مدينة باجة: مطمورة التاريخ وسلة الغذاء التونسية

*أشرف الملاح

في منطقة الشمال الغربي الأكثر خضرة في تونس، تقع مدينة (باجة) عاصمة ولاية (باجة).. مدينة الخيرات وتمازج الحضارات. عرفت (باجة) في العهد الروماني باسم (فاغا) وهي تحريف لاسم فينيقي بوني هو (فاكا)، باعتبار أن من أسّسها بدايةً هم الفينيقيون الذين عرفوا بـ(الحضارة البونية)، لتعرف في عصر الإسلام باسم (باجة) القمح) لسبب وجود مدن أخرى في تونس وخارجها تحمل هذا الاسم.

تتكون (باجة) من مدينتين، واحدة قديمة ذات طابع عربي إسلامي فيها العديد من المعالم الدينية والثقافية والأسواق، وأخرى حديثة بنيت في زمن الاستعمار الفرنسي للبلاد ويهيمن عليها الطابع الأوروبي. ويعتبر البعض أن هناك مدينة ثالثة في (باجة) وتضم الأبنية التي تم تشييدها بعد الاستقلال، والتي توسعت من خلالها المدينة، وهي في الأساس عمارات سكنية ومبانٍ إدارية ومدارس والكثير من المرافق العمومية، جعلت المدينة تتوسع وتنفتح على محيطها من المدن والقرى التابعة لولايتها في الأساس.

تعتبر (باجة) ومحيطها مصدراً مهماً للغذاء في تونس، بالنظر إلى خصوبة الأراضي الزراعية وأهمية سقوط الأمطار فيها، وكثافة الإنتاج من مختلف أصناف المنتوجات الزراعية، وخصوصاً الكبرى منها، حتى جرت تسميتها بلد (المندرة والصابة).

وتتميز بموقعها الاستراتيجي التاريخي والجغرافي الذي تحتله، فكما هي مركز تمازج للحضارات ومركز حضاري. وبالتاريخ المدون، لها ما يقارب الـ(3500) سنة من التاريخ. كذلك هي مركز تقاطع الطرقات الحضرية، إضافة إلى تمركزها فوق مجموعة من الربوات ذات العيون العذبة المتدفقة التي لا تنضب، ما جعل هذه المدينة مركزاً للخيرات منذ القدم، وليطلق عليها في العهد الروماني (مطمورة روما) كدلالة أخرى على ثرائها وكثرة خيراتها.

ومن أهم معالم (باجة)؛ سورها الذي تهدم إبان الوجود الفرنسي، ويضم عدداً كبيراً من الأبواب، وهو التخطيط المعتمد في جل الحواضر العربية والإسلامية. ومن أشهر الأبواب في (باجة) باب العين، وباب الجنائز، وباب السبعة، وباب السوق، وباب جديد وغيرها.. ومن هذه الأبواب ما هو روماني، ومنها أيضاً ما يعود إلى العصور الإسلامية، وهو ما يقيم الدليل على الثراء الحضاري للمدينة.

ومن المعالم التاريخية التي مازالت صامدة أمام حركة الزمن، القصبة التي تقع على ربوة شديدة الانحدار، وهي قلعة تاريخيّة بنيت في القرن (2 ق.م) من قبل القرطاجيين لإحكام السيطرة على المدينة من جهة، ولحمايتها من الغزاة من جهة أخرى. وتفطنت الحضارات المتعاقبة على البلاد إلى أهمية قصبة (باجة) فأولتها العناية اللازمة ترميماً وتجديداً وتوسعة، وسارت على نهج هذه الحضارات دولة الاستقلال التي اعتبرتها كنزاً أثرياً مهماً وتراثاً إنسانياً وجبت حمايته.

وتضم (باجة) العديد من المساجد القديمة، لعل أشهرها الجامع المنتصب في قلب المدينة العتيقة وهو الجامع الكبير أو الجامع العتيق أو الجامع الأعتق، وهو من أقدم معالم (باجة). وممّا يلفت الانتباه؛ الصومعة المتأثّرة بالفنّ الموحّدي والمَزْوَلة بصحنه، والنقيشة اللاّتينيّة المُثبّتة في الجدار المحاذي لباب العين، وقد بني سنة (944م) من قبل الفاطميين، وهناك أيضاً جامع (الباي) ويسمى أيضاً الجامع الحنفي، بصومعته الأندلسية.

ومن زوايا مدينة (باجة)؛ الزاويّة الصمادحيّة، والزاوية القادريّة الباجيّة، ومن مدارسها المدرسة الحنفيّة.

وتعتبر الأسواق من أهم معالمها العتيقة التي يجد فيها المرء ضالته من كل أنواع المنتوجات الحرفية والغذائية وغيرها.. ويشعر فيها المرء بالأهمية الاقتصادية للحاضرة الشمالية الغربية للبلاد التونسية. وتشتهر بصناعة الحلويات أيضاً.

وحين نبحث في مشهدها الثقافي؛ تنهض أمامنا مهرجاناتها، حيث تقام في المدينة العديد من المهرجانات المتنوعة شكلاً ومضموناً، ما يسهم في إضفاء حركية على المشهد الثقافي وعلى مدار السنة، وأهم هذه المهرجانات على الإطلاق، هو المهرجان الصيفي الذي يكاد يكون المتنفس الوحيد للمدينة خلال فصل الصيف. ومن بين أهم المهرجانات في (باجة)، الأيام المسرحية التي تقام في فصل الربيع، حيث استطاعت الفرق المسرحية في (باجة) أن تفرض نفسها في السنوات الأخيرة، وباتت تحظى باهتمام المتابعين للشأن الثقافي بالنظر لما تقدمه من أعمال هادفة.

ومن تقاليد مدينة (باجة) السنوية، والتي تتصل بالتراث الصوفي، ما يسمى بالخرجة السنوية للولي الصالح سيدي بو تفاحة الذي يتبرك به أهل المدينة ويحرصون على زيارته بالنظر إلى تجذر الفكر الصوفي في المدينة. والخرجة هي نقل للإنشاد الصوفي إلى خارج الزوايا، وتحديداً في الأزقة والطرقات، وتستعمل فيها بعض الآلات الإيقاعية مع رفع السناجق والأعلام التي تخص هذا الولي الصالح أو ذاك طوال عملية التجوال للمنشدين والمريدين.

(باجة) مدينة السنابل واللقالق، تزهو بسنابلها الذهبية وتاريخها وتقاليدها وعاداتها التي تتفرد بها بين المدن، وليبقى طائر اللقلق رمزاً لـ(باجة)، واستبشرت بمروره من فوق الملعب جماهير ناديها لكرة القدم، واعتبرته طالع خير لتسجيل الأهداف والفوز في المباريات، وأن المدينة كطائر الحلم الذي يحمل أحلام الناس إلى مداها.

 

  • عن الشارقة الثقافية

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *