-
إبراهيم نصر الله
كلنا ابتللنا بماء إعصارها، بعضنا غرق، وبعضنا يقاوم، لكن أحدًا منا لا يستطيع أن يقول إنه نجا باستثناء أولئك الذين يعتقدون أن مواصلة العيش هو الحياة.
في هذه السنة المُبالِغة في أناقة ترتيب أرقامها: 2020 هناك ترسّبات من فيضانها في داخل كلّ منّا، أو بعض من ترسباتنا الذاتية التي يعبّر عنها الآن، خفية أو علانية، يباسنا أو اخضرارنا، أحلامنا أو كوابيسنا.
في أعماقنا أدركنا بشكل جماعيّ، ربما للمرة الأولى، كيف يمكن ألا يكون جزء من الُعمْر لنا؛ زمن مفقود ضائع، على رأي «بروست» أو عام ليس لنا، على رأي «غسان كنفاني» مع بعض تحوير لعنوان كتابه «عالم ليس لنا».
جائحة فاجأت بلايين البشر الذين اكتشفوا أن سنة كاملة اقتُطِعَت من أعمارهم، مثل تلك الضرائب الكثيرة التي يدفعونها، لكنهم في النهاية لا ينعمون بشيء من الرّعاية الحكومية مقابلها، كما يحدث في العالم العربي وكثير من دول العالم الثالث.
.. وبعضنا؛ أولئك الذين يرون أن لا جديد، أصلاً، تحت شمس أيامهم، أحسوا أن ثمة جديدًا أسوأ من تشابه الأيام ودورانها.
لكننا كلنا انتظرنا بطريقة أو بأخرى أن تنتهي هذه السنة، كما لو أن اليوم الأول من السنة القادمة هو بوابة النجاة. هل هذه هي قوة الأمل ولعنته؟ جمالياته وقسوته؟ باعتباره الملجأ الأخير لكرة أرضية بدت للمرة الأولى خارج أي ملجأ، عارية، لا يحوْل بينها وبين هذا الكائن الدقيق الذي يُدعى فيروس أي شيء، لا السدود العالية ولا الحدود المغلقة ولا الدعوات المتفائلة ولا القريب المُحبّ ولا البعيد الأحبُّ، كأنّ الأمر بمثابة بروفة كونية لنهاية العالم.
من الصعب أن تكتب مقالك الأخير في هذه السنة، وكأنك أمضيتَها: هذه السنة، في كوكب آخر، فالحياة، للمرة الأولى، لم تعد ممكنة في أي مكان آخر هنا، تراجيديا كبرى أبطالها البشر، ولا شخصيات ثانوية فيها، كلهم أبطالها وكلهم ضحاياها، وكل من سينجو سيحمل في داخله ذلك الخيط الرّمادي من الأسى، الذي أسميته ذات يوم «هزائم المنتصرين» في تتبعي لمصائر بشر احتفلوا بنصرهم ضاحكين، إلى أن تذكروا خسائرهم التي لا يمكن أن تعوّض؛ في طريقهم إلى نصرهم، فانحدرت دموع أَسَاهُم في لحظة التتويج.
كل واحد منا اكتشف مأزقه الخاص، ومن لم يكتشفه بعد، سيكتشفه بعد حين، طال أو قصُر. بعضنا اكتشف مأزق الحقيقة التي لم تكن أكثر من وهم، وبعضنا اكتشف هشاشته التي ظنّها طوال الوقت حقيقة راسخة، حين وجدنا أنفسنا أمام معادلة علينا إعادة النظر في نتائجها، إذ لم تعد حتى الرّياضيات ودروس الحساب كافية لإعطاء إجابة دقيقة لحصيلة جمْع عددين، ولا جمْع مظاهر أو حقائق حياتنا السابقة أو طرْح هذه من هذه، لكي نؤكد سعادتنا أو قلقنا أو نجاحنا، أو ثقتنا، أو قوّتنا، أو حتى ضعفنا الذي لم نعد مطمئنين إلى درجة ضعفه.
لكننا رغم هذا كله امتلأنا بالأحلام، كما لم نمتلئ بها من قبل، وتوحّدْنا في أمل الخروج من هذه الهوة، بعد أن ضاقت الأحلام وحُشرت في رغيف خبز أو تقليص ساعات الحظر ساعة أخرى، أو نجاحنا في الفحوصات المتعلقة بالمرض، في زمن يعصف به كوفيد 19 بالملايين، أو مُنِحْنا الفرصة للتجوال بعيداً، على الأقدام، خارج أحيائنا السكنية؛ كسجناء في ساحة أرحب من زنزانة، أو الوصول إلى بداية الشارع المؤدي إلى المطار، لكي نحسّ أننا في الطائرة، أو تأمّل صور الأحباء لنحسّ أنهم ما زالوا معنا وأن الوصول إليهم، ولله الحمد، لم يزل ممكناً عبر الألبوم أو شاشة الموبايل أو الكمبيوتر، بعد أن انتصب هذا العدوّ الخفيّ، لا بين بلد وبلد وحسب، بل بين كل إنسان وإنسان على سطح هذه الكرة الأرضية.
حتى مذاقات الفرح في لحظات التمرد على التباعد واختيار التخالط، لم تعد تخلو من طعم موت أو نذير خطر!
بعضنا أفلت من حياة اكتشف مأزقها وابتعد، وبعضنا اختبر معنى وجوده في يومه العادي، بل يومه العاري واحترق أكثر، وبعضنا تسلل لأزمنة أخرى بذاكرة ليست بحاجة لتذاكر الطيران كي تبلغ وجهاتها التي تريد. بعضنا رقَّ، وبعضنا قسا، وبعضنا أدرك للمرة الأولى أن له وجهة غير تلك الوجهة التي أمضى عمره يركض لاهثاً ليبلغها، وفي الأحول كلها يبقى الخاسر الأكبر في وقائع هذه الملحمة الكونية هو ذلك الذي لم يكتشف شيئاً.
من كان يتوقّع أن عاماً واحداً من عمر الزمان يكفي لهزّ الزمان كلّه، وضعضعة ثقتنا بعظمة منجزاتنا، وقوة قبة الحماية التي طالما اعتقدنا أنها تحمينا.
كلّ القباب لم تعد صالحة، فجأة، لنهرول نحوها ولنندس تحتها، مراهنين على أنها الحلّ.
سنة وجودية، كما لو أننا استيقظنا ووجدنا أنفسنا جميعاً نسير على خط دقيق يؤدي إلى يوم القيامة.
لكن ذلك كله، وأعني عيْشنا لمأزقنا الكبير هذا، ليس كافياً لكي نتأكد من أننا سنكون في الغد أفضل، نحن الذين أدركنا هشاشتنا وهشاشة غيرنا؛ فداخل رحْم هذه السنة البارد القاسي تمّسك البشرُ بشيء واحد لم يقبلوا التنازل عنه، هو أخطاؤهم، وإصرار كثيرين منهم على أن نجاتهم هي الأساس، هي الهدف، وأن الآخرين ليسوا أكثر من خسائر حرب.
سينتهي هذا العام بالتأكيد، بعد أيام، وسننجو ما أتيح لنا، بما فينا من مناعة أو بما فينا من لقاحات، أو بما رفعنا من جدران، وسنخرج من المصيدة التي وجدنا أنفسنا فيها جميعاً، لكن المستقبل لم يعد كما كان.
هل سيكون الضعفاء بعد ما حدث أضعف، والأقوياء أقوى، أم العكس؟ هل سقطت أسطورة القوة المطلقة الطليقة، أم تضاعفت؟ هل سنكون أكثر جرأة بعد أن عدنا من منتصف الهاوية إلى أمل يدعونا لأن نُحب الحياة أكثر مما أحببناها من قبل؟ هل سندرك أن وجودنا جميعاً، كبشر، في مركب واحد، أمر حقيقي وليس من ثمار البلاغة؟ هل سنشتاق أكثر للتقارب؟ أم سيغدو التباعد لغة جديدة ستتقنها أجسادنا -أكثر مما نتقن لغاتنا- وهي تدافع عن نفسها، وكأننا لسنا فيها؟
وبعــــد:
سنة علَّمتْنا بكاء مختلفاً، لكنها علَّمتْنا ضحكاً أكثر مأساوية منه، رغم أن الذي يُنكِر أن المأساة تحظى بخفة ظلّ، ليس على حقّ دائماً!
-
عن القدس العربي