زليخة أبو ريشة *
يشهد الإعلام المصري منذ أشهر قليلة حملة اندفاعية لمحاصرة ظاهرة بدأت تتشكل في المجتمع المصري، بل والعربي، ألا وهي “ظاهرة الإلحاد”. وتأخذ هذه الفضائيات على عاتقها التحذير من هذا الفكر الذي تصفه أحياناً بالمنحرف، وأحياناً بالجنون! وتدعو في جميع الأحوال إلى محاصرته والقضاء عليه قبل استفحاله! ناهيك عن المطالبة بشديد العقاب لأهله “المفتونين عن الدين والخطرين على المجتمع”.
وبمراجعة ما على الإنترنت من مواقع إلحادية، سنجد عدداً منها معنيّاً بتقديم أطروحات تجادل اليقين الراسخ، واليقين الكاذب “الذي يضحكُ صاحبُه به على نفسه، ويظن أنه يستطيع أن يضحك به على ربّه”! مما تجود به هذه المواقع من حجج! وإذ أنّا لسنا بصدد مناقشة ما تسوقه منظمات الإلحاد الافتراضية وأفرادُها من أدلة على “نفي وجود الله”، كما على “نفي الأديان”، وما تزجيه بين هذا وذاك من تهوين لفكرة الدين نفسها، أو لدينٍ بعينه… فإن ما يعنينا هنا الوقوف على الأسباب التي يسّرت لهذه الظاهرة الحقيقية أن توجد، بل أن تعلن عن نفسها. فمن معنايَ البشريّ المبتلى بالضعف والقصور والعجز، مثل سائر البشر، لا أستطيع، وما ينبغي لي، أن أُصدر حكماً قيميّاً على إيمان أحد! ما دام هذا الإيمان لا يحضّ على إيذاء البشرية، كلّها أو بعضها، أو الطبيعة، كلها أو بعضها، إيذاءً حسياً ملموساً، كالإيمان بالعنف مثلاً، أو بتفوّق عنصر أو إقليم أو جندر… إلخ! إذ ما دام الإيمان في مستواه النظري، ولا يُشكل خطورة على حياة البشر أو حياة الأرض، ولا يتعدّى بالشتم والسخرية من عقائد الآخرين، فليس لنا -في رأيي- إلا أن ندرسه لنتبيّنه، ونقف على مسبّباته وآفاقه! وهذا ما نفعله الآن!
عندما قويَ التفكير الدينيّ في المنطقة، والذي لم يبلغ مرتبة “الفكر” بسبب ما يعانيه من بساطة ومباشرة وسطحيّة، اتجهت معظم القراءات (وخصوصاً بعد أن حمل بعض أصحاب هذا التفكير السلاح وجالوا وصالوا في الحياة السياسية) إلى أن مستقبل المنطقة سيُحكم بسطوة هذا التفكير الغيبيّ الاستعلائيّ وعنفه، إلى أجل غير واضح المعالم! وإذ أن هذه القراءات التي يحكمُها إحساسٌ مرتاعٌ بالخطر، تزيِّنُ الحقيقة التاريخيّة (التي هي هنا وصول التفكير الديني الداعشي إلى الحكم والسيطرة) كحقيقة مؤبدة، أو كحتمية، فإنه لا يجوز أن نغفل أن في الرّحم الذي تكوّن فيه هؤلاء ممن ينتسبون إلى الفئة النّاجية، ما تزال تولدُ منه كائناتٌ أخرى، هي توأمها المختلف، بل العدوّ النّقيض! فكلاهما نما وتخلَّق في ظروف غير طبيعية، واغتذى -قبولاً ورفضاً- على أفكار ومفاهيم فيها من السّم أكثر ما فيها من الدّسم!
فما هي الظروف غير الطبيعية التي نزعم أن الإلحاد -كظاهرة عربية- قد وجد أرضاً صالحة لكي ينمو، بالرغم من أنه إلى جوار أكثر الإيمانات تشدّداً؟! بل في وسط بحرها الهائج!
الجواب يكمن في السؤال نفسه. ذلك أن “أكثر الإيمانات تشدّداً” هذه هي التي دفعت أفراداً لتتجمّع في منتديات وتتلاقى حول فقدان اليقين، أو بالأحرى، حول يقين جديد يجادلُ ويخاصمُ اليقين الدينيّ الذي عاينَتْه لدى تلك الجماعات. فالعنف باللفظ والجسد وبالسلاح، والتجبّر، والإعلان الدائم عن حيازة الحقيقة، ولغة التعصّب الأعمى، والإكراه على تطبيق شريعة دون سواها، والإجبار على التخلص من بقية تمدينٍ وعلى الانغماس في التوحّش، ورفض المنطق الحضاري والديمقراطي في حرية العقيدة وحرية التعبير، أي الاستبداد والطغيان في ثوب الدين… كلها أسبابٌ مباشرة، وعميقة الأثر في هزّ يقين أناس إلى درجة المخاطرة بالبوح بما يشعرون به من فراغ روحيّ، متأتٍّ عن هذا الحصار الأعمى الجائر للأفكار في أبسط صور اختلافها! ولإنسانية الإنسان في أبسط حاجاته الدنيوية!
وللحديث بقية!!
* الغد الأردنية