السراسين

  • زكريا محمّد

أطلق اسم «السراسينوس» أو «السراقينوس» على العرب من قبل الرومان في حدود القرن الرابع، ثم صار الاسم يشمل العرب والمسلمين جميعاً في أوروبا في العصور الوسطى. لكن هذا الاسم ورد منذ القرن الثاني الميلادي في نصوص البطالمة، لكن كاسم للبدو، وليس للعرب كإثنية. وفي الأدب السرياني، ورد ذكر «السراسين» مع «الطيايا»، الذي يعتقد أنه أخذ من اسم قبيلة طيء، ثم صار أيضاً اسماً للعرب عند السريان والآخرين، بل واسماً للمسلمين حتى. فقد ورد في النصوص السريانية تعبير «طيايا محمد»، أي عرب النبي محمد.

وقد استمر النقاش حول معنى الاسم (سراسين) واشتقاقه زمناً طويلاً جداً. غير أن الفرضية التي قدمها ماكدونالد M.C.A. Macdonald في ورقة بعنوان: «عن السراسين، ونقش الروفا، والجيش الروماني On Saracens, the Rawwāfah Inscription and the Roman Army» وضعت الأساس لحسم هذه المشكلة في اعتقادي. وهذه المادة محاولة لتطوير فرضية ماكدونالد وتصليبها.

حفر ألماني على الخشب من القرن الخامس عشر في ألمانيا

وقد دحض ماكدونالد في سياق ورقته جملة من الفرضيات حول معنى الاسم واشتقاقه. فقد برهن على أن الاسم ليس مأخوذاً من اسم قبيلة كما هو الحال مع الاسم «طيايا». كما ألغى احتمال أن الاسم يعني «السّراقين» من السرقة والنهب. إضافة إلى ذلك، فقد أبطل فكرة أن الاسم آت من الآرامية. ثم قدم فرضيته استناداً إلى نص لموسل الذي اقترح أن الاسم «شرّاقا، شرّاقه» يطلق في سوريا في شمال الجزيرة العربية على البداة المرتحلين إلى أعماق الصحراء وراء العشب. يقول نص موسل الذي ننقله عن ماكدونالد ونترجمه إلى العربية:
«في الجزيرة العربية المعاصرة، يطلق اسم عرب على البدو الذي يعيشون تحت خيام من شعر الماعز، بغض النظر عن موقعهم أو عملهم. أما العرب الذين يربّون الجمال، والذين يعيشون في أعماق الصحراء بشكل دائم، أو لنصف العام فقط، فهم يسمّون بدوا أو شرقية. وكلمة شرقية مشتقة من شرق، وهو التعبير الذي يشير إلى الصحراء الداخلية في وسط الجزيرة العربية. وكل من ارتحل في هذه المنطقة، وبغض النظر عمّا إذا كان سيره غرباً، أو شرقاً، أو شمالاً، يقال له: شرّق، تشرّق، (عبر في أعماق الصحراء). ومن كلمة شرق بمعنى الصحراء الداخلية اشتق الاسم سراقينو أو سراسينو».
ويشير ماكدونالد إلى أن الفعل «شرّق» يرد في النقوش الصفائية بهذا المعنى بالضبط، أي بمعنى الارتحال إلى الصحراء الداخلية، أو أعماق الصحراء.
هذا هو جوهر فرضية ماكدونالد. بذا، فالسراسين أو السراقين هم القوم الذي يرتحلون إلى أعماق الصحراء وراء العشب. أو بكلمة أخرى إنهم البداة الذي يقومون برحلة النجعة مع سقوط أول مطر في الخريف، أو قُبيله، ذاهبين وراء العشب.

الشتاء وليس الصحراء
ويمكن لي أن أتفق تماماً مع ماكدونالد وموسل على جوهر الأمر، أي على أن الاسم «سراسين» على علاقة برحلة التشريق، أي رحلة الانتجاع في أعماق الصحارى. لكنني لا أستطيع الاتفاق معه، ولا مع موسل، على أن اشتقاق الاسم أتى من التشريق بمعنى عبور الصحارى الداخلية. فليس في اللغة العربية ما يشير إلى أن الجذر (شرق) يعطي معنى الصحراء الداخلية، أو الدخول فيها. بالتالي، يمكن القول إن ماكدونالد، واستناداً إلى موسل، حل مشكلة معنى اسم «السراسين»، فهم البداة الذين ينتجعون في الصحاري الداخلية، لكن مسألة اشتقاق الاسم لم تحل. وهدف هذه المادة هو حل مسألة الاشتقاق. واقتراحي رحلة التشريق، التي أخذ منها الاسم (سراسين) مشتقة من معنى الفعل (شرق) الذي يشير إلى شمس الشتاء. فشمس الشتاء تدعى «الشرقة»، كما أن تموضعها في الشتاء يسمى الشرق:
«الشَّرْق والشَّرْقة والشَّرَقة: موضع الشمس في الشتاء، فأما في الصيف فلا شَرقة لها» (لسان العرب). بذا، فالتشريق، أي القيام برحلة الانتجاع، ليس على علاقة بالصحراء، ولا بشروق الشمس، ولا بالذهاب شرقاً، بل يرتبط بالموقع الشتوي للشمس. يؤيد ذلك أن شمس الصيف لا توصف بالشرقة كما رأينا في المقتبس أعلاه. يضيف اللسان مؤكداً: «ابن سيده: والمَشْرَقة والمَشْرُقة والمَشْرِقة: الموضع الذي تَشْرُق عليه الشمس، وخصَّ بعضهم به الشتاء؛ قال [الشاعر]: تُرِيدين الفِراقَ، وأنْتِ منِّي/ بِعيشٍ مِثْل مَشْرَقة الشَّمالِ [أي بعيش رغد طري منعم] ويقال: اقعُد في الشَّرْق أَي في الشَّمْسِ، وفي الشَّرْقة والمَشْرَقة والمَشْرُقة» (لسان العرب). ويزيد: «الشَّرِقة والشارِقُ والشَّرِيق: الشمس» (لسان العرب).

الرحلة إلى أعماق الصحراء وراء العشب تبدأ من طلوع شمس المطر الخريفية – الشتوية

بناءً عليه، فالتشريق هو تبوع الشمس في مطلعها الشتوي. فحين يقال: شرّق أو شرّقوا، فالمقصود أنهم بدأوا في رحلة الانتجاع التي يبعثها تموضع الشمس في موضعها الشتاء. وهذا ما نعرفه عن رحلة الانتجاع والتشريق فعلاً. فهي رحلة تبدأ مع أول مطر، أو تسبقه لكي تتلقاه في أعماق الصحارى. إنها رحلة لمطاردة المطر، ومطاردة العشب الذي ينشأ عنه. ولهذا قال الشاعر «مشرقة الشمال» في المقتبس أعلاه. فقد ربط بين ريح الشمال والتشريق. وريح الشمال تهب شتاءً في العادة، وهي التي تجلب المطر والعشب.
والمطر الأول يبدأ عادة مع الانقلاب الخريفي في نهايات أيلول. لكن الخريف يحسب من ضمن الشتاء. وبعض البداة يبدأ بالحديث عن رحلة النجعة منذ ظهور سهيل اليماني في حوالى منتصف آب. فبظهوره ينكسر الحر، وقد تبدأ بعض الأمطار بالسقوط أحياناً.
بناءً عليه، فالرحلة إلى أعماق الصحراء وراء العشب تبدأ من طلوع شمس المطر الخريفية – الشتوية. وهذه الشمس تدعى «الشرق، الشارق، الشريق، الشرقة» وما إلى ذلك من أسماء.
وهذه التعابير تذكّر بالإله الجاهلي الشهير: الشارق أو الشريق: «وسمّي بالصنم (الشارق) جملة رجال عرفوا بـ عبد الشارق. … و«الشريق» اسم صنم أيضاً. وعندي أنّ الشارق وشريقاً نعتان للآلهة، وليسا اسمين لصنمين، وأنهما في معنى «شرقن» الواردة في نصوص المسند، وتعني «الشارق»، أي اللفظة المذكورة تماماً. وقد وردت نعتاً في نصوص عربية جنوبية كثيرة، مثل جملة: «عثتر شرقن»، أي «عثتر الشارق»» (جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام).
ويبدو أن «الشارق» أو «الشريق» إله محدد مرتبط بشمس الشتاء، أي إنه إله شتوي. بذا قد تكون رحلة التشريق- الانتجاع في الأصل على علاقة بهذا الإله في الأصل، ثم صار الاسم يطلق لاحقاً على رحلة الانتجاع، التشريق، مع بدء نزول المطر، من دون ذكر هذا الإله. هذا هو الحال إذن. وهو ما يعني أن التشريق ليس الارتحال إلى أعماق الصحراء بل الارتحال للانتجاع بناءً على تموضع الشمس الشتوي. إنه مطاردة لشمس الشتاء التي تجلب المطر، الذي يجلب العشب إلى أعماق الصحارى.

رحلة الشتاء والصيف
شيء آخر، فقد كنت تحدثت طويلاً في كتبي عن رحلة الشتاء والصيف التي وردت في القرآن، وقلت إنها رحلة ترنّح الكون بين صيفه وشتائه، أي رحلة الانقلابات الفصلية، وأن المعبد المكي وحّد بين الرحلتين في رحلة واحدة، وأن تمثيل هذه الرحلة كان يجري عبر السعي بين الصفا والمروة. السعي بين الصفا والمروة هو رحلة الصيف والشتاء ممثلين بتلتين. الصفا هو تلة الصيف، والمروة هو تلة الشتاء. لكن البداة المنتجعين كانوا يقومون، واقعياً لا رمزياً، بالرحلتين في سعيهم وراء الماء والعشب. فهم يبدأون رحلة التشريق، أي رحلة النجعة، مع بدء المطر، أي مع الشتاء أو مقدماته بعد منتصف أيلول، ثم ينهون رحلة النجعة هذه في مع جفاف العشب وخفاف تجمعات الماء في الصحارى. ويحدث هذا عادة مع طلوع الهقعة في أيار. قال الساجع: «إذا طلعت الهقعة أدرستِ الفقعة، وتعرض الناس للقلعة، ورجعوا عن النجعة».
وهكذا، فالمنتجعون يبدأون في الرجوع من النجعة في أيار، ثم يخرجون من أعماق الصحراء نهائياً في حزيران، عائدين إلى محل إقامتهم الأصلي قرب ينابيع الماء الدائم. ورحلة العودة هذه تسمّى: التصيير: «صارَ القوم يَصِيرون: إِذا حضروا الماء. قال أَبو العميثل: صارَ الرجلُ يَصِير إِذا حضر الماءَ، فهو صائِرٌ. والصَّائِرَةُ: الحاضرة. ويقال: جَمَعَتْهم صائرَةُ القيظِ. وقال أَبو الهيثم: الصَّيْر رجوع المُنْتَجِعين إِلى محاضرهم» (لسان العرب).
بالتالي، فلدينا رحلتان اثنتان: «رحلة تشريق» و«رحلة تصيير»، الأولى تحدث في الخريف وراء المطر وعشبه، والثانية في الصيف ذهاباً للإقامة قرب المياه الدائمة، مياه الينابيع، أي «المحاضر» كما تسمى: «النُّجْعةُ عند العرب: المَذْهَبُ [الذهاب] في طلَبِ الكلإِ في موضعه. والبادية تحضر محاضرها [أي تذهب لمصادر الماء الدائمة] عند هيج [جفاف] العشب ونقص الخرف وفناء ماء السماء في الغدران. فلا يزالون حاضرة [قرب المياه الدائمة] يشربون الماء العدّ [ماء الينابيع الدائمة] حتى يقع ربيع [مطر] بالأرض، خرفيّاً كان أو شتيّاً، فإذا وقع الربيع توزّعتهم النّجع وتتبعوا مساقط الغيث يرعون الكلأ والعشب، إذا أعشبت البلاد، ويشربون الكرع، وهو ماء السماء، فلا يزالون في النّجع إلى أن يهيج العشب من عام قابل [في العام التالي] وتنشّ [تجفّ] الغدران، فيرجعون إلى محاضرهم على أعداد المياه» (لسان العرب).
بالتالي، فرحلة البداة (السراسين، السراقين) كانت تتبع الانقلابات الفصلية. إنها رحلة الشتاء والصيف الواقعية الفعلية لا الرمزية الدينية التي تتمثل في السعي بين الصفا والمروة.
وبالمناسبة، فإنه من المحتمل أن التعبير «وقع» في النقوش الصفائية يعني «مُطِرَ»، أي نزل عليه مطر، كما رأينا في من المقتبس أعلاه في لسان العرب: «يشربون ماء العد حتى يقع ربيع في الأرض»، أي حتى يقع مطر في الأرض. وقد جرى نقاش حول كلمة وقع في النقش الصفائي WFSG 2.1 الذي وردت فيه جملة: «وشرق فـ حلل و وقع». فقد فهم Jamme الكلمة على أنها تعني «سقط». أما كلارك فقد فهم أنها تعني: نزل ليستريح، في حين ترجم ماكدونالد الجملة هكذا: «وارتحل إلى الصحراء الداخلية ثم خيّم وكتب اسمه». أما أنا، فأعتقد أن الوقع هنا يعني المطر. بذا فالجملة تقول: «وشرّق [في رحلة الانتجاع] وحلّ [أي نزل وخيّم] و موقع [أي أصابه مطر]». ويبدو أن المقصود بالتعبير «وقع» المطر الأول في الخريف: «وقَعَ رَبِيعٌ بالأرض يَقَعُ وُقُوعاً لأَوّلِ مطر يقع في الخَرِيفِ» (لسان العرب). وانطلاقاً من هذا، يمكن الافتراض أن كلمة «وقيعة» التي ترد في النقوش الصفائية قد تعني: الأرض التي نزل عليها المطر، أو القطعة التي أعشبت بعد المطر، أو ربما الوهدة أو الحفرة التي تجمعت فيها أمطار الوقعة، أي أمطار الخريف الأول.

* شاعر فلسطيني

  • عن الأخبار اللبنانية

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *