التاريخ الطبيعي للحب

*ديان أكرمان / ترجمة: بندر الحربي

منذ قِدَم التاريخ، في مصر واليونان وروما، ومن العصور الوسطى إلى الحديثة، يوصَف الحبُّ بالهذيانِ القديم، والرغبةِ الأزليَّةِ، التي تسبق الحضارة بجذورٍ تمتدُّ عميقًا. هو ما أوصلَ الشاعر أوفيد إلى لَوْعَةِ القلب، والروائيَّ ستندال إلى العناء الطويل. شيءٌ قد تشعله نظرةٌ من طرف عين. يراه أفلاطون نصفَ الإنسان المفقود، بينما يُفسره العلماءُ المعاصرون بمزيج الكيمياء الحيويَّة من الأوكسيتوسين والفينيثيلامين. أمسَت كليوباترا وهي تستحضر رومانسية الشرق وسحره، رمزَه الخالد بعد موتها بآلافِ السنين. وأضحَت قصة الفيلسوف أبيلار وهيلويز من روائع قصص القرون الوسطى، وما فتئ فرويد يحلل منشأه وملامحَ أعراضه.

في كتاب “تاريخٌ طبيعيٌّ للحبِّ”، تفتش الشاعرة والكاتبة الأمريكية ديان أكرمان، المنتمية إلى المدرسة الطبيعية في الفنِّ والأدب، عن الحبِّ في صفحاتِ التاريخ، ومقولاتِ الأدباء، وفي علم الأحياء، وأشكال الثقافة الشعبية وموروثها، في بحثٍ دوؤب يبدأ من قمم الشعر إلى وِديان العلم السرية، فسُهول التأملاتِ الشخصية، بنبرة وقدراتٍ أنثوية واثقة، كما يصف ذلك أحدُهم.

وتبحث عن أفكار الحبِّ التي نشأتْ في شتى العصور، فمثلاً جاءت أغلب أفكارُ الحبِّ في العصور الوسطى من كتبِ مفكِّري العصر الوثنيِّ القديم والمسيحيِّ النادرةِ التي ضمَّتْها مكتباتُ الأديرة والكاتدرائياتِ. تلك التي احتوَت أيضًا ترجماتِ عدد قليل من الكُتَّاب اليونانيِّين والرومانيِّين، ومن بينهم أفلاطون وأفكاره عن التخلِّي عن العالم المجسَّد، وهجْر مُتَع الجسد.

وعن صور الحبِّ الكثيرة، تقول في الوجه: “أغمِض عينيْك وتخيَّل شخصًا تحبُّه، بدون أنْ تشعر ستبتسمُ، وستميل برأسِك قليلاً وأنت تدقق بالصورة ليملأ الدفء فؤادك”. وكما يقول الشعراء: “صورةٌ واحدةٌ كافيةٌ لتُبحِر من أجلِها ألف سفينة”. وهذا ما يحدُث في قلب الأم نحو طفلِها.

الحبُّ معنى مُجَرَّدٌ عظيم، يُدْرَك بالذِّهن دون الحواسِّ. في الكوابيس المخيفة، يُمكن أنْ نُجسِّد وحوشًا من أحاسيسَ مُجَرَّدة؛ فتجولُ الكراهيةُ في الطرقاتِ بأنيابٍ تقطرُ دمًا، ويهبط الخوفُ بجناحيْه الجلدييْن في الأزقة الضيقة، ويغزلُ الحَسدُ شِباكًا لزجة في عنان السَّماء. أمَّا في أحلام اليقظة، فيُمكننا المناورة بين الشعور برَزَانة الفوز، وإحباط الهزيمة، ونستطيع أنْ ننطلِقَ إلى قلب الخطر؛ لنسجل أعلى النقاط في ساحاتِ المجد، وسط هتاف الجماهير.

ولكن! كيف يبدو الحبُّ في الأحلام؟ أجامحًا وصافيًا، أم حَذِرًا وهادئًا، أم ضَعِيفًا ومُحصَّنًا، أم طائِشًا حينًا ورزينًا حينًا آخر. يقود الحبُّ جيشًا كبيرًا من الحالاتِ المزاجية. وهم مُتعَبين من أثر الاشتباك الأخير، يدخل المحبون ساحة القتال برباطة جأش، متطلِّعين إلى النصر مرة أخرى، فجَرَاءَة المحبِّ كجسارة المُجَالِد.

عندما أضع موشورًا زجاجيًّا على حافة النافذة، وأدعُ أشعة الشَّمس تنساب من خلاله، فإنَّ طيفًا عريضًا من الألوان المتداخلة سوف يتراقص فوق أرضية الغرفة. إنَّ ما نسميه اللون “الأبيض” ما هو إلَّا أشعة قوس القزح الملونة، متراصَّة في حيزٍ ضيق، أطلقها الموشور الزجاجيُّ.

إنَّ الحبَّ يمثل ذلك اللون الأبيض بالنسبة للمشاعر، فهو مُفعَم بأحاسيسَ شَتّى بين الكسل والاضطراب، تحتشدُ في كلمةٍ واحدة لَطِيفة. والفنُّ هو الموشور الذي يُطلقُها، ثم يتتبَّع تقلُّبات إحداها أو بعضها، وعندما يفكك الفنُّ هذا التشابك المتراصَّ من الأحاسيس، يبقى الحبُّ هيكله الوحيد، ولكن من الصعبِ قياسه أو تحديده.

يقول الجميع: إنَّ الحبَ رائعٌ وضروريٌّ؛ ومع ذلك لا أحد يعرف ماهية الحبِّ على وجه التحديد. سَمعتُ في إحدى المرات تعليقًا لأحد المعلقين الرياضيين: “لقد أدى كلَّ المجرداتِ، دعْه يؤدي رقصته!”.

الحُبُّ، هذه الكلمة الخفيفة التي نستخدمها لفكرة هائلة وعظيمة، غيَّرَت مسار التاريخ، فقد روضَت الوحوش، وأطلقَت شرارة الإبداع الفنيِّ، وأبهجَت البائسين، ورقَّقَت قلوب القساة، وواست المُستَعبَدين، وطاشت بعقول الحكماء، وكَسَت البسطاء جلالًا.

كيف يُمكن للحُبِّ الرحب أنْ ينتقلَ في مقطعٍ لفظيِّ ضيق؟ لو أردنا تتبُّع مصدر هذه الكلمة، فإنَّ التاريخَ ضبابيٌّ ومُشوَّش؛ إذْ تعود هذه الكلمة إلى اللغة السنسكريتية، وأعتقد أنَّ الاشتقاق يبتعد أكثرَ من ذلك الزمن، إلى كلمة من مقطعٍ واحد ثقيلٍ على اللسان؛ كإيقاع دقة القلب.

الحُبُّ هذيانٌ قديم، ورغبةٌ أزليَّةٌ، تسبق الحضارة، وجذوره تمتدُّ عميقًا لتلك العُصور الغامضة السحرية.

إننا نستخدم كلمة الحب بطُرق على غير هدى، للدلالة على اللا شيء أو كل شيء! إنها الكلمة الاشتقاقية الأولى التي يتعلمها دراس اللغة اللاتينية، وهي المُحرض الأول لمقترفي الجرائم؛ فيُقال: “ارتكب فعلته بدافع الحبِّ”، ثم نتنهد قائلين: “هذا هو السبب إذًا!”. في الواقع، يصدُر حكم بالعفو عن القتلة في بعض دول أوروبا وأمريكا الجنوبية، لو ثبت أنَّ دافع الجريمة كان عاطفيًّا. إنَّ الحبَّ مثل الحقيقة، محميٌ ومصانٌ. أَيًّا كانَ قائل هذه العبارة: “إنَّ الحبَّ هو المحرك الأول للعالم ” -وهو شخص فرنسيٌّ مجهول- فمن المحتمل أنه لم يفكر بالآلياتِ الكونية، ولكن الحبَّ ينساب بطريقة ما في آلة الحياة جيلًا بعد جيل. عندما ننظر إلى الحبِّ كقوةٍ إيجابية، فإنَّ ذلك يعظّم إحساسنا به بشكل ما.

في القصص الشعبية، يبتلع الفتيان الطائشون أقراصَ الحبِّ، وسرعان ما يفقدون قلوبهم!. وكذلك الحال مع مدمراتِ العقل، يأتي الحبُّ بمظاهر وقوى متنوعة، بباقةٍ ممزوجة، وقد يتضمن مكوناتٍ لاذعة.

من المفارقاتِ، أننا في بعض الأحيان ننظر إليه كوحدة نهائية، فهو في الحقيقة ليس بالرتيب أو المُطَّرد؛ إنه يشبه الأقمشة الملونة، مصنوع من ألوان أحاسيس متنوعة، كنسيج قد يختلف تصميمه ودرجات ألوانه.

ومع أننا نعرفه بكلمةٍ واحدة، فإننا نتحدَّث عنه بوصفه شيئًا قابلًا للزيادة أو نسبة غير ثابتة. قد يسأل الطفل والدته: “كم تحبينني؟” ولأنها لا تستطيع الإجابة، فإنها تفتح ذراعيْها واسعًا إلى أقصى مدى، وكأنها تستقبل أشعة الشمس أو تحتضن الفضاء، وتُوَسّع بين أصابعها، لتحيط بكلِّ الكون، ثم تقول: “بهذا الحجم! بل فكّر في أكبر شيء يمكنك تخيله، وضاعِفْه، أنا أحبك بحجمه مائة مرة!”.

عندما كتبَت الشاعرة إليزابيث باريت براونينغ، السونيتة المشهورة “كيف أحبك؟” فإنها لم “تحسب الطرق”، لأنها أدركتها حسابيًّا في عقلها، بل لأنَّ الشعراء الإنجليز لا يزالون يبحثون عن الإشاراتِ الشخصية في حياتهم.

إنَّ المجتمع الذي نعيش فيه يدفعنا لأنْ نتوارى خجلًا إذا أحببنا، وبالكاد نعترف بوجوده، بل حتى النطق بهذه الكلمة يجعلنا نتعثر ونخجل، ولكن ما الذي يجعلنا نشعر بالخجل من عاطفة جميلة وطبيعية؟! عندما أدرّس طلابي، أكلفهم في بعض الأحيان بأنْ يكتبوا قصيدة حب -كواجب منزليٍّ، وأقول لهم: “أتقنوا، وتفرَّدوا، وصِفوا، ولكن دون ابتذال، أو استخدام كلمات جارحة”. جزءٌ من أهداف هذا الواجب أنْ يفهموا كيف يكون الحبُّ طبيعة فينا.

الحبُّ أهم شيء في حياتنا، عاطفة قد نقاتل ونموتُ من أجلها!، ومع ذلك نحجم عن معرفة حقيقته. وبدون وفرة المفردات، لا نستطيع أنْ نتكلم أو أنْ نفكر فيه مباشرةً. وفي المقابل لدينا أفعال حادة يؤذي بها البشر غيرهم؛ عشرات الأفعال المتدرجة باختلاف طفيف عن فعل الكراهية، ولكن من المؤسف أنْ يكون القليل منها فقط للحبِّ. إنَّ مفرداتنا للحبِّ شحيحة؛ الأمر الذي دفع الشعراء لاستخدام كلماتٍ مبتذلة، أو بذيئة، أو يعوزها الأدبُ. ومن حُسن الحظ، قادت هذه الممارسة إلى أعمال فنية إبداعية وغنية، وألهمَت الشعراء لأنْ يبتكروا مفرداتهم الخاصة، كما حدث عندما أرسلَت السيدة براونينغ إلى زوجها مِعْدادًا شاعريًّا للحبِّ! طريقةٌ متكررة لتعبّر من خلاله عن بعضٍ من مشاعرها. ومحبون آخرون يحاولون قياس محبتهم بطرق بارعة؛ ففي قصيدة جون دون “البرغوث” عندما شاهد البرغوث يمتصُّ دمًا من ذراعه وذراع حبيبته، ووصف باستعارة تزاوُج دمائهما في جوف البرغوث.

من المغري أنْ ننظر إلى الحبِّ بأنه متتابع، من الجهالة إلى نور العقل المنير، ولكن هذا سيكون خطأ؛ فإنَّ تاريخ الحبِّ ليس سُلمًا نصعده درجةً درجةً؛ بل إننا مثل البدو الرُحّل، الذين يحملون كلَّ أمتعتهم معهم أينما رحلوا، إنَّ أمتعتنا ثقيلة، ولا نستطيع أن نَعزل أيِّ شيء يجعلنا بشرًا.
___
*حكمة فلسفي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *