لطفية الدليمي: الرواية الحديثة هي الحاضنة المعرفية للمستقبل

* حاورها : عواد علي

يتشعب الحوار مع الروائية والقاصة والمترجمة والكاتبة المسرحية العراقية لطفية الدليمي، نظراً لعمق تجربتها في الكتابة ورسوخها، وتنوّع اهتماماتها الأدبية والمعرفية، التي يجمع بينها سرّ صغير جميل اسمه “الشغف”. وهي تفسر هذا التنوع بأن العقل البشري الخلاق مصهرٌ لفروع معرفية متعددة بقصد إعادة تخليقها في هيأة مركّب عضوي واحد، فليس من عقل يسعى ليكون خلاقاً في أي حقل معرفي إلا ويُبدي نفوراً طبيعياً من أيّ محاولة للفرز والعزل والتقييد والتنميط والرؤية المحدودة، بل يتوق إلى استكشاف تلك الروابط التي تربط كلّ الاجتهادات المعرفية البشرية. ورغم أن السرد يشكّل عالمها الأساسي فسيح الآفاق، الذي تمارس من خلاله حريتها في مدياته اللامحدودة، وتستكشف تضاريسه المتغيّرة كل يوم شرقاً وغرباً، وتتعرّف إلى تحولاته حاله حال المكتشفات الكوسمولوجية الحديثة والثورات المتعاقبة في فيزياء الكم، فإن ولعها بالترجمة، التي غدت عيناً ثالثةً ترى بها العالم من جهاته المختلفة، وكتابة المقالات والدراسات واليوميات والسيرة الذاتية يسير في خط متوازٍ مع السرد.

لطفية الدليمي من مواليد بلدة “بهرز” في محافظة ديالى، بكلوريوس آداب لغة عربية – جامعة بغداد، أكملت دورة في اللغة الإنكليزية وآدابها في كلية غولدسمث – جامعة لندن، وعملت  في تدريس اللغة العربية سنوات عديدةً، ومحررةً للقصة في مجلة “الطليعة الأدبية”، وسكرتيرة تحرير مجلة “الثقافة الأجنبية” العراقيتين، ورئيسة تحرير مجلة “هلا” الثقافية الشهرية التي صدرت في بغداد عام 2005. تُرجمت قصصها إلى الإنكليزية والبولونية والرومانية والإيطالية، كما تُرجمت روايتها “عالم النساء الوحيدات” إلى اللغة الصينية. من مؤلفاتها المنشورة: في القصة “ممر إلى أحزان الرجال”، “البشارة”، “التمثال”، “إذا كنت تحب”، “برتقال سمية”، “مالم يقله الرواة”، و”مسرات النساء”.

ولها في الرواية “من يرث الفردوس”، “بذور النار”، “موسيقى صوفية”، “ضحكة اليورانيوم”، “حديقة حياة”، “سيدات زحل”، و”عُشّاق وفونوغراف وأزمنة”. من ترجماتها في حقل السرد “بلاد الثلوج”، “ضوء نهار مشرق”، “شجرة الكاميليا- قصص عالمية”. وفي حقول أخرى مختلفة نشرت “حلمُ غايةٍ ما: السيرة الذاتية لكولن ويلسون”، “أصوات الرواية: حوارات مع نخبة من الروائيّات والروائيين”، “تطوّر الرواية الحديثة”، “فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة”، “رحلتي: تحويل الأحلام إلى أفعال”، “الثقافة”، “نزهة فلسفيّة في غابة الأدب”، “طريق الحكمة طريق السلام”، “اكتمال العالم”، “الأسئلة الكبرى: الفيزياء الحديثة وأحجيات الكون والوجود البشري”، “آلان تورِنغ: مأساة العبقري الذي غيّر العالم”، “الفكر العابر للإنسانية”، “توني موريسون: سيرة موجزة لكاتبة شجاعة”، “الرواية العالمية: التناول الروائي للعالم في القرن الحادي والعشرين”. ولها في الدراسات “جدل الأنوثة في الأسطورة”، كتابات في موضوعة المرأة والحرية”، “شريكات المصير الأبدي: دراسة عن المرأة المبدعة في حضارات العراق القديمة”، و”دراسات في مشكلات الثقافة العراقية الراهنة”. وصدر لها في أدب الرحلة واليوميات والسيرة “يوميات المدن مُدُني وأهوائي”، “جولات في مدن العالم (الكتاب الفائز بجائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي”، و”عصيان الوصايا: كاتبة تجوب عالم الكتابة”.

هنا حوار بانورامي شامل مع كاتبة خاضت مغامرة الكتابة في الوطن والمنفى وتمكنت من رسم صورة لنفسها عن نفسها بوصفها كاتبة مثقفة متعددة الأوجه، ومبدعة في فن الرواية.

– نبدأ حوارنا بسؤال جوهري يتناول الجذر التأصيلي لعملية الكتابة كونها إحدى الفعّاليات الإدراكية التي تميّز الكائن البشري، وقد دفعني لهذا السؤال عنوان كتابك “عصيان الوصايا: كاتبةٌ تجوب أقاليم الكتابة” المنشور عام 2019. بوصفك كاتبةً في المقام الأوّل، ما الذي تمثله الكتابة في حياتك؟ وما الدوافع القادرة على تحريك مكامنها لديك؟

– تكمن دافعية الكتابة في أمرين اثنين كما أرى: الأول كونها فعاليةً مميزةً للكائن البشري، إذ يميل البشر إلى ترك بصماتهم الممثلة لما اكتسبوه من خبرات في هذا العالم لتمريرها لنظرائهم، سواء في  لحظتهم الراهنة أو لأزمنة  تالية. ليست هذه الرغبة الملحّة في تسجيل الرؤى والخبرات الفردية محض رغبة مجرّدة في التعبير عن الذات، والإفصاح عن مكنوناتها فحسب، بقدر ما هي شكل من أشكال مقارعة عوامل الفناء البيولوجي الحتمي، ومقاربة الخلود المتوهم ولو على نحو رمزي. قد لا يجتهد معظم البشر في السعي إلى حيازة أدوات الكتابة وتقنياتها القادرة على تحريك كوامن التفكّر، والنظر في المعضلات الوجودية والفلسفية الكبرى، والتي يمكن حصرها في الأسئلة التأصيلية الثلاثة بشأن الكون والحياة والوعي؛ لكنهم في أقلّ تقدير يمتلكون الوسيط اللغوي الذي يمكّنهم من التعبير عن ذواتهم ورؤاهم بطريقة شفاهية. هناك البعض ممّن لا يستطيب البقاء في إطار “الفضاء الشفاهي”، ويتجاوزه نحو الاجتهاد الصبور لامتلاك وسائل الكتابة وتقنياتها، ولا يطيقون الابتعاد عن الكتابة اليومية التي تستحيل لديهم نمطاً من الطقوس المرتبطة بفعاليات تبعث على الاسترخاء العقلي، وإدامة شعلة النشاط الفكري في كافة المناشط المعرفية. أحسبني – بتواضع – فرداً في هذه الطائفة من البشر.

الأمر الثاني يتمحور حول حقيقة أنّ الكتابة فعّالية مدفوعة بدوافع ميتافيزيقية، وهي بهذا التوصيف أقرب إلى أن تكون خصيصةً أخلاقيةً. دعني أوضح هذا الأمر: متى يكتب الكاتب؟ هل ينهض صباحاً ويقول لن أكتب اليوم، أو سأكتب مائة كلمة فحسب؟ لا تحصل الأمور على هذه الشاكلة. الكتابة فعالية تلقائية، بمعنى أن الكاتب لا يسائل نفسه كثيراً عن دوافعه للكتابة؛ إنه يشرع بالكتابة بصرف النظر عن حقيقة المتغيرات الفيزيائية المحيطة به تماماً مثلما أنّ الشجرة لا تسائل نفسها هل تثمر أم لا. هي تزهر وتثمر وحسب. يرى الكاتب أن فعالية الكتابة تنطوي على قيمة مشرّفة له مثل الخصائص الأخلاقية المتفق عليها بين البشر، وهذه القيمة هي التي تمنح الكاتب الوقود اللازم لإدامة نشاطه العقلي وفاعلياته التخييلية.

تنطوي الفاعلية الكتابية على خصيصة مميزة: كلما توغّل الكاتب في أدغال الكتابة تزايدت مناسيب نشوته، وانبثقت أمامه تساؤلات جديدة تمنحه قدراً غير محدود من عوامل التحفيز الذاتي لخوض المغامرة والتجوال في عالم الكتابة.

هذه الحقيقة التي يمكن توصيفها بمقاييس التغذية الاسترجاعية الإيجابية (Positive Feedback) المميزة للنظم الديناميكية المعقدة (والبشر المبدعون منها بالتأكيد). هي إحدى مواصفات الكتابة الجيدة التي تسعى للكشف والمساءلة والتحفيز، وربما تكون العبارة الشكسبيرية القائلة “لقد مضيتُ بعيداً في الجريمة بحيث بات التقدمُ فيها أسهل من التراجع عنها” هي أفضل وصف لما ينتابُ الكاتب وهو يمضي لتعزيز استكشافاته في غابة الكتابة.

ألم معرفي

– استوقفتني في جوابك عبارة “الكتابة فعالية مدفوعة بدوافع ميتافيزيقية”. نعرف أنّ الميتافيزيقا موضوع مباحث فلسفية كبيرة، فهل نحن إزاء مبحث فلسفي عند تناول الفعالية الكتابية؟

– لطالما تسبّبت لي موضوعة “الميتافيزيقا” بقدر ليس بالقليل من الوجع “الإبستمولوجي”، وهذا موضوع مبحث نقاشي طويل، لكني سأكتفي بالقول: ثمة تداخل مفاهيمي غير مرغوب فيه بين الميتافيزيقا، بكونها مبحثاً فلسفياً عظيم الأهمية، وبين الميتافيزيقا بكونها قرينةً للفكر الخرافي غير المعقلن، وغير المحكوم بشروط الطريقة العلمية وقيودها الصارمة.

في ما يخصّ الرواية ثمة تحديد إجرائي شديد الدقة، مفاده أن العقل الروائي الميتافيزيقي يتعالى (بمعنى التعالي الترنسندنتالي الكانتي) على الواقع المادي المحسوس، ولا يكتفي بالحقائق “الصلبة” المرئية على الأرض. إن هذه الفسحة الميتافيزيقية ضرورية لتجاوز محدّدات الطريقة العلمية المحكومة باشتراطات صارمة، وتمثّل نوعاً من ثغرات محسوبة نفتحها في جدران السدود العقلية التي طفحت بمياه الفيضان، ومن ثمّ يكون تسريب المياه من أماكن منتخبة بطريقة مختارة أفضل من تهديم السد على رؤوسنا، وانهدام السد هنا كناية استعارية عن الوهن العقلي والعطب النفسي اللذين يمكن أن يطالا أرواحنا، ويتسبّبا في شيوع نوع من الوهن العصبي المزمن (Neurasthenia) الخصيصة الميتافيزيقية التي تميّز عقل الروائي هي فضيلة كبرى، وليست مثلبةً، فحتى العلماء الكبار (الفيزيائيون خاصة) هم ميتافيزيقيون عظماء، وغالباً ما يعبّرون عن ميولهم الميتافيزيقية هذه في سياق سيرهم الذاتية المنشورة. الميتافيزيقا بهذا المعنى هي تثوير لنطاق الرؤية، وتفجير للممكنات البشرية التي ما كانت متاحةً لولا هذا الحس الميتافيزيقي الجميل، المتعالي على الوقائع المادية المشخّصة، وبهذا المعنى يكون التخييل الروائي صفةً جوهريةً للخصيصة الميتافيزيقية المحفزة لتوسيع نطاقات التخييل، وتلوينها بمذاقات تساعد القارئ على الاسترخاء، واجتناء أكبر قدر من المتعة الفكرية والحسية.

النشأة والبداية

– يبدو أمر استشكاف ظروف النشأة الأولى والمؤثرات المادية والفكرية الفاعلة فيها ضرورة لازمة لفهم كيفية انعكاس هذه المؤثرات في الفاعلية الكتابية اللاحقة. هلّا حدثتِنا قليلاً عن نشأتك الأولى؟

– تشكّلت نشأتي الأولى بفعل مؤثرات البيئة والتعليم والقراءة الذاتية المتحرّرة من الكوابح الثقيلة، لكني أزعمُ أنّ الدافعية الذاتية في استكشاف العالم، والتأثير في تشكّله يبقى العنصر الأكثر تأثيراً من سواه. قد يميلُ البعض لإعلاء شأن مؤثر ما، أو أناسٍ ما في مقطعٍ زمني مبكّر من حياته، لكنّي أرى أنّ الجهد الذاتي، المقترن برؤية وشغف ومثابرة لا تفتر أو تخمد جذوتها مع السنوات أو المعيقات، هو العنصر الأكثر فعلاً في تشكيل صورة الإنسان المستقبلية. هذه هي خلاصة الحكاية البشرية لكلّ شخصٍ مبدعٍ : أن تكون كادحاً في السعي وراء المعرفة وتوظيفها في إعادة تشكيل صورة العالم وصناعته ليكون أكثر جمالاً ونزاهةً وعدالةً ورحمةً.

ثمة عنصران أسهما في إنماء شعوري – الذي استحال قناعةً راسخةً لاحقاً – بكوني إنسانةً تحدّرت من الحضارة الرافدينية. العنصر الأوّل حسّي مرئي على الأرض تلبّسني بسبب نشأتي الأولى في بلدة “بهرز” الجميلة، التي يمكن وصفها بأنها مستوطنةٌ مائيةٌ لكلّ الأحياء الرائعة من فراشات وأزاهير ونخل وشجر… إلخ.

إذن سيكون أمراً طبيعياً أن يتملّكني حنين أزلي لِلطبيعة و”مستوطنة الماء والجمال” البهرزية حدّ أن أمنح ذاتي عضوية سلالة مائية كونية الانتماء. أما العنصر الثاني فهو فكري خالص أرى بموجبه أنّ العراق تشكيل حضاري يستمدّ دوافع البقاء والمطاولة من جذوره الرافدينية، وكنتُ أتطلّع منذ بدايات تشكلي الثقافي إلى ترسيخ فكرة “الرافدينية العراقية” لتكون الرافعة الحضارية التي يمكن عبرها إعادة تشكيل صورة العراق، بعيداً عن الطائفيات الضيقة والعنصريات القاتلة والعصبويات المافيوية، ويتجسد هذا التوق الممض في معظم أعمالي المسرحية والدرامية.

لل

– حدثينا قليلًا عن بداياتك مع الكتابة.

–  لم أخطط للكتابة، ولم أدرك حينها لِمَ كنتُ أكتب، وعلامَ كنت أملأ دفاتري المدرسية بالقصص وأتلقى عقاب معلمتي. انبثق الأمر تلقائياً من أعماق المخيلة كما تنبجس قطرات الماء من نبع مفاجئ، بعدها أظهرت ميلاً  للرسم، وحلمت  أن أغدو رسامةً، ثم اكتشفت أنني أخطأت الطريق إلى شغفي الحقيقي، فلم يكن الرسم ليتسع لاحتواء الرؤى والأحلام المتزاحمة، ولم يمنحني الحرية والنشوة اللتين عرفتهما لاحقاً وأنا أنسج من الكلمات عوالم وأفكاراً  وصوراً وشخصيات. تعاظم شغف الكتابة في وعيي، وأزاح كل شغف سواه، وبات محور حياتي وملاذي ومحرضي على التمرد  الدائم، فاستضاءت مسالك حياتي وتغيرت بوصلة وجودي، عشقت اللغة العربية وافتتنت بجمالياتها، واغترفت منها وأتقنتها، وصُنتها من كل خلل أو هفوة قد يسهو عنها وعيي وقلمي، فما لم يمتلك المرء ناصية لغته، ويدرك فتنتها، وينقّب عن جواهرها ليس بوسعه أن يكون كاتباً أو مبدعاً.

لم يعلمني أحد كيف أكتب، إنما كنت أكتب حسب، وأقطف الكلمات من الهواء كما أقطف ثمار التين من شجرتنا العتيقة، أتلذذ بالكلمات بديلاً للحلوى التي لم أحبها، أرددها في الصمت خاشعةً إزاءها، ثم أرتّلها بنبرة خافتة كأنها اللقية الثمينة. لم أحلم أن أكون كاتبةً في البدء، كنت أعيش حالة ذهول باللغة والطبيعة والنخل ونهر ديالى والبساتين الغامضة وشجر البرتقال والغيم، وأتمنى أن ينساني الآخرون في مكان ما وحدي مع الكلمات، أن يغفل أهلي عني لأستغرق في أحلامي وصمتي وملاعبة الكلمات، كل الكلمات التي تفيض من عقلي وقلبي كنت أكتبها ولا أنطقها، وبقيت وما زلت أصغي وأكتب وحسب، ولا أتكلم إلا عند الضرورات، لهذا لا يمكنني أن أكون كائناً اجتماعياً أو وجهاً مدرجاً على شاشات الإعلام ولطالما كنت أهيم في أفكاري بينما بحر اللغة المتلاطم يغرقني بالكلمات.

الكاتب والأيديولوجيا

– شاعت في عصر السرديات الكبرى، المقترنة ببواكير الحداثة العلمية والتقنية والسياسية، رؤية تقول: يتعذر على الكاتب الانفكاك من أسر واحد من التوجّهات الأيديولوجية السائدة لأسباب فكرية وأخرى عملية، وقد ترسّخت هذه الرؤية في عصر الحرب الباردة واستقطاباتها الشرسة. هل الكاتب كائن أيديولوجي بالضرورة، وبخاصة في عالمنا العربي؟

– يبدو واقعنا العربي قاسياً على الكُتّاب منذ بدايات نشوئه التاريخي، وقد لعبت الأيديولوجيا (المتحزّبة على وجه التخصيص) دوراً مرضياً (باثولوجياً) في روح الكاتب العربي إلى حدّ جعل منه ثقباً أسود تلتهم كلّ ما يمنحه فعلاً تعويضياً عن غياب الرؤية الإنسانية المجاوزة لاعتبارات السياسات المحلية، ومحدّدات الزمان والمكان والشعارات الفضفاضة. أسهم تهميش الرؤية الإنسانية والإبداعية الكونية، بفعل ضواغط الترتيبات السياسية (الحزبية والمجتمعية)، في تغليب نوع من العصاب الجمعي الذي يقبل مقايضة الإبداع بموقف حزبي بائس، فضلاً عن أنّ بيئتنا العربية لم تعمل على ترسيخ قواعد، وأخلاقيات عمل رصينة، ونظام اقتصادي عادل – بسبب الاضطرابات السياسية في المقام الأول – تعين المرء على تلمّس خطواته بثقة، لذا ستكون النتيجة المتوقعة أن يندفع الشاب في الانتماء الحزبي المتعجّل، الذي يَعِدُه بمكانة ومستقبل لا يستطيع بلوغهما عن طريق التراتبية الهادئة القائمة على العمل الجاد والمنظّم، والشباب في أغلبه الأعم متعجّل يريد بلوغ أهدافه بكلّ الوسائل الراديكالية المُتاحة.

لا أطيق الأيديولوجيين والمتحزّبين الذين أسهموا – بمعرفة أو جهالة – في تخريب مجتمعاتهم، وأتقاطع مع الكاتب الذي يندفع في شرب أنخاب الأيديولوجيا حتى الثمالة، ثمّ تستحيل الأيديولوجيا لديه معشوقاً يغضّ الطرف عن العيوب المحتملة فيه، ولا يراه إلا كمثال الكائن المكتمل في ذاته. أرى أنّ الكتابة، ومتابعة مؤثرات العلم والتقنية في تغيير المجتمعات هما الوحيدان الخليقان بأن يكونا أيديولوجيا عصرنا الراهن – بالمعنى الرمزي – رغم أنهما يناكفان كلّ محمول أيديولوجي. يبقى الإنسان، أينما كان وكيفما كان، هو القيمة الكبرى التي تتجاوز كلّ الأيديولوجيات السابقة واللاحقة.

العزلة والشغف

– ثمة سؤال بشأن الكتابة يختص بك: يلاحظ المتابع وجود فورة كتابية لديك – وبخاصة في السنوات الأخيرة – حتى تجاوزت كتبك المنشورة حاجز الستين كتاباً، فضلاً عن المقالات والمترجمات الدورية في صحف ومجلات ثقافية عربية مرموقة. ما أسباب هذه الفاعليّة الكتابية النشطة التي لا تعرف الانطفاء والخذلان؟

– يكمن السرّ في كلمة واحدة: الشغف المقترن بشعوري أنّ كينونتي الإنسانية لا تتحقق إلا بفعل استمرارية الكتابة. تملّكني الشغف منذ بواكير تشكّلي الثقافي بكلّ الضروب المعرفية، وبخاصة التراث العرفاني والنصوص الرافدينية وحقل الفيزياء والكوزمولوجيا والفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا ودراسة اللغات والتاريخ والفلكلور، إلى جانب قراءة الأعمال الإبداعية العالمية وأساطير الشعوب، ولديّ حتى اليوم تقليد أسبوعي أتابع بموجبه الكتب الحديثة التي تُنشر على موقع “الأمازون”، إضافةً إلى قراءاتي المتواصلة في بعض المنشورات العالمية الرصينة مثل: مجلة الإيكونومست، ملحق التايمز الأدبي، مراجعة نيويورك للكتب…، وكثيراً ما أعمل على ترجمة مقالات منتخبة من قراءاتي تلك وأنشرها في الصحف والمجلات الثقافية المتاحة أمامي، وإذا ما أعجبني كتابٌ ما فلا أتردّد في الاتفاق مع دار النشر  لشراء حقوقه والبدء بترجمته. كرست حياتي كلها للقراءة والتأليف والترجمة، وعملتُ خلال عشرات السنين وفقاً لسياق منضبط وصارم على المستويين النفسي والاجتماعي. باختصار فالشغف هو العلّة الأولى وراء كلّ فاعلية إبداعية، فهو قادر على جعل المرء يغيب في لجّة العمل المنضبط والمتواصل عشر ساعات يومياً قد ينسى معها تناول طعامه في ميعاده، أو قد يفوته النوم في مواقيته المعهودة. وحده الشغف هو ما يمدّ الكاتب بكلّ هذه الطاقة الخلاقة التي تجعله متفرّدة (Singularity) تستعصي على مفاعيل القوانين البيولوجية والسيكولوجية. وقد ساعدني خيار العزلة الاجتماعية والاكتفاء بعلاقات قليلة ومختارة على استثمار زمن النضج  حتى أقاصيه، كما أعانني استقراري في مدينة عمّان الهادئة الجميلة والآمنة على مضاعفة جهودي في الكتابة والترجمة لتعويض ما فاتني في سنوات الهلع  والدم خلال الحرب الأهلية في العراق، والتي أدّت بي إلى مرحلة عدم الاستقرار والتبدد التي كابدتها بين عمّان وباريس وبيرن، ثم العودة إلى عمّان التي أمست وطني ومستقري الأخير.

شامان القبيلة

– تكتبين الرواية والقصة القصيرة، إضافةً إلى عملك مترجمةً. كيف تستطيعين الجمع بين هذه الأنماط الأدبية المختلفة؟ ولماذا هذا الشغف بالتنوّع الكتابي؟

– يمكنني القول باختصار إنّ الروائي المعاصر هو “المعادل الموضوعي” لشامان القبيلة، الذي يُمثل العين الرائية لمستقبل الجماعة البشرية في عصور سيادة التجمّعات البشرية القَبَلية، وإذا ما توغّلنا أبعد في مجاهل الزمن، حيث سيادة العصر الإغريقي بأنساقه الفلسفية، فسنجد بعضاً من أساطين مفكّريه الذين وُصِف واحدهم بأنه “هايدرا معرفية” كنايةً عن تحصّله على جسم معرفي ضخم ومعقّد يتشكّل من فروع معرفية بينية متداخلة، ولا زلنا نشهد أمثلةً من هذا التداخل في الأنساق المعرفية لدى بعض الفلاسفة والعلماء والكُتّاب في عصرنا هذا، حيث تداخلت الفلسفة والفيزياء والذكاء الاصطناعي وعلوم الدماغ وعلوم السيكولوجيا الإدراكية واللغة. انعكست آثار هذا التداخل المعرفي الثوري في السرديات بعامة حتى باتت الرواية في هذا العصر توليفةً معرفيةً، إضافةً إلى ضرورة توفّرها على جانب التشويق والمتعة. السرد بالنسبة إليّ إذن هو عالم فسيح الأطراف لا حدود لتخومه، وما زلت أستكشف تضاريسه المتغيرة كل يوم، وأعمل على طرزه المختلفة حسب ما تتطلبه ثيمة الموضوع، فأجدني أتجول بحرية بين القصة القصيرة والرواية والنص المسرحي والنصوص المفتوحة.

لل

غواية الرواية

– في مقابل التبشير بموت الرواية نجد تعاظماً لسطوتها وتغلغلها في أدق تفاصيل الحياة البشرية، ومستجدات العلم والتقنية والسيكولوجيا والأفكار بعامّة. ما مصدر هذه السطوة حسب رؤيتك؟

– الكتابة الروائية  فنّ يتّسمُ بالغواية، وهي قادرة على الإمساك بعقل القارئ وروحه بطريقة – ربما – تعجز عنها الأنماط السردية الأخرى، وتلك حقيقة كُتِب بشأنها الكثير من الشروحات والمسوّغات التي تتفق جميعها على أنّ الرواية تمتلك مقدرة متفرّدة في قول أيّ شيء وكلّ شيء، الأمر الذي جعلها ممارسةً مهنيةً وإنسانيةً ذات طبيعة معولمة تتعالى على محدّدات الزمان والمكان والبيئة والجغرافيات البشرية. تناولتُ في مقدّمة كتابي المترجم “تطوّر الرواية الحديثة” الأسباب التي أراها مسوّغةً لامتلاك الرواية هذه الفتنة المغوية التي تدفع معظم المولعين بالكتابة لتجريب الكتابة الروائية في طورٍ واحد – على الأقلّ –  من أطوار حياتهم.

تروي الكتب التي تتناول التاريخ الروائي أنّ الرواية كانت تُخاطِب النساء في بواكيرها الأولى، وكان مطلوباً من الرواية أن تملأ ذلك الفراغ العاطفي فيهنّ بكتابات تغلب عليها الرومانسية الفيّاضة التي وصفها الدكتور جونسون بأنها “مفسدةٌ للعقل الجميل، وحسّ المحاكمة الأخلاقية المسؤولة”. لستُ في حاجة للقول إنّ تلك كانت عهوداً شهدت بدايات الكتابة الروائية المثبتة تأريخياً في القرن الثامن عشر؛ أما في وقتنا الحاضر فقد شهد الفن الروائي اعترافاً راسخاً بكونه الفاعليّة الإنسانية الأكثر رواجاً وتأثيراً من سواه حتى بات معظم مثقفي العالم – حتى لو كان أحدهم عالماً وأكاديمياً متخصّصاً في أحد الفروع المعرفية الصلبة – يتوق لكتابة روايته، وربما تشير هذه الحقيقة إلى أنّ الرواية فاعليّة فكرية تتناغم مع آلية تخليق الأفكار في الفروع المعرفية خارج نطاق الفاعليّة السردية المتداولة.

الرواية الأحدث

– في روايتك الأخيرة “عشّاق وفونوغراف وأزمنة” الصادرة عام 2016 نشهدُ توظيفاً ملحمياً للعديد من التقنيات السردية الكلاسيكية والحداثية في آن معاً. حدثينا عن هذه التجربة؟

–  هذا سؤال في غاية الفطنة، وينمّ عن دراية مشفوعة بقراءة معمّقة لروايتي “عشّاق وفونوغراف وأزمنة”. أردت لهذه الرواية، منذ البدء أن تكون روايةً جيليةً تحكي عن قرن من تاريخ العراق منذ مطلع القرن العشرين حتى زمننا الراهن، في إطار روائي مسندٍ بركائز تاريخية وسوسيولوجية وأنثروبولوجية، وقد اعتمدت في كتابة هذه الرواية على بحث مستفيض سعيت بكلّ جهدي أن يكون مصداقاً لأهمية الفن الروائي، الذي أفضت في تبيان جوانب منه في التقديم الواسع الموسوم “لماذا الرواية؟” الذي كتبته لكتابي المترجم “تطوّر الرواية الحديثة”، ثمّ أتْبَعْتُه في موضع آخر بنصّ طويل عنوانه “ظلال السرد المهمّشة” أحكي فيه عن جوانب مهمّشة عظيمة الأهمية في السرد الروائي المعاصر.

ثمة في روايتي هذه، التي تقترب من تخوم الستمئة صفحة، خلطة من التاريخ والأفكار والأزياء والأطعمة والرحلات والفيزياء والرياضيات وتوثيق الوقائع العالمية والموسيقى والمدوّنات والتقنيات وعلم النفس – الفردي والجمعي – والكتب والأزهار… إلخ، وهذا ليس بالعمل اليسير وبخاصة في مبحث تاريخي – سوسيولوجي – سياسي مركّب جاء في إطار رواية سردية تخاطب القارئ المعني. أما التقنيات السردية التي اعتمدتها في هذا العمل فهي كلاسيكية مطعّمة ببعض الجوانب الحداثية؛ لكن تبقى القيمة المعرفية المسنودة بشغف المتابعة لمستجدات الفكر والعلم والتحولات خلال قرن كامل، هي الخصيصة الأهم – كما أحسب – في روايتي هذه.

الكتابة والمنفى

–  نُشِرت في العقدين الأخيرين كتبٌ عديدة تتناول موضوعة السيرة الذاتية والمنفى وانعكاسهما في العمل الروائي، وبخاصة بعد تزايد موجات الهجرة والنفي الطوعي أو الإجباري للعديد من العراقيين ذوي المؤهلات العالية (والروائيون منهم بالطبع). كيف تمظهرت مؤثرات السيرة الذاتية والمنفى في أعمالك الروائية المكتوبة بعد مغادرتك العراق؟

–  لا بدّ أن تحمل كل رواية في نهاية المطاف شيئاً من ملامح السيرة الذاتية لكاتبها مهما كان تجنيسها الأدبي، وحتى لو كانت روايةً ذات سمة ميتافيزيقية (رواية أفكار خالصة) مجاوزةً للوقائع المادية المشخصنة؛ لكن ثمة فرقاً جوهرياً بين سيرة شخصية وقائعية مبتسرة كحكاية عابرة وسيرة ذاتية خفية نرى جوانب من تمثلاتها الهادئة في العمل الروائي، وبما يكشف عن  ملامح شخصية الكاتب. وعلى هذا الأساس يمكن توسيع فضاء السيرة الذاتية للكاتب ليشمل فضاء المجتمع والجماعة البشرية الخاصة وحتى العالمية. أما بالنسبة إلى المنفى فهو تجربة عظيمة في مؤثراتها السلبية والإيجابية. كان المنفى تجربةً فتحت عينيّ على تفاصيل ووقائع لم أكن لأتخيلها وأنا ماكثة في بيتي البغدادي، وبين مشاريعي المختلفة أعكف الآن على إنجاز  كتاب “مذكّرات الحرب”، وآخر بعنوان “المنفى داخل المنفى: كراساتي الباريسية” سأروي فيهما، بتفاصيل محددة عشتها خلال “حروبنا”، عن تأثير كلّ من الحرب والمنفى في إعادة تشكيل جوانب شخصيتي النفسية والروائية، والمتغيرات التي طالت رؤيتي لمفهوم الوطن والفراديس المتخيَّلة الموهومة.

– واحدة من مواضعاتك الروائية المذكورة في تقديمك لكتاب “تطوّر الرواية الحديثة” ترى أنّ الرواية وريث شرعي للأسطورة. أرى أنّ هذه المواضعة خطيرة وتحتاج إلى مزيد من البحث والمساءلة. هلّا ألقيتِ شيئاً من إضاءة إضافية على هذه المواضعة؟

–  كانت الأسطورة – وكل ما يتعلق بها، إضافة للحكايات الشفاهية – ضرورةً  ملزمةً للحفاظ على التوازن الرقيق الهش بين روح الإنسان البدائي وبنيته الذهنية والسيكولوجية، الأمر الذي وفّر لهذا الإنسان الوسيلة والقدرة لتجاوز محدودية قوته، ووجوده المادي، والتفكير بأمداء أبعد من مجرد البحث عن توفير متطلبات أمنه الجسدي، وحاجاته البيولوجية البدائية، وأمسى وجود الأسطورة والملاحم الكبرى لدى كثير من الشعوب الحية وسيلةً  فعّالةً  للترابط الروحي بين أبناء الشعب الواحد، ومحفزاً فعّالاً للنظر في موروث إنساني مشترك تجتمع حوله فكرة المواطنة. من هنا أرى أن الرواية أمست اليوم الوريث الشرعي للأسطورة لقدرتها على توفير المحفزات اللازمة لإدامة شعلة التخييل البشري، ودفعها نحو آفاق لم تكتشف بعد، ومساعدتنا على تجاوز عوامل الكبح واليأس والإحباط التي يحفل بها عالمنا.

– ما المصادر المعرفية التي ترينها لازمةً لتشكيل عُدّة الروائي؟

– لا أرى أيّ ضير في  توظيف أيّ لون معرفي، وجعله عنصراً فاعلاً في العدّة المفاهيمية للكاتب (الروائي خاصة) متى ما حاز ذلك اللون المعرفي على طاقة خلاقة لإدامة شعلة التوهج الفكري ومغالبة انكفاء الروح البشرية، وتجاوز محدوديات الزمان والمكان والبيئة.

الرواية والمعرفة

– ما الميزات الخاصة التي تمثلُ معالم شاخصةً لنصوص لطفية الدليمي؟

–  في ما يختص بتجربتي الروائية أقول وبوضوح حاسم: لم أكتب يوماً نصاً سردياً وأنا واقعة تحت غواية تجريب رؤية سردية قرأت عنها وفتنتُ بها، أو تماشياً مع روح نصّ مّا قرأته وأعجبتُ به، بل أكتب طبقاً لذائقتي الشخصية، وبما يتطلبه النص الذي أعمل عليه، وتستدعيه موجبات بنائه وتشكّلاته، وما يتطلبه الموقف الفكري الذي ينبغي أن تنهض به الرواية بكل أجناسها، إلى جانب المستلزمات الجمالية التي يتطلبها الفن الروائي.

يمكنني القول إن أعمالي السردية (وخاصة الروائية منها) تمتازُ بسمات محددة تخص تجربتي، وقد تطوّرت هذه السمات وتكثّفت في أعمالي الأخيرة. السمة الأولى: توظيف النص الصوفي والعرفاني – إذا تطلب الأمر – كمادة أصيلة في النص الروائي، وبطريقة عضوية ملتحمة يمكن معها أن توفّر نوعاً من “المتحسّسات الميتافيزيقية” للقارئ قد تعينه على تلمّس خطاه، وتدبّر خياراته في حياته الحاضرة.

السمة الثانية: الحرص التام على تضمين النص نوعاً من “الرؤية الخلاصية” الميتافيزيقية والفردانية. إن فكرة “المجاوزة” المستمرة للوقائع اليومية – مهما بدت مثيرةً ومدهشةً ومغويةً – أراها تقع في قلب كل رؤية خلاصية فردية، وأحسب أن الرواية جديرة  بتعزيز هذه الرؤية حتى وإن كانت روايةً تتشكّل من حوادث يومية محدودة طارئة أو عابرة.

السمة الثالثة: التركيز على “موسيقية” النص، والتعامل مع موسيقى اللغة الجوانية بوصفها أداةً فاعلةً في التعبير عمّا لا يمكن التعبير عنه بالكلمات المجردة.

السمة الرابعة: الحرص على جعل الرواية نصاً معرفياً إلى أبعد المديات ويتّفق هذا مع قناعتي المتزايدة بأن الرواية الحديثة ستلعب في السنوات المقبلة دور “الحاضنة المعرفية” التي تزوّد الأجيال القادمة بقدر معقول من تلاوين المعرفة المتجددة، وبخاصة بعد الانفجار المعرفي الهائل والكشوف العلمية والتقنية المتواترة.

– كيف ترين شكل الرواية المعاصرة؟ ومن هم أبرز ممثلي هذه الخريطة؟

–  راحت الرواية العالمية تستعيد سماتها الكلاسيكية، وغادرت عصر الألاعيب الشكلانية التي تعاظمت في أعقاب عصر ما بعد الحداثة؛ لكن هذه الكلاسيكية الروائية هي كلاسيكية محدّثة معززة بكثير من المعارف الحديثة جعلت الرواية أقرب إلى توصيف “الرواية المعرفية”. أرى، بقدر ما يختصّ الأمر بالرواية، أنّ الفن الروائي على مستوى العالم بات يلعب دوراً متعاظماً خليقاً بجعل الرواية حاضنةً كبرى لخلاصات الفكر والفلسفة والتقنيات المتطورة، وهي تحافظ بذلك على تقاليد القراءة الشغوفة من جانب، وتمدّ القارئ بجرعات من المتعة واللذة اللتين لا يجدهما في الفروع المعرفية الأخرى من جانب آخر.

بقدر علاقة الأمر بذائقتي الشخصية، أرى أنّ بعض أعمال الروائية الأميركية إليزابيث غلبرت (Elizabeth Gilbert) تمثّل الرواية المعرفية تمثيلاً نموذجياً وبخاصة روايتها الرائعة “التوقيع على الأشياء كلّها” (The Signature on all Things)، وتندرج في هذا السياق معظم روايات هيرمان هيسه بخاصة روايتيه البارزتين “ذئب البراري” و”لعبة الكريات الزجاجية”، وتمكنني الإشارة إلى رواية  “مون تايغر” للروائية البريطانية بنيلوبي لايفلي (Penelope Livley)

–  كتب العديد من الكُتّاب وصايا للكاتب الناشئ يرونها ضروريةً لكلّ كتابة واعدة. لو طلبنا إليك توجيه وصاياك للكتاب الناشئين، فماذا ستوصين؟

–  سأقول لهؤلاء الناشئين الواعدين: لا تخشَ أن تكون روايتك الأولى متصاديةً مع وقائع من سيرتك الذاتية؛ فهذه آلية طبيعية ستخف وطأتها مع أعمالك اللاحقة، وابتعد عن الوقوع في أسر المعتمد الأدبي السائد، ومحاولة جعل أعمالك تتماشى قسرياً مع قياساته، واقرأ كثيراً في حقول معرفية متعدّدة، ولا تنزلق في غواية الموضات الكتابية السائدة (الفصاحة الجديدة، ورواية البذاءة الديستوبية مثالاً)، واجتهد أن تتقن لغةً ثانيةً (الإنجليزية خاصة) لكي لا تبقى أسير الرؤية الواحدة، وابتعد عن فخ كتابة روايات كثيرة في وقت قصير (موضة رواية جديدة لكل سنة).

ااا

الأفكار واللغة والرواية

–  أيهما أهمّ في تشكيل الرواية من وجهة نظرك: اللغة أم الأفكار؟

–  الأفكار التي تأتي في إطار جسم حكائي وتتناول تفصيلات غير مطروقة أو جرى تناولها بأشكال روائية مختلفة هي العنصر الجوهري الأهم في تشكيل الرواية. سنشهدُ في السنوات القادمة تراجعاً واضحاً لما يسمّى “البلاغة اللغوية”، وبخاصة عقب ارتقاء تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي ستعمل على إعلاء شأن نمط من اللغة التي يمكن وصفها بـ”اللغة الخوارزمية” تلك اللغة التي تعتمد تركيبات لغويةً بسيطةً (من حيث المحتوى النحوي  syntactic  والدلالي semantic) بأعظم ما يمكن لكنها قادرة على تمرير حشد غير مسبوق من الأفكار.

 يبدو لي – عبر متابعتي  للإصدارات الروائية العالمية الجديدة – أن الكثير من المستحدثات السردية ما بعد الحداثية التي طالت الرواية بدأت تتراجع وتخلي الساحة للتقنيات التي طبعت عصر الحداثة الروائية، وتبنت ميلاً واضحاً نحو الموضوعات الوجودية الكبرى؛ إنما في إطار رؤية فردانية وليس في سياق كليّ شمولي مثلما فعلت السرديات الكبرى لعصر الكلاسيكيات الروائية. وليس غريباً أن يتزامن هذا الأمر مع خفوت النظريات السردية الكبرى التي شاعت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي صبّت جلّ اهتمامها على البنى اللغوية، ويخيل إليّ أن هذا الأمر سيتعزّز في السنوات القادمة بوتيرة أسرع بكثير ممّا نلمسه الآن، وقد نشهد مع تطور تطبيقات الذكاء الاصطناعي عودةً – أشبه بالتوق المضني – إلى توظيف الكلاسيكيات الأدبية مع مراعاة أن لا تبدو الشخصيات الروائية كآلهة متعالية على البشر، بل متماهية مع الكائنات البشرية التي ستغرق في ثقب رقمي أسود هائل لا يمكننا اليوم التنبؤ بمدياته ومفاعيل مؤثراته.

اللغة ساحرة مغوية تصلح لتمرير الأفكار الرفيعة، وهي – في الوقت ذاته – ماكرة لعوب يمكن أن تكون وسيطاً خبيثاً لتمرير الألاعيب الفارغة، والقارئ الحاذق هو وحده من يعرف التمييز الذكي بين الساحرة المغوية والماكرة اللعوب.

–  كيف يمكن أن تسهم الرواية في إضفاء معنى على الحياة البشرية؟

–  أراني في هذا الشأن متماهيةً مع رؤية الناقد الأدبي “فرانك كيرمود” والتي مفادُها “أنّ الفن الروائي نشأ كشكل دنيوي في سياق التوجّه المتعاظم نحو العلمنة الطاغية التي سادت الغرب، ولطالما كان هذا الفن واعياً بطبيعة تخليق المعنى وخلعه على الحياة البشرية، ويحصل هذا الأمر من خلال الميكانيزمات السردية التي يرمي الروائي عبرها إلى جعل القرّاء أكثر معرفةً ووعياً بكافة الوسائل التي غالباً ما تكون موغلةً في القِدَم، ويمكن عن طريقها تخليق أشكال متباينة لمعنى الحياة البشرية. تسهم الرواية في جعل الموت، والحياة كذلك، موضوعةً مختبرةً ومحسوسةً في عصر تواجه فيه الحياة البشرية خطر تحولّها إلى موضوع هامشي تافه مفتقد لأي معنى”.

– عندما تشرعين بالتفكير في كتابة رواية جديدة، ما الأسئلة الاستراتيجية التي ترينها ماثلةً أمامك دون سواها؟

–  ما الذي أريد كتابته للقارئ؟ وما الوسائط التي تعينني على تمرير ما أريد قوله للقارئ؟ هذان هما سؤالا اللحظة الراهنة عند شروعي بكتابة رواية جديدة، أما الخزين المعرفي، والتفاصيل التقنية الصغيرة والتفصيلية فهي أمور كامنة عميقاً في روحي وعقلي، وسوف تُستحضر لاحقاً بعد لحظة الشروع، وعندما يمضي العمل السردي في مسالكه المقبولة.

مغامرة الترجمة

–  كيف بدأت علاقتك بالترجمة؟ وكيف تؤثر الترجمة في حياتك الراهنة؟ وأيّ الفروع المعرفية أحبّ إلى ذائقتك الترجمية؟

–  كان لديّ عشق أحسبه متأصّلاً للغة الإنجليزية منذ صباي، وكنت متفوقةً في مادة هذه اللغة، رغم أن تخصصي الدراسي كان في حقل اللغة العربية، وساعدتني الدورة الدراسية التي حضرتها في كلية غولدسمث التابعة لجامعة لندن عام 1978 في الارتقاء بلغتي الإنجليزية، والتعرّف على فضاءات غير مسبوقة لي في حقل الفلسفة والرواية.

   بدأت علاقتي بعالم الترجمة في ثمانينات القرن الماضي عندما عملت في مجلة الثقافة الأجنبية، وترجمت موضوعات عديدةً لملفات المجلة، ثم ترجمت مجموعة مختارات قصصية عالمية وروايتين عالميتين، ثم ترجمت مختارات من يوميات الكاتبة أناييس نن، وتعززت طاقتي الترجمية في العقد الثاني من هذا القرن لسبب أراه من جانبي كامناً في تفجّر الدفق المعلوماتي المجاني الذي أتاحته لنا شبكة الاتصالات العالمية (الإنترنت)؛ الأمر الذي شكّل انعطافةً ثوريةً في أدواتي المعرفية، وتنوّع قراءاتي في الأدب، والعلوم (الفيزياء بخاصة)، والفلسفة، إلى جانب السير الذاتية والمذكرات (التي أعشقها عشقاً خاصاً)، مضافاً إليها عامل استقراري في مدينة عمّان.

غدت الترجمة – بالنسبة إليّ – عيناً ثالثةً أرى بها العالم من جهاته المختلفة، ويتوازن عملي في الترجمة مع عشقي للفن الروائي والكتابة المقالية والدراسات، وقد منحتُ الترجمة منذ ثمانينات القرن الماضي وقتاً وجهداً خاصا لم يؤثر على الكتابة القصصية والروائية،  فأنا كاتبة منظمة جداً، ومتفرغة للكتابة وحدها منذ تقاعدي المبكر عام 1984، وأقسّم وقتي بين أعمالي على نحو دقيق، وقد منحتني الترجمة أفقاً واسعاً لما تتطلبه من قراءات متنوعة ومتعددة لاختيار وتحديد الأعمال الملائمة للترجمة.

مترجماتي الحديثة ومنذ ما يقرب من الخمسة أعوام باتت أكثر تنويعاً وتضميناً لحقل السيرة والسيرة الذاتية والمذّكرات والمصنّفات الفلسفية والعلمية، إلى جانب الحواريات المعرفية الثرية في محتواها الفلسفي.

–  كيف تصفين علاقة التأثير الثنائي المتبادل بين أعمالك المؤلفة وتلك المترجمة؟

–  لو أردت الحقيقة لتوجّب عليّ القول إن لغة مترجماتي تأثرت بلغتي السردية من حيث مبناها الموسيقي، وهيكليتها اللغوية المنضبطة، رغم إيلائي الرشاقة التعبيرية اهتماماً مهووساً. لكنّ العلاقة بين لغتي السردية ونظيرتها الترجمية تبقى علاقةً تتغذى بدفعٍ من تأثير التغذية الاسترجاعية الإيجابية، إذ ثمة نموّ وتطوّر وارتقاء يطال كلاًّ من تلك اللغتين كنتيجة للتطور الذي يطال الأخرى، وإنني لسعيدة أعظم السعادة بهذه العلاقة الإيجابية الرائعة.

–  هل ثمة مقاربة خاصة لك في عملك الترجمي؟

–  تنطوي مشاريعي الترجمية على مقاربة فكرية أحرص على تنوعها واختلافها، كما أن لديّ تقليداً ثابتاً وهو العمل على مجموعة من الترجمات في وقت متزامن، الأمر الذي يديم في روحي وعقلي نوعاً من الحيوية الذهنية، والمتعة التي أنتشي بها طوال الوقت.

–  كيف ترين العلاقة بين طَرَفَي ثنائية (الروائي/المترجم)؟

–  يمكنني القول بوضوح إن الترجمة توسّع آفاق الروائي وتضيف ذخيرةً ثريةً من الأفكار والرؤى والخبرات إلى عدّته الروائية وقد خبرت هذا الأمر شخصياً وتلمّستُ  آثاره الطيبة في عملي وحياتي.

– هل تتّفقين مع العبارة القائلة إنّ “المترجم كاتبٌ آخر للنص الأصلي”؟

–  نعم، المترجم هو كاتب آخر للنص لكن ينبغي إيراد بعض التفصيل في هذا الأمر. الترجمة هي نقل جسم معرفي مكتوب بصيغة أفكار في سياق لغوي وثقافي محدّد إلى ما يقابله في لغة أخرى، وواضحٌ أنّ كلّ لغة هي تركيب ضخم ومعقّد من العناصر النحوية والدلالية التي تؤثر في تشكيل النمط العقلي والسيكولوجي للناطقين بها ولا يمكن نقل ذلك النمط إلى لغة أخرى. لكن ثمّة جزئية أخرى لا بدّ من إيضاحها: يختلف حجم التأثير الفردي للمترجم في تشكيل المادة المترجمة بقدر حجم المؤثرات ذات الطابع الدلالي في النصّ الذي يُراد ترجمته، أي أنّ بصمة المترجم المميزة ستكون أكثر وضوحاً إذا ما كانت المادة المترجمة نصّاً شكسبيرياً، أو مادة تختصّ بفلسفة العلم – مثلاً – بدلاً من أن تكون مادةً تقوم على القيمة الإخبارية (أحد نصوص الهندسة الوراثية، أو الفيزياء الكمومية على سبيل المثال)، وإذا ما وضعنا في حسابنا أنّ العالم بات يتّجه صوب التفكير الخوارزمي، الذي يعمل على كبح المؤثرات الدلالية في اللغة لصالح إعلاء شأن الخوارزميات المنمّطة، المتوافقة مع متطلبات الذكاء الاصطناعي، فلن يكون عسيراً علينا أن نتوقّع تراجع عبارة “المترجم كاتب آخر للنص المترجم” لتحلّ محلّها عبارة “المترجم وسيط لنقل الفكر بأفضل وأدقّ وسيلة متاحة تحافظ على أصل ذلك الفكر في صيغته الأصلية”.

أعطيات الترحال

–  بأيّ طريقة حصل التأثير المتوقّع بين فاعليتك الترجمية وتجربة الترحّل في المنفى التي امتدّت بضع سنوات؟

–  يخاطب هاملت صديقه هوراشيو في المسرحية الشكسبيرية ذائعة الصيت بقوله “هناك أشياء كثيرة في الأرض والسماء ياهوراشيو غير تلك التي حلمتَ بها في فلسفتك”، وإذا كان لترحالي من مأثرة إيجابية عظمى فهي تأكيد هذه الرؤية الشكسبيرية التي تتجاوز المحدوديات المحلية الضيقة.

تكمن مأثرة الترحال الكبرى في أنه يغيّر المشهديات البصرية التي يعالجها الدماغ بقدراته البيولوجية، وعندما تتغير هذه المشهديات تتعدّد إمكانيات المعالجة الدماغية للمعلومات المتحصلة، الأمر الذي تنشأ عنه قدرة أعظم في إمكانية الدماغ البشري على مطاوعة المستلزمات التكيفية للأوضاع البشرية المتغيرة. وهنا لن يقع الدماغ – ومن ثم الفرد ذاته – أسيراً لواحدية النظرة، والاعتقاد والرؤية والقناعة، وسيعرف المرء أنه – هو وجماعته الإثنية – ليسوا مركز الأرض وقطبها الأوحد. ومن هنا تنشأ قدرة الفرد على إدامة فكرة التسامح وتعزيزها مع المختلف، وقبول الآخر، والتعامل مع الجماعات البشرية بأريحية فكرية لا تلبث أن تتعاظم مع الأيام.

–  كيف ترين تجربة “الروائي مترجماً” بعد هذه السنوات المديدة من الخبرة الترجمية المشفوعة بما يقاربُ الثلاثين كتاباً مترجماً في شتى الصنوف المعرفية؟

–  يمكن أن يكون المترجم روائياً ناجحاً، وثمة الكثير من الأسماء الروائية اللامعة أثبتت حضوراً ممتازاً في عالم الترجمة. لعلّ منشأ أخدوعة “المترجم روائي فاشل” يكمن في أنّ المترجم يوظّف طائفةً كبرى من العُدّة التحليلية والوسائل الملحقة بها، في حين يميل الروائي إلى توظيف التخييل والحكايات في قالب سردي مغلّف بالمتعة. قد يكون هذا الأمر مقبولاً في عصر بواكير الرواية في القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن العشرين، لكننا في هذا العصر، حيث باتت الرواية جسماً معرفياً مصبوباً في قالب حكائي، فإنّ بوسع الرواية تناول أيّ شيء وكل شيء إلى جانب توظيف كلّ الوسائل التحليلية الممكنة، وأظنّ أن الوصف الأدقّ بعد اليوم هو أنّ “الروائي الجيّد هو المترجم الأقدر والأكفأ من سواه”.

للل

الكتابة الصحافية

–  بوصفك كاتبة مقالة أسبوعية، وموضوعات ثقافية في الصحف والمجلات الثقافية العراقية والعربية، كيف تتمايز الكتابة الصحفية عن الكتابة الإبداعية؟

–  أفهم بالطبع متطلبات الكتابة الصحافية التي تخاطب جمهور العامة، ويُرادُ منها التبسّط، وسهولة تمرير المعلومة بأقلّ قدر من الفذلكات المفاهيمية، لكني لا أؤمن بالهشاشة المفاهيمية التي تتوسّل الكتابة الصحافية اليومية مسوّغاً للتحلّل من القيمة الفكرية للمادة المكتوبة، وهنا تنبغي إقامة موازنة صارمة بين الرصانة الفكرية ومتطلبات مخاطبة الجمهور العام. أرى في العموم أن على الأعمدة الصحافية – والثقافية منها بخاصة – أن لا تكتفي بالكتابات الموضوعاتية المتداولة، وأن تسعى لتمرير حزمة من الأفكار إلى القارئ بطريقة يفهم منها الجدّة والحداثة، ومخاطبة إيقاع العصر حتى لو كانت المادة المكتوبة تتخذ صفة الكتابة الناقدة للمتداول في عصرنا هذا، وربما لو قرأ القارئ مثلاً مقالتي المعنونة “بوّاب عمارة اسمه فتغنشتاين”، التي كتبتها في ثقافية صحيفة “المدى” العراقية، أو مقالتي الأخرى المعنونة “أنا روائي، إذن أنا أكره الرياضيات” المنشورة في ثقافية صحيفة “العرب” اللندنية لأدرك ما أنا ساعية لتحقيقه في مقالاتي الثقافية في الصحف اليومية.

– كيف ترين واقع الصحافة الثقافية في واقعنا العربي الراهن؟

– ليس صحيحاً أن نخادع أنفسنا. ثمة انكفاءٌ وتراجع في تمويل الصحافة الثقافية، والصحافة الورقية بعامة، وبعض هذا الانكفاء يمكن تسويغه بفعل الثورة الرقمية التي جعلت المنشورات الثقافية متاحةً بالمجان لمن يمتلك جهاز كومبيوتر (أو جهازاً لوحياً أو حتى هاتفاً ذكياً) مرتبطاً بوصلة إنترنت عاملة. لكن لا مفرّ من إعادة التفكّر الشامل بوسائل النشر الثقافي الرقمي المستجدّة، ومعرفة الوسائل الأكثر جدوى في مقاربة الموضوعات الثقافية بلغة رقيقة قريبة من الذائقة العامة، وبعيداً عن الرطانات القديمة.

القصة القصيرة والمسرح

–  لم نقرأ لك قصصاً قصيرةً منذ زمن ليس بالقليل. هل من سبب وراء هذه الحقيقة؟

–  هذا صحيح تماماً. ظهرت مجموعة “ما لم يقله الرواة” عام 1999، ثم مجموعة “برتقال سمية” عام 2002، وبعض القصص المتفرقة ضمتها مجموعة المختارات القصصية “مسرات النساء” عام 2015. شخصياً أعدّ كتابي “موسيقى صوفية”، الصادر عام 1994، أهمّ منجزاتي القصصية، وهو يضمُّ روايةً قصيرةً (نوفيلّا) مع بعض القصص القصيرة. أظنّ أن ذائقتي الإبداعية لم تعُد تتفق مع طبيعة القصة القصيرة، بقدر ميلها إلى الأعمال الملحمية الطويلة المكتنزة بوقائع فكرية ومادية مشتبكة لا تتسع لها قصة قصيرة.

–  قد لا يعرف كثيرون أنك كاتبة مسرحية، ولديك خمسة نصوص غير منشورة أهمّها “الليالي السومرية”، التي أخرجها الراحل سامي عبدالحميد، وعُرِضت في بغداد يومين متتاليين فقط، ثم حُظر عرضها. كيف تصفين تجربتك الإبداعية في حقل الكتابة المسرحية، وبخاصة في نطاق عملك المسرحي الأهم “الليالي السومرية”؟

–  تمثّل “ملحمة كلكامش” العالمية، أفضل تمثيل، القيمة الكامنة في حقيقة الجوهر الفلسفي لطبيعة المعيش الطيّب مقابل وهم الخلود، فضلاً عن تأكيدها لقيمة عيش اللحظة الراهنة، وعبّ رحيق الحياة المشتهاة على نحو يجعلنا نمتلئ بطاقة أبيقورية يتوازن عندها التفكر في معنى الحياة وغائيتها، مع اجتناء اللذة اليومية في العيش. ونحن إذ نفعل هذا ينبغي أن نضع في حسباننا أن اللذة ألوان شتى تتباين بحسب التكوين العقلي والنفسي للفرد.. ورؤاه التي تشكّل مساره في الحياة.

يمكن تتبّع اهتماماتي بالسينما والمسرح والفنون التشكيلية منذ عمر مبكر، فقد قرأت معظم نتاج المسرح العالمي الكلاسيكي الإغريقي  والشكسبيري والألماني والفرنسي والأميركي والايطالي عبر السلاسل المترجمة التي كانت تصدر في مصر ثم في الكويت. أما اهتمامي بالكتابة المسرحية فيعود إلى توق مكنون للمسرح وجد فرصته للتدفق في منتصف تسعينات القرن ذاته عندما عزمت على تقديم قراءة مختلفة لملحمتنا الخالدة “ملحمة كلكامش” برؤية معاصرة تعزّز المنحى الأبيقوري في العيش، وبخاصة عند العراقيين الذين جعلت منهم المراهقة السياسية والألاعيب الحزبية كائنات تعيش حالة طوارئ ممتدة حطّمت أرواحهم، وصيّرتها أسيرة قلق يومي مدمّر. كتبتُ منذ ذلك الحين خمس مسرحيات هي حسب ترتيبها الزمني “الليالي السومرية”، “الشبيه الأخير”، “الكرة الحمراء”، “قمر أور”، و”شبح كلكامش”، تدور معظمها في فلك إعادة توظيف الفكر الرافديني لصالح إثراء الحياة المعاصرة، ومنحها زخماً أكبر يمكّنها من المضيّ في الحياة بتفاؤل صعب المنال في الحالة العراقية.

أدخلت في نصي “الليالي السومرية” أبنيةً صراعيةً جديدةً، مع حرصي على سطوع توجهات النص الأصلي في النص المعاصر، فقد اعتمدتُ في عملي الحدود الخارجية التقليدية للشخصيات، لكني ملأت فراغات الروح والعقل بمواقف، وتجاذبات تستدعيها حركة الشخصيات الجديدة في تقاطعها مع الشخصيات الأصيلة.

كتبتُ نصّي الخاص مشحوناً برؤى جديدة متضافرة مع الفلسفة الرافدينية، ورؤيتها لمفهومات الوجود، والموت والحياة، والخلود، والسلطة، وأظهرت كلكامش المتجبر دموياً يقيم دعائم مملكة أوروك على سلب الناس أبناءهم وزوجاتهم وبناتهم، فتضجّ الجموع الأوروكية بالشكوى، وتتضرّع للآلهة أن تخلق نداً له يقارعه، وينقذ أوروك من تجبره. وعمدت إلى موازنة الهيمنة الذكورية الفظة لكلكامش وأنكيدو مع الحضور الأنثوي الذي يقود إلى تذوق ثمار التحضر والفكر، وترسيخ فكرة المستقبل الذي تبشّر به المرأة العارفة، والمرأة المغوية، وحكيمة الحانة. اقتصر النص الأصلي للملحمة، كما تعلم، على شخصية البغي شمخت التي حولت أنكيدو  عبر فن الحب، وتناول الخبز والشراب من حالة التوحش إلى التأنسن، وشخصية مالكة الحانة البحرية سيدوري المبشرة بالحكمة الأبيقورية. في مسرحيتي “الليالي السومرية” عملت على تشظية شخصية المرأة، فتكاثرت وتجلت في الربة الخالقة أورورا، وسيدة الكتابة والمعرفة نيسابا، ونسجتُ بؤر صراع درامي جديدة بين ممثلات الأنوثة من جانب، وبينهن وبين كلكامش ممثل الذكورة العنيفة من جانب آخر.

الثقافة وآفاقها

– يلاحظ المتتبع الفطن لأعمالك المؤلفة والمترجمة تركيزاً استثنائياً على موضوعة الثقافة، وأرى أنّ القصدية في هذا التركيز تخفي مسعى واضحاً من جانبك.  كيف تعلّقين على هذه الملاحظة؟

–  هذه ملاحظة دقيقة تماماً، وتمثّل جانباً من مسعى شغلني طويلاً، وتعاظم في السنوات الأخيرة. يقوم هذا المسعى على صيغة إطارية لما يدعى بـ”نظرية الأنساق الشاملة” في الثقافة، وتماثلها “نظرية النظم الدينامية المعقدة” على الصعيد العلمي والتقني. الفلسفة الكامنة في هذا السعي هي “ربط الصغير في الهيكل الكبير”. أما ما دفعني إلى هذا السعي الشغوف فهو قراءتي لكتاب “في التعقيد” (On Complexity) للفيلسوف الفرنسي إدغار موران.

–  حبّذا لو قدّمتِ لنا خلاصةً لرؤيتك الراهنة للأنساق الثقافية الشاملة؟

–  هي مقاربة تشبيكية بين المعارف (Transdisciplinary)، وعابرة للحدود المعرفية المتداولة. المعرفة البشرية نسيج معقّد في حيثياته المشتركة الأصلية، وقد سعيتُ دوماً إلى بلوغ الفهم المشترك الذي يجمع كلّ أشكال المعرفة البشرية. إن كلّ حقول المعرفة– حسب تدقيقاتي الأساسية وملاحظاتي الممحّصة – إنما تعيش في شقق متجاورة منفصلة عن بعضها (دعونا نعتمد هذا التشبيه العياني)، في حين أنها ينبغي أن تكون مرتبطةً بطريقة بينية متداخلة. الفضيلة الكبرى التي توفّر عليها موران، وأشبعها نقاشاً في سلسلة كتبه المعنونة “المنهج”، هي كون المعرفة موزّعةً على حقول متباعدة عن بعضها بطريقة صارمة، وأنّ من الأمور الحيوية إيجاد أدوات مفاهيمية تجعل تعشيق هذه الحقول المعرفية مع بعضها أمراً ممكناً.

 الثقافة الثالثة

–  يلاحظ القارئ تركيزاً من جانبك على مفهوم “الثقافة الثالثة” بين كلّ الموضوعات الثقافية. كيف تسوّغين هذا الأمر؟

–  الثقافة الثالثة هي من مبتدعات الناشط الثقافي الأميركي جون بروكمان (John Brockman)، وهو وكيل أدبي وكاتب متخصّص في ميدان الأدبيات العلمية، يُعرَفُ عنه  تأسيسه لمؤسسة “EDGE” التي تسعى إلى التشارك بين الآراء الفكرية لدى العلماء والفلاسفة والمهنيين العاملين في كافة الحقول العلمية والتقنية التي تُصنّفُ في التخوم العليا للمعرفة البشرية مثل الذكاء الاصطناعي، خوارزميات التعلّم العميق، النظم الدينامية الفوضوية المعقدة، نظرية التعقيد، طبيعة الوعي، أصل الحياة، أصل الكون، دينامية التفكير البشري.. إلخ.

تضمّ الثقافة الثالثة أولئك العلماء، ونظراءهم من سائر المفكّرين، العاملين في نطاق العالم الاختباري، والذين يجاهدون عبر أعمالهم وكتاباتهم على الحلول محلّ المثقفين التقليديين، وهم إذ يفعلون هذا فإنهم يلقون أضواء جديدةً على المعاني الأكثر عمقاً التي تنطوي عليها حياتنا، فضلاً عن أنهم يعيدون تعريف “من نحنُ ؟” و”ما نحنُ؟”.

تبدو الثقافة الثالثة – بالوصف الذي أوردته – خياراً ثقافياً يصعب التفلّت منه، أو الالتفات عليه، وبخاصة أنّ الجنس البشري بات على أبواب تعاظم مفاعيل الثورة التقنية الرابعة في حياتنا، والتي سنشهد فيها البوادر الأولى لحقبة الأنسنة الانتقالية (Transhumanism). تمتاز الثورة التقنية الرابعة بأنها تشبيكٌ لمجموعة من التقنيات التي تتجاوز الحدود الفاصلة بين النطاقات المادية والرقمية والبيولوجية.

 نشهد في أيامنا هذه معالم متزايدةً تنبئ بمقدم الثورة الصناعية الرابعة، التي ستعيد تشكيل عالمنا لا على الصعيد التقني فحسب، بل ستمتد آثارها لتشمل إعادة صياغة وجودنا البشري، وكينونتنا الذاتية عبر تداخل غير مسبوق بين المنظومات البيولوجية والمادية، وهو الأمر الذي ينبئ بتغيرات ثورية لم نشهد منها سوى قمة الجبل الجليدي، وستتوالى المشهديات غير الاعتيادية لها في السنوات القليلة القادمة، وربما قد نشهد حلول “متفرّدة تقنية” (Technological Singularity) ستمثل انعطافةً كبرى في شكل الوجود البشري والبيئة التي تحيا وسطها الكائنات الحية. لذا لا بدّ من أن تكون استجابتنا الثقافية لهذه الانعطافة متكاملةً وشاملةً تشمل كل البشر، وجميع نظم الحكم العالمية، وينبغي أن تمتدّ لتضمّ القطاعات العامة والخاصة، وكذلك ميدانَي الأكاديميا والمجتمع المدني.

أمثولتي الحيّة

–  هل ثمة أمثولة أو مواضعة أو حكمة مقطّرة من الخبرة البشرية المكتنزة ترين ذاتك منقادةً لها، أو تعملين على هديٍ منها؟

–  جعلتُ حياتي مصداقاً لتلك الأمثولة التي طلب الكاتب اليوناني المعلّم نيكوس كازانتزاكيس في وصيته أن تُنقش على شاهدة قبره “لا آملُ في شيء، لا أخشى شيئاً، أنا حرّ”.

  • عن مجلة الجديد، وصحيفة العرب – لندن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *