-
د. حورية الظل
يعد الفن الإسلامي من الفنون التي استطاعت أن تساير كل العصور، محملة بسحر خاص، وغموض محيّر وجمال آسر، إنها مميزاتها الرئيسية وخصائصها التي راوحت بين الثبات والتغير، ولكن روح هذا الفن ظلت ثابتة، فاتسمت بقوة وسحر لا يتبدلان. وهذه الإمكانيات الجمالية التي يتمتع بها الفن الإسلامي بصفة عامة، والخط العربي بصفة خاصة، أبهرت فناني أوروبا ومبدعيها، ولأن من رأى ليس كمن سمع، فقد شد الكثير من الفنانين التشكيليين الغربيين الرحال إلى موطن الفنون الإسلامية في بلاد الشرق وشمال أفريقيا، للوقوف على أسرار هذا الفن.
ومن الفنانين التشكيليين الغربيين الذين وصلهم سحر الفن الإسلامي في بلدانهم، فشدوا الرحال إلى منابعه الأصلية، إميل غراسي الذي زار مصر سنة 1869 وهنري ماتيس الذي زار المغرب سنة 1912، وبول كيلي الذي زار تونس سنة 1914 ومصر سنة 1928، وفاسيلي كاندينسكي أبو التجريدية الذي زار تونس بين 1904 و1905، ومصر وسوريا وتركيا سنة 1931، وكلود رونوار الذي زار الجزائر بين 1879 و1882، وغيرهم كثير.
إن ما شد انتباه هؤلاء الفنانين الذين زاروا المشرق وشمال أفريقيا، تجليات الفن الإسلامي بألوانه الصافية، وزخارفه ومعماره، وكل هذا ملفوف بغلالة روحية ونورانية تشد البصر والروح وترقى لتلامس المطلق، وقد ترجم هؤلاء الفنانون هذا التأثر والانبهار إلى مدارس واتجاهات فنية، كما أن دخول الفن الغربي مرحلة التجريد مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، جعل بعض فنانيه يجدون في الحضارة الشرقية ما يستجيب لرؤاهم الفنية، فحدث تقاطع حضاري وفني نتج عنه نهل بعض الفنانين الغربيين من حضارة الشرق.
وكمثال على ذلك أيضاً، فقد برز هذا التقاطع في استيحاء الوحشية لألوان الشرق، والانطباعية لإيقاعية الفن الإسلامي، وكذا الهندسية لمدرسة «الباوهاوس» عند فازاريللي، وغيرهم كثير، فهؤلاء الفنانون أثرت فيهم الفنون الإسلامية.
ومن الفنانين الغربيين أيضاً، الذين شدتهم جمالية الفن الإسلامي، نجد دي لاكروا ولوحته الشهيرة «نساء من الجزائر»، وبول كيلي وهنري ماتيس اللذين اهتما بالحضارة الإسلامية باعتبارها حضارة للعلامة ككل، وما كان يثير اهتمامهما: «استقلال اللون وقوة الزخرفة والخطاطات المعمارية والحيطان واستعمال المواد، والبعد الثنائي والتوازن بين التوازي واللاتوازي، أو بين المنظورات المتعددة التي تنسج الفضاء، وهي عناصر سيجرّبان فاعليتها بدورهما ويمتلكانها ليدمجاها في أعمالهما».
وقد شكل الخط العربي نقطة إبهار للفنانين التشكيليين الغربيين، لما يمتلكه من خصائص جمالية تلتقي مع التجريد الغربي، ولكن رغم ذلك لا يمكن أن يندرج ما أنجزه الفنان الغربي الذي اغترف من تراث الشرق ضمن التيار الذي اعتمد الخط العربي كمفردة تشكيلية، لأن منطلقات الفن الإسلامي المجرد كانت نابعة من تحريم التصوير والمحاكاة، أما الفنان الغربي فقد كانت أهدافه جمالية بحتة.
التقاء بين الشرق والغرب
برز تأثر فناني الغرب بسحر الفن الإسلامي وأجوائه الروحية وألوانه بوضوح في أعمالهم الفنية، كما عرّفوا بهذا الفن في بلدانهم، فأضحى هناك التقاء بين الشرق والغرب، وظهر أثر الفنون الإسلامية في الفن الغربي، وكتب دارسون وفلاسفة ونقاد وباحثون غربيون عن الفن الإسلامي، كالباحث اليوناني ألكسندر بابا دوبولو الذي منح الريادة للخط العربي مقارنة مع الخطوط الأخرى لطواعيته وجماليته، وأيضاً طاوليه غرابار الذي اهتم بالزخرفة الإسلامية، كما أن الناقدة الألمانية سيجريد كالا لما شاهدت معرضاً أقيم في بغداد سنة 1974 وصفت ما رأته بقولها: «لعلني لا أغالي كثيراً، فمن جميع ما شاهدته، لم أجد نتاجاً يفصح عن مصدره العربي وينطق به، إلا ذلك الإنتاج الذي يتصل باللغة، أي الذي يتخذ من فن الخط العربي وحروفه مادة له»، وقد حظي الخط العربي بالإعجاب نظراً لحمولته الجمالية والروحية، ومميزاته التي تجعل منه أداة مطواعة في يد الفنان.
حضارة العلامة
ويعد تأثر الفنانين الغربيين بالفن الإسلامي نوعاً من الاحتفاء بحضارة العلامة كما يسميها الباحث المغربي عبدالكبير الخطيبي، هذه الحضارة التي أنتجت فنوناً متعددة استمر ألقها منيراً ووهاجاً عبر التاريخ، فلم يخبُ إشعاعها أبداً، وقد امتد لبلدان أخرى، ولم يظل حبيس جغرافيته العربية والإسلامية.
وبذلك يكون الفن الإسلامي قد سبق تيار التجريد الغربي بعقود طويلة، واختلف عنه في جوهره، ويعبر عن ذلك عبدالكبير الخطيبي بقوله: «التجريدية التي يتسم بها الفن الإسلامي، هذه التجريدية نابعة من حضارة العلامة، حيث ظل الكتاب، بخطه وقوته الزخرفية، المعبد الكتابي الذي يمنح لكل معاينة أخرى معناها الفعلي، وهي بأشكالها الخالصة والهندسية، ليس لها نفس التاريخ ولا نفس التأليف الجمالي الذي يتميز به الفن التجريدي الغربي، فالنظر إلى العالم بعيون الكتاب والتوريق، يفترض فكراً متوحداً مع تلك الرغبة في الخلود».
وأكد ذلك بيكاسو أيضاً بقوله: «إن أقصى نقطة أردت الوصول إليها في فن التصوير، وجدت الخط الإسلامي قد سبقني إليها منذ أمد بعيد».
ويتأكد انبهار الغرب بالفن الإسلامي المحمل بجمالية خاصة، نص أراغون المأخوذ من «مجنون ألزا» والذي يحتفي فيه بالحرف العربي بقوله: «لا يبقى على الفنان إلا أن يتنحى بألوانه أمام الكتابة، تزحف من اليمين إلى اليسار على جباه النوافذ، أو على تواريق الأعمدة، حيث يخط القلم على البياض حرفاً فاحماً أسود شبيها بكوكبة فرسان في عباب الصحراء، وثاب الرشاقة كسيوف مسلولة، كل حرف حط قدم في الرمال كأنه انفلات فهد جسور أو كأنه اندياح جناح أسود فجأة فوق الغبار».
-
عن الاتحاد
المقال جميل لكن وددت لو أن النقولات وضعت مراجعها للإستدلال في المستقبل