-
أحمد الشيخاوي
والمرء يقلّبُ أوراق زمننا المرّ ، لا مناص من أن يُقرّ بأنّا لن نقطف سوى الجيل الذي بذرناه . من هنا ينبثق السؤال الجوهري المؤرِّق : لماذا غرور الكبار وإصرارهم المقيت على تكرار هذا الجيل؟كأنهم يريدون نُسَخا طبق الأصل من الأجداد، أدمغة وذائقة ، مع أنهم عاشوا زمنهم على سجيتهم ووفق ما يشتهون ،ونسجوا أحلامهم دون أن يتدخّل في مغامراتهم أحد ، ولو أنّه ما بين التّوجيه والتنمّر بونا شاسعا.
إن ضغط الكبار على هذا الجيل ، نجم عنه انحراف وعقوق وموت عاطفي رهيب ، فلم كامل هذا القمع الذي نربي به موتنا.
من جهة يُفتي الكبار بأن التقنية الحديثة والثورة التكنولوجية أشبه ببعبع،ومن جهة ثانية ، يتركون لهم الحبل على الغارب ، في مواجهة الجوانب السلبية وما يخدّر ،مُجرِّدا هذه الوسائط، من براءتها .
من أبشع صور العمالة في التاريخ العربي ، تحضرني قصة الأصلع ابن العلقمي ،الذي كان ينقل للسفاح المغولي هولاكو ، أسرار بلاط بغداد ، قبيل احتلالها فاحتلال العراق بالكامل وإبادة أهله بوحشية كبيرة ومبالغ فيها .
في تلك العصور، كانت الرأس ، أغلى ما يمتلك الإنسان ، وأظنها لم تزل كذلك، بيد أنها لم تعد تخش السيّاف، بقدر ما تتجاهل سياسة التخدير ،وتغفل عن سحر مفعوله.
لقد جسّدت الرأس الحليقة لذلك الخائن ، مسوّدة ،ماانفكّ يلونها بأسرار الدولة ، كي يقدمها هدية على طبق من ذهب لسيده هولاكو، ومما أذكى هذا التواطؤ ، وأجّج مثل هذه الخيانة ، ضعف الخليفة المستعصم بالله ،وعجزه وانشغاله عن الأخطار الخارجية بمجالس السمر ومعاقرة الخمر ومعاشرة النساء.
وهي صورة نمطية للخلافة ، بعد أن فقدت ملمحها الحضاري والإنساني المطبوع بعالمية الخطاب، عرّت الزعامة العربية ، وأماطت الأقنعة عن الكثير من عوراتها.
من هنا أحاول إيجاد مقارنة ما بين تلك المرحلة ، وزمن استئساد الميديا ، الذي دوّخ هذا الجيل ، وأفسده في المجمل ، بحيث لم ينج من فخاخه إلاّ النزر القليل جدّا جدّا ، بعد أن استثمر مناحي الإيجابية فيه ، فتجنّب إدمانه ، بالتالي ، وعطّل كل أشكال التطبيع معه، أي زمن الميديا والوسائط المخدّرة ، الذي حل محلّ السيّاف ، فهو يعمل على إماتة الأجيال ببطء ، بعد أن ينخر العقول ويخدر ويعربد كيفما يشاء ، برعاية من ارتأوا فيه بديلا لكاريزما السيّاف المأمور الذي ترتعد لمجرّد ذكره الرقاب.
رأس يرعبها سيف الجلادين ، مقابل أخرى تؤله الخدر ،وتسلمّ به واقعا ودستورا سنّه الكبار، فأية معادلة هذه التي تريد أجيالا مستنسخة ،خارج النص والحلم والحقيقة.
ينقلنا هذا إلى ضفة موازية ، لا يمكن إلاّ أن تستفزّ فينا فضولا من نوع آخر ، وترجّ في القلب المدمى ، أصلا ، أسئلة لسنا نبحث عن أجوبة لها ، ابتداء، كونها استنكارية ، وتعقّ سياقها،وتتصرف كمليحة نافرة ، نجردها نكاية في سياسة “استحمار” الأجيال ،عبر سرقة أحلامها المشروعة ، وذرّ الرماد في العيون.
إذ ،ما الغاية من دور الشباب والثقافة ، كعمران تشامخ واشرأبّ وتطاول بهدر وبذخ ، كي تسكنه روح التفاهة ،وتُلبِسهُ لعنتها، على نحو مخجل ، يبصم تصالحات تتناسل معها ، وإن في فرو مغاير وجديد ،كل حين؟
هل حققنا بهذه الهياكل الباردة ،المرتجى الكامن في بناء الإنسان ،وتقديم ما فيه الخلاص لهذا الجيل؟
بصريح العبارة ، لقد أخفق الكبار في تحرير هذا الجيل من عقدة تاريخية كبيرة اسمها جلباب أبي،كضرب من وأد الأحلام.
إن اللامركزية الثقافية ، كأفق مواز للتنوير والترفيه والسمو بالذائقة والتوعية إلخ … تحتّم علينا مقاربة جدلية التكنولوجيا وهوية جيل له الحرية ،كامل الحرية في عجن أحلامه ،دون تخّل فيه ، من غير بخل عليه بتوجيهات تنير له الدرب ، وتعينه على التخفف من رواسب دوخة أملاها عمران ثقافة التفاهة.
أقول هذا لأني أعيش في وسط ، تغتال طفولته وشبابه حمّى هذا التخدير ،وإن كنت أستنكر غياب وجود جناح لرعاية الطفولة والشباب، ضمن مرافق المجالس القروية ، والجاني الأكبر بالطبع هو سياسة الغباء ، والتمادي في رسم استراتيجيات تفريخ مؤسسات ” ثقافية” فاشلة ، لم يخط باعتمادها، حال القضاء على الانحراف والجريمة وظواهر المخدرات والشذوذ والظلامية ، مقابل تفجير الكامن من طاقات في هذا الجيل ، لم يخط أو يحرز تقدّما ، قيد أنملة. ونختم بالحكمة الصينية القائلة ” لا تعطني سمكا بل علمني كيف أصطاده ” ، باعتبار هذا لونا من التوجيهات التي نريدها لأجيال لن يوجعنا قطوفها ، مستقبلا ، وإلاّ فسوف نكون في صفّ الكبير المتذاكي والذي يربّي في صغاره ، موته .
- كاتب من المغرب