( ثقافات )
بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية 18/كانون الأول (ديسمبر)
*د.محمد عبيد الله
اللغة ليست كيانا مستقلا عن أبنائها والناطقين بها، بل إنها مرتبطة بهم أوثق ارتباط، فهي عنصر رئيس من مكونات الهوية والثقافة، ولذلك تتقدم بتقدمهم وتتراجع بتراجعهم. ولا تتفاضل اللغات كثيرا من ناحية خصائصها اللسانية، بل إن معظم علماء اللغة يساوون من هذه الناحية بين اللغات، ولكنها بلا شك تتفاضل من ناحية مضامينها ومحتوياتها الفكرية والأدبية والعلمية، وتعلو قيمة اللغة كلما زادت محتوياتها كما ونوعا، فهذه الزيادة المطردة تحوج الناس من أهلها وغير أهلها إلى تلك اللغة، فضلا عن أنها تشكل تحديات وتجارب تطور اللغة نفسها وتعلمها دروسا جديدة في التقدم والتطور.
وحال العربية اليوم لا يكاد يخفى على أحد، ويبدو أنها ما زالت تندب حظها كما صورها حافظ إبراهيم في بداية القرن العشرين وحتى اليوم. ولكنها غير ملومة على حالها الذي آلت إليه، بل لقد قاومت وما تزال تقاوم مستندة إلى عناصر القوة فيها، تلك العناصر التاريخية التي هيأتها لأن تتجاوز تحديات ومحنا لا تكاد تتوقف. ووسط عتمة الصورة هناك إضاءات وكوى نجحت اللغة في النفاذ منها، وكشفت عن بعض إمكاناتها حينما أتيح لها ذلك في فرص قليلة مقابل الإهمال من أهلها والعداء من غيرهم ومن بعضهم. ومع إدراك كل مسوغات الحال فإن ترداد الشكوى وحده لا يكفي، والكلام على التحديات التي صار أكثرها معروفا معلوما لا ينفع، فنحن محتاجون إلى أن نشعل بعض الشموع أو ننتبه إلى وجودها أكثر من حاجتنا لمواصلة شتيمة الظلام.
لقد حظيت اللغة العربية بما لم تحظ به لغة أخرى من عوامل القوة والبقاء، فهي اللغة التي ولدت في مهد الأبجدية الأولى في تاريخ الإنسان، وورثت بعض عناصر أمهاتها وأخواتها من لغات الشرق القديم، وهي لغة العرب قبل الإسلام، تظهر مكتملة ناضجة في الشعر الجاهلي لا يكاد ينقصها شيء. وهي بمجيء الإسلام لغة القرآن ولغة الإسلام الدين الكوني الذي نزل للناس كافة، ولكن لغته الدينية والرسمية هي العربية، التي تعلمتها الشعوب الأعجمية عندما دخل الناس في دين الله أفواجا، ثم غدت اللغة العالمية الأولى في عصر ازدهار الحضارة العربية وسيطرتها على العلم العالمي، ولا يضيرنا أن نذكّر بالمراكز التي انتشرت لتعلّم العربية ولنقل محتواها العلمي إلى اللغات الأوروبية، وإلى أثر ذلك المحتوى في وجوه شتى من عوامل النهضة الأوروبية وخروج أوروبا من عصر الظلمات وعصور الانحطاط. ولقد اصطبغت بها لغات الشعوب الإسلامية فتحولت إلى الكتابة بالحرف العربي كالفارسية والعثمانية (التركية القديمة) والأوردية. ولم تتقهقر هذه اللغة رغم مرور قرون طويلة من الحكم العثماني التركي وظلت قوتها نافذة رغم التحديات والمحن الكثيرة. وتعرضت في القرن العشرين لتجارب صعبة ومحاولات مريرة كي تنحني أمام العاميات مرة وأمام اللغات الأجنبية مرات، وأمام دعاوى لتغيير كتابتها والانقطاع عن ذاكرتها، ولكنها صمدت وبقيت حية، وماتت أكثر تلك الدعوات أو تحولت إلى تجارب جانبية لا تغير من جريان النهر المقدس شيئا.
إنها لغة عالمية ما في ذلك شك، بالنظر إلى عمرها المديد وشبابها المتجدد، وإلى محتواها الحضاري المتنوع على مر العصور، فأية لغة استمرت حية مثلها؟ وأية لغة تمكنت من تثبيت بعض قوانينها وطبائعها ولم تتسامح حيال التغير مثلها؟ إننا نقرأ بهذه اللغة من امرئ القيس حتى محمود درويش، ونقرأ بها الجاحظ كما نقرأ بها نجيب محفوظ.. ولا نجد صعوبة في ذلك، بينما يشق مثلا على أبناء الإنجليزية اليوم أن يقرأوا تشوسر أو شكسبير باللغة التي كتبوا بها أشعارهم قبل ثلاثة أو أربعة قرون.
وإذا كان عدد الناطقين باللغة من أبنائها وغير أبنائها من المؤشرات المعتمدة في تصنيف اللغات، فإن اللغة العربية لغة ما يزيد على 300 مليون شخص ممن تعدّ العربية لغتهم الأم، وهي في المرتبة الرابعة عالميا من ناحية عدد الناطقين بها، وربما لو توفرت إحصاءات دقيقة مبرأة من الأغراض السياسية لتجاوزت الإسبانية والإنجليزية اللتين لا تبتعدان عنها من ناحية عدد الناطقين بهما من موقع “اللغة الأم”، ولنالت المرتبة الثانية بعد الصينية بيسر ودون صعوبات. وزيادة على ذلك فإنها اللغة الثانية للمسلمين الذين لا يمكنهم أداء عباداتهم وشعائرهم بغير العربية بصرف النظر عن مستوى إتقانهم لها، إلى جانب طوائف العرب المسيحيين الذين يؤدّون قسما كبيرا من صلواتهم وعباداتهم بالعربية، بمجموع وصل إلى 1,6 مليار عام (2011) ويصل اليوم (2020) إلى نحو ملياري مسلم وعربي، أي قرابة ربع سكان الكرة الأرضية. ومن الطبيعي أن يكون هذا العامل سببا رئيسيا في عالمية اللغة العربية من ناحية ضرورة تعلمها واستخدامها إذا ما تذكرنا أنها اللغة الوحيدة المرتبطة ارتباطا مقدسا بواحد من الأديان الكبرى في العالم. وليس من لغة تدانيها من هذه الناحية، ولكن من جانب آخر فإن الحرب التي تشن على الإسلام وأهله تستهدف اللغة فيما تستهدفه لأنها إحدى جبهات الإسلام وحضارته.
إنها لغة عالمية، بعدد الناطقين بها، والمحتاجين إليها من غير أبنائها، هذا إذا تجاوزنا أعدادا كبيرة تعلموها ويتعلمونها لأسباب أمنية وسياسية، ولقد زاد هذا العدد في السنوات الاخيرة وهو مرشح للزيادة في الأفق القريب. ولقد كانت هذه الخلفية سببا في اختيارها منذ عام 1973 ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة والمنظمات المتفرعة عنها والتابعة لها.
ومما يمكن الإشارة إليه أن منظمة التجارة العالمية “الجات” تعتمد ثلاث لغات رسمية هي: الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. وهناك ضغوطات ومطالبات من الأطراف العربية منذ عدة سنوات بأن تعتمد العربية ضمن اللغات الرسمية لهذه المنظمة الدولية. ومن المعروف أن إدخال اللغة العربية يعني ترجمة وثائق هذه المنظمة واتفاقاتها وأدبياتها كافة إلى العربية بشكل دائم، وهو أمر حيوي سواء من ناحية تواصل الناطقين بالعربية مع أدبيات المنظمة وقراراتها أو الأثر الإيجابي الذي يزيد من فرص العربية في تفاعلها مع لغة التجارة والاقتصاد، وما يتضمنه ذلك من الاعتراف بمكانتها وعالميتها، وهو أمر نأمل أن تواصل الدول العربية المؤثرة اقتصاديا وتجاريا المطالبة به وعدم التنازل عنه.
ومن ناحية بروزها على شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) فرغم أن الأرقام والنسب لا تعكس قوة اللغة العربية ولا مكانتها ورغم الإهمال الذي يحيط بها ورغم أن القواعد والأسس التقنية التي بنيت عليها الشبكة ليست أسسا عادلة من الناحية التقنية واللغوية، فقد ظلت اللغة العربية تظهر ضمن لغات (الإنترنت) العالمية، وموقعها يتقدم باطراد مع كل إحصاء، ولقد ظهرت في الترتيب السابع من ناحية عدد المستخدمين لها على الشبكة العالمية متقدمة على لغات كثيرة منها الفرنسية والروسية والكورية. كما سجلت المرتبة الثامنة عشرة من حيث اللغات الخمسون الأكثر بروزا في الترجمة.
وفي إحدى النظرات الاستشرافية توقع الكاتب الإسباني (كاميلو جوزي سيلا) الحائز على نوبل عام 1989 أن اللغات القادرة على الصمود في وجه تغيرات العصر أربع لغات: الإنجليزية والإسبانية والعربية والصينية. وهي نظرة تستند إلى عوامل الانتشار والقوة الذاتية في هذه اللغات.
لقد تعددت دعاوى الموت، موت اللغة العربية وانحسارها في مراحل مختلفة، ثم عاودت الظهور مع مرحلة ثورة الاتصالات والعولمة، ومعظم هذه الدعوات مصدرها الخوف الشديد المبالغ فيه من اللغة العربية من فئة معادية للغة وللثقافة العربية، ومن فئة ثانية تخاف على اللغة فتجعل هذه الدعوى سبيلا للصدمة لعل النائمين يستيقظون ويهبّون لنجدة لغتهم. ولكنها دعاوى لا نحسب أن شيئا منها سيتحقق، لأسباب كثيرة دينية وثقافية ولغوية متعاضدة متشابكة.
ولقد بدت عالمية العربية في محتواها الأدبي والفكري والإعلامي الذي أسهم في تطويرها في العصر الحديث فقطعت شوطا طويلا في التطور من هذا الجانب، ومن يراجع تطور الأدب الحديث وتطور الصحافة العربية وتطور الفكر العربي الحديث سيعرف مقدار طواعية هذه اللغة ومرونتها وإمكاناتها وكذلك سيطل على الجهد الكبير الذي بذله الأدباء والمفكرون والإعلاميون العرب مما مكنهم من تطويع العربية للعصر الجديد كلغة فكر وأدب وإعلام حديث متجدد. ولقد تمكن نجيب محفوظ رائد الرواية العربية من الحصول على جائزة نوبل العالمية عام 1988م ولقد لفت هذا الفوز الانتباه للعربية الحديثة المتطورة، وعزز شيئا من مكانتها بين اللغات العالمية.
أما الجانب الذي لم يتح للعربية أن تحقق إنجازات ملائمة فيه فهو الجانب العلمي والتقني، فلقد شهد العصر الحديث ثورة علمية وتقنية متسارعة، حاولت العربية اللحاق به ومواكبته ولكن تعرضت التجربة لكثير من الانتكاس ولبست لبوسا سياسيا وتعليميا ظل يشدها إلى الوراء ويمنعها من تجريب حظها ومن التطور العلمي ومن التفاعل مع العلم الحديث. ولعل قضية تعريب العلوم وتعليمها بالعربية من أبرز قضايا هذا المحور. فلقد استسلمت الجامعات العربية للتعليم باللغات الاجنبية وظلت تجارب التعريب محدودة مرتبكة.
ونحن حين نعرض للعربية لا نريدها أن تغدو لغة أدب وفكر وإعلام فحسب، ولكننا نريدها لغة متكاملة حية قادرة على استيعاب المحتويات العلمية والتقنية، ولكن هذا الجانب لا يمكن النهوض به من دون أن يتجه أبناء العربية من العلماء والمتخصصين في العلوم المختلفة إلى تعميق البعد العلمي في العربية تعريبا وتأليفا وتطويرا. فنحن نحتاج إلى نهوض حركة بحث علمي بالعربية، في مجالات تكنولوجيا المعلومات وغيرها، ومحتاجون إلى استكمال الجهود في تعريب المصطلحات، وإلى عدم الاستسلام إلى السهولة باستخدام الإنجليزية وحدها. فذلك لا يسمح بتوطين العلم ولا يمنح فرصة للإسهام العربي الحقيقي للغة العربية.
لقد نجحت اللغة العربية في العصور العباسية لأن تكون اللغة العالمية الأولى كلغة علمية تطلع الأوروبيون إلى تعلمها لكنهم لم ينتموا إليها إنتماءنا إلى لغاتهم اليوم، ولم يستسلموا إليها كما نستسلم اليوم وما أسرع أن تشرّبوا علمها وتفاعلوا معه ليكون أحد مكونات نهضتهم اللاحقة وخروجهم من عصر الظلمات الذي كانوا يعيشون فيه. نحن اليوم في مرحلة جديدة من الظلمة الحضارية وليست مكانة اللغة إلا أحد مؤشرات هذا العصر. وما ندعو إليه من العودة إلى أوليات الأمور من ناحية استخدام اللغة العربية كلغة علم ومعرفة علمية أحد مؤشرات الخروج.
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
-
اللغة لثغة المعرفةجريس سماوي لست سلفيا فيما يتعلق بضوابط وقواعد اللغة العربية وصرامة النحو، وأنا أميل الى…
-