*محمد علي اليوسفي
سؤال الهوية هو سؤال حضاري، سواء أكانت الصفة الحضارية إيجابية أم سلبية، موجودة أم مفقودة. وهو سؤال قد يطرح جزئياً أيضاً حتى في البلدان المتقدمة. ولا يسأل المرء عن هويته ويضعها موضع تساؤل إلا إذا أحس بأنها مهددة. والتهديد درجات ليس أقصاها التهديد المباشر، لأنه أقرب إلى خلق التحام دفاعي، بل هو ذلك التهديد اليومي، الهادئ، المتسلل بطرق ملتوية، مباشرة وغير مباشرة، نحو فضائنا وهوائنا ومخادع نومنا، وباختصار أكثر: نحو أدمغتنا. لهذا نجد هذا السؤال من أعتى الأسئلة التي تطرح في المجتمعات أثناء مراحلها الانتقالية العسيرة، ولاسيما في مواجهة طرف «آخر» أقوى، ومبشّر بقيم حضارية جديدة، يستخدم كل الوسائل المتاحة لفرضها، وبالتالي لفرض سيطرته في مختلف المجالات.
مجمل أقطار العالم العربي مرت، منذ أفول حضارتها، إلى محاولات مرحلية متعددة لالتقاط الأنفاس، وإيجاد لحمة داخلية للمواجهة المباشرة في مرحلة أولى، وصولاً إلى طرح السؤال الذي لابد من طرحه بعد الصدامات المباشرة والتوصل إلى نوع من الهدوء في تأمل الآخر، وبالتالي في تأمل الذات لمعرفة «من نحن» في مرآةٍ كثيراً ما تكون جاهزة ومستوردة، هي مرآة الآخر، أي أدواته ووسائله ومناهجه وعلومه ومخترعاته.
عندئذ تبدأ العملية المزدوجة في إغناء السؤال، وهي عملية قد تبتعد كثيراً عن مساءلة أدواتها، لكن هدفها النبيل، في كل الأحوال، هو مواجهة الآخر من جهة، وبناء الذات من جهة أخرى.
الثنائيات.. ثراء وتمزق
لذلك نجد أنّ هذه العملية تترك المجال لبروز الثنائيات بامتياز: الأصالة والمعاصرة، التراث والتحديث، الخصوصية والانفتاح، إلى آخر ما هنالك.
والثنائيات، التي قد تتوزع على عناوين أخرى فرعية، تكشف عن وجهين أساسيين يعكس أحدهما التعدد والثراء فيما ينقل الثاني ضريبة ذلك التعدد: التمزّق.
وأبرز مجال لتبلور السؤال الحضاري العام هو المجال الثقافي بوجه خاص، لأنه يعبر عن روح المجتمع وسلوكاته ورموزه التبادلية والتواصلية في مواجهة الذات كما في مواجهة الآخر.
وفي هذا المجال تحديداً تطرح الأسئلة الملحّة حول العودة إلى التراث بمعناه الشامل، بحثاً عما يصون الحاضر من الانفلات والركض وراء التحديث القادم من أصقاع غير أصقاعنا وعقول غير عقولنا.
وفيه أيضاً يُطرح سؤال العودة إلى الأخلاق والدين، من أجل إيجاد أسس متينة، كانت كذلك في الماضي، ويعتقد من يطرحها أن تبنِّيها كفيل بمواجهة ترسانة حضارية ذات وسائل أحدث وأقوى. ولنا في تجارب عديدة عادت إلى تبني مثل هذه الحلول أمثلة صارخة على مأزق الاكتفاء بـ«الاعتقاد» أي بتطبيق الحلول السحرية في زمن صار فيه السحر بذخاً ولم يعد يصنع أسطورة واحدة.
وفي هذا المجال أيضاً، أي الثقافيّ، يطرح سؤال الهوية: من نحن؟ من كنا؟ ماذا نريد؟ كيف نتوصل إلى ما نريد؟ الخ…
ويأتي سؤال «اللغة» ليشكل الوعاء الحضاري «المتصدّع» لكل تلك الأسئلة… ذلك أن التخلف ظاهرة لغوية أيضا لكن اللغة تشكل المجال المتميز لتجسد السلطة.
سؤال اللغة
يظهر التخلف كظاهرة لغوية، أو انطلاقاً من اللغة، كما عند العرب على سبيل المثال، من خلال الأطوار التي مرت بها المسألة اللغوية وما تزال مع خصوصيات تكاد تشرخ «الوحدة اللغوية العربية»، إنْ ظلّ يصحّ مثل هذا التعبير، إلى كتلتين مختلفتين ومتفاوتتين بين مشرق الوطن العربي ومغربه. غير أن الجانب العام في هذه المسألة يتّخذ طابعًا عربيًّا شاملاً سواء من حيث البعد السوسيولوجي التاريخي (مقارعة حضارات متفوقة، تقلص الانكفاء الجغرافي في عصر الاتصالات المتطورة، التعددية العرقية ووضع الأقليات، أوهام الوحدة العربية الخ…) أو من حيث البعد السوسيولوجي التربوي (عدم مواكبة اللغة العربية للعصر، صعوبتها البنيوية، شحنتها الإيديولوجية الدينية المتحصنة بنصوص مقدسة، فضلاً عن العجز المبين الذي يتحلى به المبجل «مجمع اللغة العربية « في نحت كلمات للحفظ في الأدراج أو للتندّر!).
أدى ذلك، مع عوامل عديدة متضافرة، إلى تكريس السخرية ثغرة من الثغرات التي تتسلل منها اللغات الأجنبية، لتتجاوز مبررات امتلاك العلوم العصرية مثلاً، إلى استيراد منجزات الحضارة الغالبة بأسمائها الأصلية في لغتها، من دون عناء البحث عما يعادلها في لغتنا، وإذا تم ذلك فإنه يحدث متأخرًا: (أمام كلمتي موبايل وبورتابل، نحتار بين جوال، ونقال، ومحمول، وخليوي… فلا نعرف ماذا نختار، أو أننا لا نختار شيئًا ونذهب إلى الأصل مباشرة) فإذا بالهيمنة تتجاوز اللغة و»مجمعها» إلى ترجمة الأحاسيس والحياة اليومية… مع قرارات تعريب موسمية ربما يكون هدفها امتصاص تلك الأحاسيس القديمة التي تستيقظ بين الفترة والأخرى مؤكّدةً أن نوم العقل يوَلِّد مسوخًا…
«الظاد» المغاربية وفولتير
مشكلة اللغة في بلدان المغرب العربي تثير حساسية تكاد تقارب مسألة الطائفية في المشرق العربي. فالحديث عن التعريب على وجه الخصوص، لا يثير حافظة البربر الأمازيغ فقط (وقد يكون ذلك من حقهم جزئياً، أي فيما يخص حقوقهم) لكنها تثير ثائرة الفرنكوفونيين الذين شكلوا احتياطياً، يلعب دور الضحية والجلاد في آن.
مناسبة طرح سؤال اللغة ليست لها علاقة بما بات يُسمّى «الثورة التونسية» وتعدد وسائل التخاطب وانتشار الآراء حتى من وراء الحواسيب، فحسب، بل يمكن ربطها بما سبق كلَّ ذلك من تراكمات وما أعقبه من تداعيات.
على المستوى السياسي سمعنا كلنا بالزعماء العرب يقولون قبيل سقوطهم المدوّي: «مصر ليست تونس» أو «ليبيا ليست تونس» وقسْ على ذلك. لكن على المستوى الفكري والثقافي خرج علينا الكاتب المغربي الطاهر بن جلون ليقول بدوره إن «المغرب ليس تونس» وذلك بمناسبة هيمنة الإسلاميين في المغرب أيضا. ورأى في مقال نشرته جريدة « لوموند» الفرنسية، أنّ «على الإسلام أن يظل في الجوامع» مع عنوان فرعي: «التعريب يشكل مهداً للأصولية»، وتم تداوله بكثافة في مواقع النت، وجاء في المقال أنّ النزعة الإسلاموية المغربية تم «صنعها» منذ زمن طويل. ويمكن تحديد بداية ظهورها مع سياسة تعريب التعليم. وفيما ظل الفرنكوفونيون يسجلون في مدارس التبشير الفرنسية ويجدون العمل بطرق أسهل، ضاق ذلك على المعرَّبين، فاتسعت الهوة بين الفئتين. ولجأ الإسلاميون إلى استقطاب اليائسين والمهمشين في أوساط المعربين… ليختم بن جلون مستنتجاً أنّ «الشعب لم ينضج بعد للديمقراطية».
المغالطة هنا هي في اعتبار التعريب سبباً في نجاح الإسلاميين بدل اعتباره مناورة بيد السلطة تستخدمه وقت الحاجة، تماماً كما يُستعمل اليسار لضرب اليمين، وقت الحاجة، والعكس بالعكس. وهذا ما يمكن أن يتعلمه اليسار التونسي المتنوّع بعد هزيمته المدوّية. أليست النخب المستعمرة هي التي تعيد إنتاج الخطاب الاستعماري في توجّهها إلى شعبها، خطاباً وممارسة؟ أليست هي التي تضيق ذرعاً بـاصطدام قناعاتها وادعاءاتها القيادية الرائدة فتنتكس وتعزو كل شيء إلى عدم نضج الجماهير؟
مقال الطاهر بن جلون المذكور دفع بالكاتب الفرنسي آلن غريش إلى الرد عليه في مقال آخر، استدعى فيه مقولة إرنست رينان عن كون»الأصولية مستحيلة مع اللغة الفرنسية» الأمر الذي يتناسب مع مقالة بن جلون، متسائلاً عن القتلة الفرنسيين في حروب الإبادة الاستعمارية وأين يمكن تصنيفهم، مشيراً إلى أنه بالتأكيد ، في المغرب وأماكن أخرى في الجزائر، منيت سياسة التعريب بالفشل. ولكن علينا أن نتذكر أنه ليس هناك سوى أقلية صغيرة في المغرب تجيد الفرنسية، وأنّ اللغة الفرنسية كانت أيضاً لغة الكولونيالية واحتقار«الأنديجان» أو السكان الأصليين. يضاف إلى ذلك أن جزءا من الفرنكوفونيين (وكذلك من المعرَّبي) يدعمون النظام الملكي، ولا فرق هنا بين العربية والفرنسية. ويعيب ألن غريش على بن جلون تفريقه التصنيفي بين الفرنكوفونيين الطيبين من جهة والمعرَّبين الأشرار من جهة أخرى. ويختم ألن غريش مقالته بتسديد اللكمة الأخيرة للطاهر بن جلون، متهماً إياه بالتماهي في نظرته مع ما يراه الطغاة دائما: «الشعب لم ينضج بعد للديمقراطية».
وإذا كان لا بد من استدعاء ارنست رينان مرة أخرى، فعلينا ألا ننسى بأنه هو القائل أيضاً بأنّ المستعمِر (بكسر الميم) عندما يتهم المستعمَر (بفتحها) بعدم الفهم، وعدم النضج، وبالدونية، وانعدام الثقافة، فإن المستعمَر الخاضع ينتهي بتمثّل هذا النوع من الخطاب والاقتناع بدونيته والتنكر لثقافته وشعبه ولا يرغب حينئذ إلا في تقليد سيده الغالب والتشبه به، حسب ابن خلدون أيضاً.
لكنْ علينا ألا ننسى بأن قضية التعريب، كثيراً ما استخدمت لأسباب سياسية، تماماً على وتيرة التلاعب باليمين وباليسار حسب مرحلة المد والجزر لهذا التيار أو ذاك.
وينبغي ألا يُفهم من التعريب الذي دعت إليه عدة أطراف جديدة في السلطة بأنه سياسة انتقامية: لأن التعليم كان ضحية لاختياراتٍ سياسية مرت عليها عقود من الزمن، وخلقت ضحاياها الواعين وغير الواعين من المدافعين عن الفرنسية باعتبارها لغة التقدم، وهي كذلك من دون شك، لكنها ليست وحدها، ولا يمكن أن تكون هيمنتها على حساب اللغة الأم (في مجالات التعبير، على الأقل، وليس في مجالات علوم الأرض والفضاء مثلا؟). فإذا كان الآباء ضحايا، لمَ لا نفكر في مستقبل الأبناء؟ وبدل المسارعة إلى اعتبار التعريب تنفيذاً أعمى في كل المجالات ينبغي تدارس العملية في مستوى تقويم اللسان، وتعديل الكفة، وتفضيل حسن الجوار على السكن في بيت الجار.
يتبجح العشاق الجدد بفولتير وبلغة فولتير؛ نعم؛ لقد كان السيد فولتير تنويرياً حقًّا، لكنه ظلّ تاجر رقيق يُحَيْوِنُ الآلاف من عبيده لصنع ثروته، أيضاً.
بن جلون: العرب غير جاهزين للديمقراطية
على المستوى السياسي سمعنا كلنا بالزعماء العرب يقولون قبيل سقوطهم المدوّي: «مصر ليست تونس» أو «ليبيا ليست تونس» وقسْ على ذلك. لكن على المستوى الفكري والثقافي خرج علينا الكاتب المغربي الطاهر بن جلون ليقول بدوره إن «المغرب ليس تونس» وذلك بمناسبة هيمنة الإسلاميين في المغرب أيضا. ورأى في مقال نشرته جريدة « لوموند» الفرنسية، أنّ «على الإسلام أن يظل في الجوامع» مع عنوان فرعي: «التعريب يشكل مهداً للأصولية»، يخلص فيه بن جلون إلى أنّ «الشعب لم ينضج بعد للديمقراطية».
غريش: «بن جلون» يتماهى مع الطغاة
رد الكاتب الفرنسي آلان غريش على مقال الطاهر بن جلون بمقال آخر، استدعى فيه مقولة إرنست رينان عن كون «الأصولية مستحيلة مع اللغة الفرنسية» الأمر الذي يتناسب مع مقالة بن جلون، متسائلاً عن القتلة الفرنسيين في حروب الإبادة الاستعمارية وأين يمكن تصنيفهم. ويعيب آلان غريش على بن جلون تفريقه التصنيفي بين الفرنكوفونيين الطيبين من جهة والمعرَّبين الأشرار من جهة أخرى. ويختم مقالته بتسديد اللكمة الأخيرة للطاهر بن جلون، متهماً إياه بالتماهي مع ما يراه الطغاة دائما: «الشعب لم ينضج بعد للديمقراطية».
مأزق العقل العربي
أبرز مجال لتبلور السؤال الحضاري العام هو المجال الثقافي، لأنه يعبر عن روح المجتمع وسلوكاته ورموزه التبادلية والتواصلية في مواجهة الذات كما في مواجهة الآخر.
وفي هذا المجال تحديداً تطرح الأسئلة الملحّة حول العودة إلى التراث بمعناه الشامل، بحثاً عما يصون الحاضر من الانفلات والركض وراء التحديث القادم من أصقاع غير أصقاعنا وعقول غير عقولنا.
وفيه أيضاً يُطرح سؤال العودة إلى الأخلاق والدين، من أجل إيجاد أسس متينة، كانت كذلك في الماضي، ويعتقد من يطرحها أن تبنِّيها كفيل بمواجهة ترسانة حضارية ذات وسائل أحدث وأقوى. ولنا في تجارب عديدة عادت إلى تبني مثل هذه الحلول أمثلة صارخة على مأزق الاكتفاء بـ «الاعتقاد» أي بتطبيق الحلول السحرية في زمن صار السحر بذخاً ولم يعد يصنع أسطورة واحدة.
____
*الاتحاد الثقافي
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
يحضرني سؤالخاص- ثقافات فرحات فرحات* الآنَ يحضُرني سؤالٌ لا يتوقُ إلى جوابْ هو ينكرُ المعنى عليَّ…
-
قطعة اليوسفيخاص- ثقافات *ممدوح رزق دخلت إليه فضبطته في لحظة الضعف القصوى .. كان منحنيًا ليستعيد…
-