-
آدم فتحي
لم يدّخر المهدي المنجرة جهدًا في دعوة العرب نُخبًا وشُعوبًا وحُكّامًا إلى إيلاء الدراسات المُستقبليّة ما تستحقّ من اهتمامٍ باعتبارها مسألة حياة أو موت، فلا بقاء في نظره إلّا لمَنْ ينظر إلى أبعد من أنفه، وإلى أبعد من جيله، وإلى أبعد من عهدته النيابيّة أو الرئاسيّة.
يُشير زيغمونت بومان عَالِمُ الاجتماع الإنجليزيّ ذو الأصول البولنديّة في كتابه «ريتروتوبيا» الصادر سنة 2018، إلى أنّ «المُستقبل» المحلوم به لم يعد جذّابًا، بل أصبح أفقًا مُخيفًا نتيجةَ التقدُّم التكنولوجيّ المُتوحّش الذي يهدِّد ديمومة العمل البشريّ، ونتيجةَ التنافُس المتصاعد بين الجميع حدَّ إنتاج الليبراليّة المُتوحّشة، ونتيجةَ تَراجُع الديموقراطيّات وفشل الدولة الاجتماعيّة.
مفكِّرون كثرٌ يشاركون بومان نظرته التشاؤميّة، وكأنّ الحاضرَ الكونيَّ لم يعد سوى شاهدٍ على انهيار شامل يغطّي جميع الوجوه. انهيار صدَّ الفرد عن النظر إلى المُستقبل باعتباره فضاءً مفتوحًا أمام الأمل، ورجّح لديه أنّ المُستقبل لن يكون سوى مرحلة انهيار أشمل وتدهور أكبر. من ثمَّ حلّ الحنين إلى الأمس محلّ الحلم بالغد وكأنْ ليس في الإمكان أفضل ممّا كان.
يُطلق بومان على هذه الحالة اسم «زمن العودات الكبرى» التي تجعل اليوطوبيا تكفّ عن التحرُّك في اتّجاه الأمام لتصبح نكوصًا وانكفاءً في نوعٍ من المديح العقيم للحلول التي اقترحها علينا الماضي. مؤكّدًا أنّ تشخيصه هذا دعوةٌ إلى اليقظة والعمل، وليس مرثية يائسة. فالحلُّ بالنسبة إليه موجود، ويتمثَّل في أن ننظر إلى المُستقبل وأن نبحث في المُستقبل عن حلولٍ لمآزقنا، عاملين بدعوة غرامشي إلى ضرورة الجمع بين «تشاؤم الذّكاء وتفاؤل الإرادة».
آدم فتحي
في مثل هذا السياق أفتقِدُ المهدي المنجرة، وأنظرُ إلى نهجه فأرانا في أمسّ الحاجةِ إليه، اقتداءً ونقدًا وتطويرًا. وإنّي لَأُمعِنُ النظرَ فيما حَظِيَ به فكرُ الرجل منذ رحيله سنة 2014 فأراه دون المطلوب بكثير. وقد يكون لمرضِ جانبٍ كبيرٍ من الثقافة العربيّة بماضيها، بعض المسؤوليّة عن ذلك. إذ كيف لثقافةٍ لا تكفّ عن الإقامة في ماضيها، ولا تكفّ عن البحث عن خلاصها فيه، أن تنتبه بما يكفي إلى عَالِمٍ من عُلَماء المُستقبليّات؟!
لا أدّعي في هذه المُداخلة المُوجزة الحلول محلّ أهل الاختصاص، فأقصى ما أهدف إليه هنا لفت الانتباه، وتوجيه تحيّة «رمزيّة» لمُفكّرٍ من أولئك الذين أثبتوا أنّ العلم والشعر يلتقيان في مجالاتٍ كثيرة، على رأسها مجال المُستقبليّات. وهو مجال لدراساتٍ لا تُعادِي أحلام الشعراء بقدر ما تستنير بها، ولا تُخاصم الماضي بقدر ما تستفيد منه. لذلك ما انفكَّ المهدي المنجرة يدعو إلى دراسة التاريخ مؤكِّدًا أنّه كلّما اهتمّ بالدراسات المُستقبليّة «ازداد شعورًا بالحاجة إلى ترسيخ رؤيته على أُسُسٍ تاريخيّة صلبة».
أذكر هنا ذلك الحوار الذي أداره أفلاطون في «فيدروس»، بين الفرعون ثاموس وهرمس أو تحوت الذي وقف أمام الفرعون يعرض عليه اختراعًا سيغيّر مستقبل البشريّة، هو الكتابة، فخيَّب الفرعونُ ظنّه، مشيرًا إلى أنّ الذاكرة موهبة عظيمة لابدّ من تعهّدها بالممارسة المستمرّة، وأنّ اختراعًا كهذا قد يجعل البشر يعتمدون على «أداة خارجيّة» فيكفّون عن تنمية تلك الموهبة «داخلهم».
علّق أمبرتو إيكو على هذا الحوار في محاضرته بمكتبة الإسكندريّة بتاريخ 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2003، مؤكِّدًا أنّ التاريخ أثبت تهافُت فكرة ثاموس، فالكتابة لم تقتل الذاكرة، بل منحتها مزيدًا من أسباب النموّ… ولعلّه كان يستطيع أن يقول أيضًا، إنّ ثاموس كان «يتذكّر المُستقبل»، لأنّه كان مفتقرًا إلى كلّ ما مدَّنا به علم المُستقبليّات من أدوات تحليل ومناهج تفكير…
من هذا المنطلق أنظر إلى ضرورة الانتباه إلى ريادة مفكّرٍ مثل المهدي المنجرة، لمع نجمه في مجال البحث الاقتصاديّ والاجتماعيّ والحضاريّ، وتحديدًا في مجال الدراسات المُستقبليّة، وأصبح ذا صيتٍ عالميّ غير مسبوق، وترك العديد من المُؤلَّفات القيّمة التي تحتاج إلى محاورةٍ حقيقيّة، مثل «من المهد إلى اللحد» و«الحرب الحضاريّة الأُولى» و«الإهانة في عهد الميغا أمبرياليّة».
في كتابٍ ضمَّ مجموعةً من المحاضرات بعنوان «قيمة القيم» أشار إلى أولئك الذين ما انفكّوا يعتبرون الدراسات المُستقبليّة طوباويّات غير علميّة، مؤكّدًا أنّها رؤية للمستقبل لا غِنًى عنها لأيّ إستراتيجيّة أو سياسة تنمويّة. كما وضَّحَ الفرق بين التخطيط والمُستقبليّات، مُلِحًّا على أنّ التخطيط ضروريّ ومُهمّ وهو يقوم على «تحليل المعطيات بمقاييس وخيارات تسمح بإسقاطات ميكانيكيّة شيئًا ما»، أمّا المعيار المُستقبليّ فإنّ «إسقاطاته ليست خطيّة، لأنّها تأخذ بعين الاعتبار التغيُّرات النوعيّة والطفرات المُهمّة».
لم يدّخر المهدي المنجرة جهدًا في دعوة العرب نُخبًا وشُعوبًا وحُكّامًا إلى إيلاء الدراسات المُستقبليّة ما تستحقّ من اهتمام باعتبارها مسألة حياة أو موت، فلا بقاء في نظره إلّا لمَنْ ينظر إلى أبعد من أنفه، وإلى أبعد من جيله، وإلى أبعد من عهدته النيابيّة أو الرئاسيّة. ما فائدة مخطّطات التنمية «إذا لم تتجاوز المدى المنظور» ولم تضع في حسابها تغيُّر الظروف الموضوعيّة والذاتيّة؟ ما فائدة خطط إصلاح التعليم إذا كان الوزراء الداعون إليها لا يهتمّون إلّا «بما يستطيعون جني ثماره خلال فترة اضطلاعهم بالمسؤوليّة»؟
يتطلَّب إصلاح التعليم، في نظر المنجرة «الاهتمام أساسًا بعقليّة الذين سيطبّقونه»، لأنّ الأشخاص الذين سيدرّسون حوالي عام 2020 هم تلاميذ المدارس عام 2000، فكيف يُصلحون خطأً تربَّوا عليه؟! ويضيف قائلاً: «إذا كانت الدراسات المُستقبليّة تفترض توقُّع الخطأ فلأنّها تبحث عن المرغوب فيه ولا تقتصر على الممكن».
سنة 1989 شارك المهدي المنجرة في ندوة تناولت الثورة الفرنسيّة، وقدَّم ورقةً مُدهشة تكاد تتوهّج بما شهدته البلاد العربيّة بداية من سنة 2010 و2011، إلى درجة استشراف الشعارين الأساسيّين اللذين ضجّت بهما الشوارع: الحرّيّة والكرامة. في تلك الورقة أشار المنجرة إلى أنّ «الإشكاليّات التي عرفها مجتمع فرنسا سنة 1789 أصبحت كونيّة»، وأنّ الثوّار ما كانوا لينجحوا في شيء وقتئذ لولا قدرتهم على إبداع منهج وأسلوب وأدوات إجرائيّة ووسائل قادرة على الخروج بهم من تلك الإشكاليّات.
المشكل الحقيقيّ لمستقبل البشريّة وبقائها، كما جاء في تلك الورقة، هو أن نعرف إنْ كنّا قادرين على الإبداع في التمسّك بالكرامة الإنسانيّة، بما يكفي للوصول إلى الثورة دون دفع الثمن في شكل أرواحٍ بشريّة…
نتمعَّن في مرحلتنا الراهنة، فنشعر برشاقة هذه الفكرة، فكرة الإبداع. إذ بالإبداع وحده استطاعت الجماهير أن تحوِّل الأدوات التكنولوجيّة الحديثة إلى ثقافة، وأن تبتكر قيادة جماعيّة لحركتها، وأن تقتصد في الدم. لكن هل تواصل هذا الإبداع؟ هل احتكم «راكِبُو الموجة» إلى قوانين جديدة؟ هل غيّروا الخيارات؟ هل استنبطوا ميكانيزمات مُختلفة؟ أم أعادوا إنتاج نفس القوانين والخيارات والميكانيزمات والمناهج؟
بعبارةٍ أخرى: هل أحسنَ «أبناءُ التكنولوجيا الرَّقميّة» اختيار «ممثّليهم»، وهل عبّروا عن ذهنيّة مختلفة تستطيع التأقلم مع فائض الحرّيّة وفائض المطلبيّة الراهنين، أم أنّهم سرعان ما استسهلوا إعادة إنتاج جوهر المنظومة التي ادّعوا مواجهتها؟
سؤالٌ يعود بنا إلى سؤال المنجرة: «هل في وسعنا دون تشاؤُم ملاحظةُ الخطر الذي يتهدَّد المجتمعات المُتقدِّمة، حيثُ باتت الحرّيّة تُمارَسُ لا ككرامةٍ سامية، بل كرفاهية»؟ تشاؤمٌ يشملُ الدول «المُتقدِّمة»، فما بالك بالأخرى؟، حيث يُقصِي التكتيكُ الإستراتيجيا ويبدو التفكيرُ بعيدُ المدى في نظر البعض «بلا فائدة إجرائيّة على المستوى السياسيّ» مادام يتجاوز «عهدتهم السياسيّة».
وعلى الرغم من ذلك يظلّ الأفق مُشرَعًا أمام ذوي الإرادة. ولعلّنا نلتقي فيه بمفكِّرين ومبدعين، عرفوا مثل المنجرة كيف يجيئون من المُستقبل، وكيف يرحلون بنا إليه، كي لا نصدِّق أنّ المُستقبل وراءنا.
-
عن الدوحة الثقافية