عدالت آغا أوغلو.. الأدب التركي يفقد زهرة خياله

سمية الكومي  

 

«سأرقد للموت. لو أن هناك أبدية.. أريد أن أكون الأبدية». هكذا، قالت الكاتبة المسرحية والروائية التركية «عدالت آغا أوغلو»، والتي رحلت عن عالمنا، في تموز الماضي، عن عمر يناهز التسعين عاماً، بعد مسيرة حافلة بالمعارك في ميادين الأدب والسياسة، لتصبح قنديل التنوير والتحضُّر لمجتمعها كما وصفها وزير الثّقافة التركي في نعيه لها.
تُعَدّ «عدالت آغا أوغلو» أحد أبرز رواد الواقعية الاجتماعية في الأدب التركي المعاصر، وهي من الرعيل الأوَّل لمثقَّفي الجمهورية، تمتَّعت كتاباتها بحسّ ساخر وعبثي، وهي أستاذة اللعب بتيّار الوعي وتنويعات المونولوج الشخصي في الرواية. تنهض كتاباتها على آثار التغيُّرات الاجتماعية، والثّقافيّة التي تركتها السياسة على المجتمع التركي، وتوابع الحداثة، ونموّ الفردية، والشعور بالاغتراب، ورصد القيم المتحلِّلة في الطبقة البرجوازية البارزة، إثر التغييرات الجذرية في عصر الجمهورية. أدخلت أشكالاً جديدة على الرواية التركية، فهي -كما أوضحت- قد سئمت من الرواية الكلاسيكية، واستطاعت استخدام اللّغة التركية، بشكل جعلها تنجح في استعادة بعض الألفاظ والمصطلحات، لينعكس انتشارها في اللّغة اليومية.
وُلِدت «عدالت آغا أوغلو» في 23 أكتوبر، عام 1923، لأبٍ يعمل في تجارة الأقمشة. انتقلت مع أسرتها إلى قلب مدينة أنقرة، فحظيت بفرصة التسجيل في مدرسةٍ إعدادية بالعاصمة، ومع تقدُّمها الدراسي ظهرت موهبتها الشعرية، لأوّل مرّة، في الثانوية، لكن سرعان ما جذبها المسرح، فاتَّجهت إلى الكتابة المسرحية، وظهرت أعمالها النقدية ودواوينها الشعرية، منذ أن كانت في الثالثة والعشرين من العمر.
درست الأدب الفرنسي في جامعة أنقرة، والتحقت للعمل في قطاع الإذاعة والتلفزيون التركي فور تخرُّجها عام 1950، محرِّرة نصوصٍ مسرحية، حتى وصلت إلى رئاسة القطاع، وظلَّت تعمل به حتى دفعها توغُّل يد الدولة العميقة، في ظلّ الحكم العسكري في شؤون ما يبثه راديو TRT، للاستقالة، عام 1970.
ساهمت، مع مجموعة من أصدقائها، في تأسيس أوَّل مسرح خاصّ، عام 1961م، باسم «ميدان»، لتصبح هذه أوَّل خطوة على طريق تحرير القطاع المسرحي من قبضة الدولة. عُرِضت أعمالها على مسارح الدولة، حتى منعت وزارة الثّقافة التركية، تحت الحكم العسكري، عرضَ مسرحيَّتها «الصدع الذي بالسقف» عام 1965م. اتَّجهت للكتابة بأسماء مستعارة منها: ريموس تلادا، وباركر كوينك. في عام 1973، نشرت روايتها الأولى «الرقود للموت»، التي ناقشت، خلالها، التغيُّرات التي طرأت على المجتمع التركي من بعد رحيل «أتاتورك»، عام 1938.
في عام 1976، أصدرت رواية «زهرة خيالي الرقيقة» والتي تصدَّرت المبيعات في تركيا طوال أربع سنوات، حتى صادرتها السلطات التركية عام 1981، ووجَّهت لها تهمة إهانة القوّات العسكرية، وظلّت محلّ مداولة حتى تمَّت تبرئتها عام 1983م. تزايدت شهرة الرواية، وتحوَّلت إلى فيلم سينمائي عام 1992، بعنوان «المرسيدس الصفراء» من إنتاج تركيا وألمانيا وسويسرا وفرنسا.
أعوام الموت
في عام 1975، فقدت أخاها في حادث مأساوي، وفي العام التالي يرحل والدها، وفي عام 1977 يسقط أخوها الأصغر مهزوماً بالسرطان، فتمرّ بفترة عصيبة، انعكس أثرها على قصص مجموعتها «الصوت الأوَّل للصمت». انتقلت، بعدها، للعيش في اسطنبول، عام 1984. وتوقَّفت عشرين عاماً عن كتابة المسرح، حتى عادت، عام 1991، بمسرحية «بعيد جدّاً، قريب جدّاً». وحصلت عنها على جائزة «إش بنك» الكبرى.
في تموز 1996، تعرَّضت لحادث سيّارة ألقت بها في البحر، في أثناء مشيها على الساحل، لترقد عامين وأكثر في المستشفى، تتعافى من عودتها من الموت، كما علَّقت في يوميَّاتها: «كانت أيَّاماً عصيبة، كأنها زلزال مدمِّر، قاتلت فيها وحدي. كانت كالحياة تحت الأنقاض. لقد رأيت جنازتي! وعدتُ مرّة أخرى، بفضل محبِيَّ وقرّائي وأطبّائي. وفي ذلك الحين، عرفتُ أن الكاتب لا يستطيع كتابة ألمه، ولا يأسه الخاصّ. فقط، يستطيع كتابة آلام الآخرين».
أتمَّت مجموعتها القصصية «طرق النجاة» كما أوضحت في لقاء تليفزيوني، بشكل يدوي، على سرير المستشفى، ثم أرسلتها بالفاكس إلى دار النشر. تقول «عدالت آغا أوغلو» في هذا اللقاء: «كنت على وشك الاستسلام للموت، وعرفت معنى العبودية والبطالة، ولكن ما دفعني لهزيمة الموت هو معرفة العاملين بالمستشفى بأعمالي، وقراءتهم لها، وتأثّرهم بها. حينها، استيقظت بداخلي، مرّة أخرى، المسؤولية الاجتماعية، وصمَّمت على أن أعود إلى الكتابة، مرّة أخرى، من أجل المجتمع». وقد كتب لها الشاعر التركي المعروف «جان يوجل»، أنذاك:  «أنتِ أجمل حادثة حدثت لتركيا».
لم تنفصل حياة «عدالت آغا أوغلو» الأدبية عن السياسية، فقد سئلت، في لقاء تلفزيوني، عن علاقة ترشُّحها للبرلمان عام 1999، بكونها أديبة، فأجابت أن الأدب سياسة، والسياسة تنعكس على كلّ شيء في حياتنا، وأن كلّ رواياتها مستلهمة من المجتمع وأحداثه السياسية. قُدِّمت ثلاث مرّات للمحاكمة بسبب أعمالها، ومرّة بسبب ترجمتها لمسرحية لفيلسوف الوجودية الأكبر «جان بول سارتر».
ساهمت «عدالت»، عام 1986، في تأسيس جمعية حقوق الإنسان في تركيا، لكنها، في يوليو، عام 2005، تقدَّمت باستقالتها قائلة إن المؤسّسة بدأت تتَّخذ مواقف قومية متطرِّفة وعنصرية.
كانت تتوخّى التوسُّط في مواقفها، وكم جلب لها ذلك السخط؛ فقد تَمَّ انتقادها لحصولها على جائزة رئيس الجمهورية للأدب، وعلى موافقتها على تغيير الدستور عام 2010م، إلى درجة أنها تعرَّضت للرمي بالبيض من إحدى الجماعات الطلّابية. وقالت في لقاء تليفزيوني: «أنا مواطنة تركية، وإن لم أذهب لدعوة رئيس الجمهورية، فلأمزق بطاقة هويَّتي، إذاً».
تقول، أيضاً: «لولا قرار «أتاتورك» بحبس كلّ من لا يرسل بناته إلى المدرسة؛ ما كنتُ تعلَّمتُ، وأصبحتُ كاتبة. لكن التغيير الجذري بدون بنية تحتية، هو شيء خطير، فقرار تغيير الحروف من العثمانية إلى اللاتينية جعل مثقّفي الأمس جَهَلة! تخيَّل أن تكون مثقّفاً، وفي اليوم التالي لا تستطيع القراءة، حتى اسمك لا تعرف كيف تكتبه!».
سئلت عن نصيحة تقدِّمها للكُتّاب المبتدئين، فأوصتهم بكتابة اليوميّات؛ ليس لأنها ستساعد في تطوُّر أسلوبهم، فحسب، بل لأنها شيء نابع من الكاتب، ويخصّه وحده، وليس كالرواية أو المسرحية، إذ يمكن للدولة التدخُّل وتغيير شيء فيهما. كما أوصتهم باستخدام اللّغة التركية بشكل صحيح، والحفاظ على رصانتها بعيداً عن مدخلات الكلمات الأجنبية المستحدثة، فقالت: «إن الحزن يولِّد الإبداع. كلُّنا حزانى في الأصل، ولكن من يسائل نفسه ويدرك المغزى هو القادر على الإبداع، ولو كنت سعيدة؛ ما كنت كتبت».
في عام 2010، تبرَّعت بكلّ أرشيفها ومكتبتها لجامعة «بوغازتشي»، وتَمَّ تسمية المشروع باسمها، وصار مفتوحاً للجميع، به جوائزها، ومكتبها، وأدوات الكتابة، وأصبح متحفاً بعد ذلك.
عام 2018، حصلت على الدكتوراة من جامعة «بوغازتشي»، الجامعة الأولى والأهمّ في تركيا، عن إسهاماتها خلال 70 عاماً في الأدب والفكر والتنوير.
استمرَّ زواجها بالمهندس «حليم»، 64 عاماً: «هذا الزواج نجح لأننا هدمنا معنى منظومة الزواج، فقرَّرنا ألّا ننجب حتى لا يكون الطفل عقبة في طريق حرَّيَّتنا. «حليم»، أحَبَّ كتاباتي قبل أن يحبَّني، وكنت أوقّع له أوّل نسخة من كلّ عمل. لقد وقَّعت له على إحدى الروايات 27 مرّة!».
تقول الكاتبة عن آخر عمل صدر لها، في 2018، عن عمر 89 سنة: «الآن، أصبحت الكتابة سمّاً أكبر من السيجارة، حتى أنني تركت التدخين بسهولة، ولم أستطع ترك الكتابة! منذ عامين، لا أخرج من البيت، ولكنني لم أستطع التوقُّف عن الكتابة. الحاجة إلى الكتابة مثل حاجتي إلى الماء».
وفي موضع آخر، تقول: «كتبت هذه المجموعة القصصية برغم تقدُّم السنّ والألم من أجل «حليم»، الذي أحبَّني كاتبةً، ويجب ان أظلّ كاتبة. سقطتُ ثلاث مرّات وأنا أحاول المشي، وكان «حليم» يساعدني على المشي، فأقول له: لن أمشي خوفاً من السقوط، وهكذا، وضعت اسم المجموعة القصصية. الخوف من السقوط ليس مادِّيّاً، فقط، فأنا أخاف،أيضاً، من السقوط المعنوي».
في 2018، بعد صدور مجموعتها القصصية الأخيرة، مات زوجها المهندس «حليم أغا أوغلو». وفي مقابلة لها مع مجلَّة «اسطنبول لايف»، في أوائل 2020، وقبل هجوم وباء «كورونا» على العالم، قالت: «انقطعت عن الكتابة وعن كلّ شيء بعد موت «حليم». لقد أصبحت نصفاً، سئمت من نفسي، أنتظر متسائلةً: لماذا لم يأتِ الموت حتى الآن!».
توفِّيت الكاتبة التركية «عدالت آغا أوغلو» في 14 يوليو، 2020، بعد رقودها ثلاثة أيام في العناية المركَّزة، بسبب خلل متعدِّد في وظائف الجسم، وخرجت جنازتها من جامعة «بوغازتشي»، في «اسطنبول»، إلى مسقط رأسها «أنقرة». ورثاها وزير الصحّة التركي على حسابه الرسمي في «تويتر»: «ذبلت زهرة خيالنا الرقيقة».
كما كتب المؤرّخ التركي «ألبير أورتايلي» مقالاً، ينعي فيه الكاتبة، في جريدة «حرِّيّت»، قائلاً: «كانت الأطول عمراً بين كتّاب الأدب الحديث، متَّقدة الذهن، تكتب وتناقش دائماً، لقد فقدَ الأدب التركي «عدالت أغا أوغلو»، ولكنني على يقين من أن أعمالها لن تُنسى». في حين صرَّح الكاتب المعروف «أحمد أوميت»: «اليوم، عرجت إلى الأبدية، واحدة من أعمدة الأدب. لقد كانت كاتبة عملاقة، أنارت لنا الطريق. ستبقى حيّة بحبِّنا، وبأعمالها، وبقرّائها».

  • عن الدوحة الثقافية

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *