*لانا المجالي
أن تتحوَّل بعض الحواسّ إلى ذِكرى!
على غرار فقدان حاسّة البصر في رواية “العمى” لجوزيه ساراماغو، أو حواسّ الشَّم والتَّذوّق والسَّمع في فيلم Perfect Sense/2011، خسرنا، نحنُ ايضًا؛ سكَّان هذه المعمورة في القرن الواحد والعشرين، حاسَّة الشَّوق المشاعريَّة، بفعل التّكنولوجيا التي سخرت من الانتظار، ومدَّت لسانها، سجّادةً حمراء، في استقبال غودو.
البشريَّة المعذَّبة تاريخيًّا بتباريح الشَّوق، استقبلت هذه الخسارة بطريقةٍ احتفاليَّة، متجاهلة تداعياتها السلبيَّة على الجانب الوجداني، وطرق التَّعبير الإبداعيَّة عنه؛ أهمّها انقراض أدب”الرَّسائل” الذي يعتبره الفيلسوف جاك دريدا ” كل الأجناس، أو الأدب نفسه” بشكله الشّائع، وتحوّله إلى شكلٍ هجين يخلو من الخصائص الفنيَّة، وأقرب ما يكون إلى المحادثات الفوريَّة المتبادلة -الكتابيَّة أو الصّوتيَّة- عبر منصَّات التَّواصل الإلكترونيَّة.
المفارقة، أننا احتفينا قبل سنوات قليلة، بازدهار الكتابة، أو العودة إلى التَّواصل باستخدام الرّموز مقابل الشّفاهة، عبر البريد الإلكتروني، لكن يبدو أن التَّطوّرات التّكنولوجيّة المتسارعة لا تمنحنا فرصة ملاحقة النتائج والبناء عليها.
الشَّوق البِكر
من السّذاجة مقارنة صورة أمّ عصريَّة تتواصل يوميّاً مع ابنها المغترب في أقصى الأرض بالصّوت والصّورة عبر شاشة الحاسوب أو الهاتف المحمول، بصورةٍ تحتفظ بها الذّاكرة منذ طفولتي، لأمٍّ تكافئ حفيدتها بقطعة نقديّة مقابل أن “تتهجّى” على مسامعها كلمات الابن الغائب ،ثمّ تعيد الكرّة مع حفيدٍ آخر، أو تحملها مع فنجان القهوة إلى الجارّة المتعلّمة، ومع صحن حساء ساخن إلى ضيفٍ يفترش ساحة البيت، قبل أن تدسّ الرّسالة الورقيَّة، في آخر النّهار، تحت أحلامها الغارقة بماء الشّوق.
هذه الصّورة، أو توأمها، يرسمها الأديب الفلسطيني محمود شقير، سرديّا، في روايته “مديح لنساء العائلة”، عبر رسائل الابن المهاجر عطوان، فنقرأ في رسالته الأولى تفاصيل الرّحلة: “وصلتُ يا والدي إلى البرازيل بتاريخ 9/12، هبطت بنا الطائرة في مطار ريو دي جانيرو في الليل، وكان بصحبتي أبناء العشيرة الثلاثة، وكم حزنت لفراقكم وأنا أودّعكم في مطار قلنديا! قلتُ في نفسي: الله أعلم متى نلتقي بعد هذا السّفر”، ويقول في رسالة ثانية : “وأرجو أن تعذرني يا والدي، لأنّني لم أرسل نقودًا لكم رغم مرور ستّة أشهر على وجودي هنا. عندما نصرف النقود، ونحوّلها إلى دولارات نفقدُ كثيرًا من قيمتها. أرجوكم أن تصبروا عليّ، وأن تعتنوا بزوجتي وطفليّ إلى أن أتمكّن من إرسال نقود”، وفي رسالةٍ أخرى تبدو تفاصيلها غرائبيّة في زمن “الفيسبوك” و”سكايب” وصور “السيلفي”، يكتب عطوان: ” ولأنّني مشتاق لك وللوالدة فأرجو أن تتكرَّم بالذهاب إلى القدس، إلى المصوّر هاكوبيان، ليصوّرك أنت والوالدة، ولترسل لي صورتكما لأحتفظ بها وأقبّلها كل صباح، ولأنّني مشتاق لفهيمة ولمنَّان، وفهمك كفاية يا والدي، فأرجو أن تأخذهما إلى المصوّر ..”.
الشَّوق الفُلّ
زهرة فُلّ أرسلها فتى عاشق إلى فدوى طوقان المراهقة، بواسطة طفل صغير وهي في طريقها إلى بيت خالتها (في حارة العقبة)، تسبَّبت بحرمانها من المدرسة؛ فقد وصلت أخبار “الرّسالة” الفوّاحة إلى شقيقها يوسف، وأصدر حكمه القاضي بإقامتها الجبريَّة في البيت حتَّى يوم مماتها، بعد أن هدّدها بالقتل إذا تخطّت العتبة.
سيرة الشَّاعرة الذّاتيَّة ” رحلة جبليَّة .. رحلة صعبة”، تؤكِّد أنّ الرّسائل لعبت دورها في محطّات كثيرة من حياتها، أختار هذه المرَّة أثرها الإيجابيّ؛ أي بعد أن تكفَّل شقيقها الشّاعر إبراهيم طوقان بتعليمها ومتابعتها حتّى أثناء إقامته في مدنٍ أخرى، تقول فدوى: “يبدو لي من رسائل إبراهيم التي كان يبعث بها إليّ من بيروت خلال العامين (1931- 1932)، أنّني كنتُ أتقدَّم بسرعةٍ لا أكاد الآن أصدِّقها، فها هي رسائله، تكشف لي أنّني أصبحت خلال عامين، قادرة على كتابة رسائل وقصائد سليمة من عيوب الصَّرف والنَّحو والعروض، وهذه بلا ريب فترة قصيرة بالنسبة لنقطة الصّفر التي انطلقتُ منها”.
الشّوق المجنون
وأنتَ تَقرأ الرَّسائل المحفوظة في الرّف العلويّ لخزانة ثيابك، أو في محفظةٍ جلديَّة يتراكم عليها الغبار وتجاعيدك، تشعر لوهلة، أنّها لا تخصّك. حتَّى أنَّك قد تبتَسِم لاسم المُرسِل،وتبكي على اسم المُرسَل إليه، وهذهِ، بالمناسبة، ليست قاعدة.
في رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السمّان، ودون الدّخول في إشكاليّة الآراء المتباينة حول مشروعيَّة نشرها، يواصل صوت غسّان الطّالع من النّضال إلى قلب بريد غادة، الإلحاح علينا بالعشق وبالكتابة: ” حاولي أن تكتبي لي: فندق سكارابيه شارع 26 يوليو. القاهرة؛ فسيكون أحلى ما يمكن أن يلقاني حين عودتي، رسالة منكِ”،والإلحاح علينا بارتكاب الشّوق: “أقول لك: يخيفني أن أرفع رأسي الآن، عَن هذه الرّسالة، فلا أجدك جالسة في المقعد المقابل”، ودعوتنا إلى مأدبة جنون: “طوال الأيّام الـ17 الماضية، كنتُ أنقِّب في كوم البريد مرّة في الصّباح ومرّة في المساء. اليوم فقط نفضتُ يَدي من الأمر كلّه، لكن الأقدار تعرف كيف تواصل مزاحهها. لقد كانت رسالتك فوق الكَوم كلّه، وقالت لي: صباح الخير. أقول لك: دمعت”.
ولكن، ما قيمة أن يتبادل شاعران الرّسائل؟
في رسالة عنوانها “الرّسالة الأولى” والموجّهة إلى سميح القاسم، يشهد عليهما القرّاء، ويضع شروط لعبتهما المكشوفة بتصميم كتاب ثمّ وضع رسائل له،مؤكِّدا: “ستكتب إليّ. سأكتب إليك.. لأعود؛ فما زال في وسع الكلمات أن تحمل صاحبها، وأن تعيد حاملها المحمول عليها إلى داره، وما زال في وسع الذّاكرة أن تشير إلى تاريخ”، وفي رسالةٍ أخرى بتاريخ 22/6/ 1986،يشير إلى حقيقة قد تكون مرعبة لو تأملناها: ” أإلى هذا الحدّ صرنا لا نرى الحقيقة إلا إذا قرأناها أو كتبناها؟ أإلى هذا الحدّ لم نعد هواة؟”.
أمَّا سميح القاسم فيشير بعفويّةٍ مقنعة إلى أنّه يخيَّل إليه أنَّ: ” الواحد منّا يكتب لنفسه حين يكتب لصديقه، ويكتب لأخيه حين يكتب عن نفسه حتّى ليختلط الأمر: من المرسل؟ من المرسل إليه؟ طوبى للجحيم. طوبى للمطهر. وهنيئاً لأولئك الذين بلغوا الفردوس المنشود”.
ولكن، لو أردت أن أحل الأحجية التي طرحها درويش في رسالته الأولى: ما قيمة أن يتبادل شاعران الرّسائل؟ سأشير إلى الجزء الخاصّ براشد حسين من رسائلهما، وأقتبس على لسان درويش حسرته: ” لماذا لم نكتب إلى كولونيل روحنا المتقاعد؟ لماذا لم نشغله ببناء الجسور والمواعيد، لماذا تركناه وحيداً..وحيداً في نيويورك؟”، ثمّ أوزّع وصيّته، هديةً للعابرين: ” كان من الممكن إنقاذ الكثيرين لو كانت هناك يد، أو رسالة، أو سبب للحياة.. “.
ليس اعتذارًا
ليس اعتذاراً، ولكنّني عجزتُ، عن تناول خساراتنا المشاعريّة، دون أن أحصر شواهدي بأقلامٍ فلسطينيّة.
ليس اعتذاراً، لكنّني لم أمنع بوصلتي عن الإشارة إلى بقعةٍ وحيدة في القلب، يخوض أهلنا فيها، نضالهم المشروع بأمعاءٍ خاوية داخل سجون الاحتلال.
ليس اعتذاراً، لكنّني لم أقاوم رغبتي في كتابةِ رسالةٍ أخيرة، لا تزيد عدد حروفها عن ستّة، وتعيد إلينا حاسّتنا المفقودة… هي فلسطين.