا بد أن كارلايل كان لديه، كما نفعل نحن، أسئلة معينة. كان منزل «ميل» مليئًا بالمخطوطات القيمة؛ لماذا تستولي الخادمة على الصفحات الأولى التي تراها وتستخدمها في إشعال النار؟ يبدو أن ميل قد وضعها في كومة مخصصة للنفايات؛ هل كان هناك شيء وراء إهماله؟ هل كان يشعر بالغيرة من إنجازات كارلايل، أم إنه كان منزعجًا من أن كارلايل قد وضَّح وشرح مجيء الديمقراطية بشكل مختلف تمامًا عما قد يكون ميل قد فعله؟ بعد كل شيء، أراد ميل ذات مرة تأليف كتاب حول الموضوع نفسه، وهو أمر مريب. لكن لم يكن الأمر مهمًّا، في النهاية، بعد بداية صعبة، أعاد كارلايل كتابة «تاريخ الثورة الفرنسية»، وعندما نُشر في عام 1837م، كتب ميل مراجعة متوهجة يقول فيها: «لم يُنتَج أي عمل عبقري أكبر، سواء أكان تاريخيًّا أو شعريًّا، في هذا البلد لسنوات عدة». ربما باستثناء الإصدار الأول.

غوغول يحرق «الأنفس الميتة»

في عام 1841م، أدى نشر الجزء الأول من «الأنفس الميتة» إلى جعل «نيقولاي غوغول» عملاقًا أدبيًّا، لكن بينما كان يعمل في الجزء الثاني لبقية حياته (نعتقد)، لن يراه أحد أبدًا؛ لأن غوغول أحرق الصفحات قبل مدة وجيزة من وفاته. أما سببُ فعل ذلك بالضبط، فإن التقارير تختلف. قرب نهاية حياته، تحول غوغول إلى الدين، وازداد زهده تحت تأثير الأب «ماتيفي قونستانتينوفسكي». تخلى عن بعض أعماله السابقة، ومزق بعضها. يتكهن بعضهم أنه بدأ في العثور على أنها خطيئة، وأن رجل الدين قد حثه على حرق الجزء الثاني من الأنفس الميتة أيضًا.

لكن من الممكن أيضًا أنه كان مجرد حادث. وفقًا لسيرة ف. جيبيوس (V. Gippius) عن غوغول، في ليلة 11 فبراير 1852م، أخذ الكاتب مجموعة من «دفاتر الملاحظات مربوطة بشريط، ووضعها في الموقد، وأشعلها بشمعة». توسل إليه خادمه أن يتوقف، لكن غوغول أخبره أن هذا لا يعنيه، وأنه يجب أن يصلي. في غضون ذلك، اندلعت النار بعد أن أحرقت زوايا الدفاتر. لاحظ غوغول هذا، وأزال حزمة الأوراق من الموقد، وفك الشريط، ورتب الصفحات بطريقة تجعلها أكثر سهولة، ثم أشعل النار فيها مرة أخرى، وجلس على كرسي أمام النار، منتظرًا حتى تحول كل شيء إلى رماد. ثم، عاد إلى الغرفة التي أتى منها. قبَّل خادمه، واستلقى على الأريكة، وبدأ يبكي. على ما يبدو، أن غوغول لم يكن متأكدًا ماذا أحرق من أوراقه. وقد وَرَد أنه قال في الصباح: «فقط تخيل مدى قوة الروح الشريرة! كنت أرغب في حرق بعض الأوراق التي كنت أنوي حرقها منذ مدة طويلة، لكن بدلًا من ذلك، أحرقت فصول «الأنفس الميتة» التي أردت أن أترك أصدقائي يتذكرونني بها بعد موتي»… وبعد تسعة أيام، مات.

تشارلز ديكنز

في سبتمبر من عام 1860م، بنى تشارلز ديكنز موقدًا خلف منزله في «جادز هيل» وألقى «الرسائل والأوراق المتراكمة لمدة عشرين عامًا» على الأرجح، كما كتب بول لويس في «الديكنزيات»، أكثر من 10,000 فقرة منفصلة. كتب: «لقد ارتفع الدخان مثل الجنيّ عندما خرج من المصباح على شاطئ البحر، ولأنه كان يومًا رائعًا عندما بدأت وأمطرت بغزارة عندما انتهيت، أظن أن مراسلاتي قد غمرت بالغيوم وجه السماوات». كان تفسيره أنه «صُدم من إساءة استخدام الرسائل الخاصة لرجال عموميين»، وبعد ذلك بدأ في حرق جميع مراسلاته تقريبًا. يتكهن لويس بأن الفعل كان له علاقة بالنشر المحرج لرسالة كتبها إلى صديق حول انفصاله عن زوجته والشابة «الفاضلة والنظيفة» التي لم تكن متورطة بالتأكيد؛ يشير آخرون إلى أنه ربما كان قلقًا بشكل مباشر بشأن تفشي سر علاقته مع عشيقته المراهقة، أو أنه كان مجرد نقطة تحول، وينظر بعيدًا من الماضي ونحو المستقبل. هذا لا يفسر سبب استمراره في الحرق، لذلك أنا أراهن على العشيقة.

ثمة كاتب لم ينجح في حرق جميع مخطوطاته، على الرغم من حقيقة أنها كانت وصيته قبل موته. قرب نهاية معركة طويلة مع مرض السل عام 1924م، طلب «كافكا» من صديقه المقرب «ماكس برود» حرق جميع أوراقه بعد وفاته: «عزيزي ماكس، طلبي الأخير: يتم حرق كل ما أتركه ورائي… بما في ذلك المذكرات والمخطوطات والرسائل (الخاصة بي والمخطوطات الأخرى) والرسومات وما إلى ذلك، [يتم] حرقها دون قراءتها». وافق ماكس برود، لكنه لم يفعل ذلك. بل حرَّرَ ونَشَر كثيرًا من أعمال صديقه بعد وفاته، بما في ذلك «المحاكمة»، و«القلعة». في عام 1939م، هرب برود من النازيين إلى تل أبيب، حاملًا معه بقية مخطوطات كافكا. هناك، تزوج من سكرتيرته «إستر هوف»، وعند وفاته في عام 1968م، ترك لها الأوراق. كان من المفترض أن تنشرها وتحميها، لكنها أيضًا خالفت توجيهاته، فبيعت المخطوطة الأصلية لرواية «المحاكمة» مقابل مليوني دولار. بعد وفاتها، تبع ذلك معركة قانونية استمرت 42 عامًا، ادعت بناتها أن الأوراق ملكهُن، لكن المحاكم منحت المخطوطات في النهاية إلى المكتبة الوطنية، وقررت أن «أمنية برود الأخيرة كانت أن يُعهد بعمل حياته، وإرثه المادي، بالكامل إلى المحفوظات العامة». تخطط مكتبة إسرائيل الوطنية الآن لرقمنة الأعمال وإتاحتها للجمهور.

بولغاكوف ومخطوطة تحفته

من المعروف أن بولغاكوف أحرق مخطوطة تحفته، «المعلم ومارغريتا» في عام 1930م، في حالة يأس بعد عامين من العمل، فقط ليبدأ في كتابتها مرة أخرى من الصفر في العام التالي. كان سيعمل عليها سرًّا -لم يُتسامَح مع مثل هذه الأعمال المناهضة للمؤسسة في روسيا الستالينية- لبقية حياته، بل حتى النهاية تقريبًا، على الرغم من أن الكتاب لم ينشر بالكامل إلا بعد مرور ستة وعشرين عامًا من وفاته. المعلم الذي يحمل الاسم نفسه، بالطبع، موازيًا للكاتب نفسه بعدة طرق، يحرق كتابه أيضًا في إحباط، ليعاد إليه من وولاند (الملقب بالشيطان) بالعبارة الشهيرة الآن: «المخطوطات لا تحترق».

لكن المعلم ومارغريتا لم تكن المخطوطة الوحيدة التي أحرقها دون جدوى. وفقًا لـكتاب جي كيرتس. الذي أنجزه تحت عنوان: «مخطوطات لا تحترق: ميخائيل بولغاكوف: حياة في الأدب»، في عام 1926م، في سياق تحقيق مع أحد معارفه، صادرت الشرطة السرية للاتحاد السوفييتي السابق بعض أوراق بولغاكوف، بما في ذلك يومياته ومخطوطة «قلب كلب». طالب بولغاكوف بإعادتهما، لكنه استعادهما بعد ثلاث سنوات، وعند هذه النقطة «أحرق اليوميات على الفور، وقرر عدم الاحتفاظ بمذكرات مرة أخرى. منذ ذلك الوقت، كان يُفترض أن المذكرات ضاعت، حتى ظهور حكومة الغلاسنوست في الاتحاد السوفييتي، وهو ما دفع لجنة أمن الدولة في ذلك الوقت، إلى الاعتراف بأن الشرطة السرية أخذت نسخة، من جزء واحد على الأقل، من اليوميات في عشرينيات القرن الماضي، وظل ذلك محفوظًا في أرشيفها». ثم نُشِرَت في عام 1989م.

  • عن مجلة الفيصل

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *