خصائص الفن المعماري العربي الإسلامي في الأندلس




د.عبد الفتاح البستاني


امتد الوجود العربي الإسلامي في إسبانيا عامة، وفي الأندلس خاصة مدة 903 سنوات، ابتداء من سنة 711م حين دخلها طارق بن زياد فاتحاً في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، وحتى عام 1614 حين هاجرت آخر المجموعات العربية المسلمة (المورسكيون) من الأندلس إلى المغرب العربي.
وقد برز الإنتاج الثقافي والعلمي على وجه الخصوص خلال تلك القرون متمثلاً بالنهضة العلمية والفكرية، والإنجازات الهندسية والمعمارية التي بقيت منها شواهد عديدة حتى يومنا هذا، كما في مسجد قرطبة، والقصر والصومعة الذهبية في إشبيليه، وقصر الحمراء في غرناطة.
هذه الشواهد الحضارية والمعمارية التي استُخدمت فيها أساليب بارعة، وجرى الاهتمام فيها على التفاصيل الدقيقة، تنم عن الذوق الفني الرفيع، وتمثل بمجموعها ازدهاراً للفن العربي الإسلامي. في هذا التراث العربي الأندلسي تظهر بوضوح أصالة الأمويين وعراقتهم، ولهذا لا بد أن نهتم بالتراث الأندلسي لأنه يمثل شاهداً عربياً مميزاً يبعث على الفخر والاعتزاز.
ومن خصائص المعمار الأندلسي، اعتماد البساطة من الخارج مع كثرة الأعمال الزخرفية من الداخل، كما نرى ذلك واضحاً في قصر الحمراء، على خلاف ما هي الحال في المعمار القوطي إجمالاً، كما في «النوتردام» على سبيل المثال.
ومنها أيضاً الابتعاد عن الضخامة، وتجنب الارتفاع العمودي، والاعتماد على نسبة معقولة بين حجم البناء والوظيفة التي يقوم بها مع حجم الإنسان نفسه، على غير ما جاء في العهد العثماني حيث ظهرت ضخامة البناء والقباب والارتفاع العمودي للمساجد بشكل عام.
وكانت الأعمدة في المعمار الأموي الأندلسي بعيدة عن الضخامة، وجاءت دقيقة ورشيقة تعلوها تيجان في غاية التناسق والانسجام، مخالفة الأعمدة اليونانية والرومانية التي كانت ضخمة الحجم نسبياً وعالية الارتفاع.
وقد شاد الأمويون في الأندلس تسعة أشكال من الأقواس هي: العادية، والبيضاوية، ونعل الفرس، والمنتفخة، والمروسة، والمسننة، والمقرنصة، والمتداخلة، المتعانقة. ولم تَعرف أيّ حقبة تاريخية معمارية أو هندسية في العالم أجمع استعمال هذا العدد من الأقواس بشكل متقن كما هو في قصر الحمراء، فالأقواس على شكل نعل الفرس نجدها فوق باب العدل، والمقرنصة داخل قاعة العرش، والمسننة حول باحة الأسود، والمتداخلة فوق الحمامات… وهكذا.
واعتمد الفنانون العرب والمسلمون في الأندلس على خاصية الهروب من الفراغ، فكسوا الجدران الداخلية – بالكامل في أغلب الأحيان- بزخارف موزعة بإتقان من أسفلها إلى أعلاها.
ومن العناصر المهمة في الزخرفة الأموية الأندلسية ما عُرف بالتوريق، وهو فن زخرفي تشكيلي يعتمد على تراكم الأوراق والعناقيد وتكثيف الأزهار بأشكال جمالية متناسقة.
كما استُعملت الخطوط والكتابات المنقوشة من آيات قرآنية وأشعار وأقوال مختلفة يغلب عليها الخط الكوفي، وكان لها دور جمالي مهم في الفن العربي الإسلامي.
وأكثر ما أبدع فيه الأمويون في الأندلس هو استعمالهم الزخرفي للفخار المطلي بالخزف، الذي عُرف عندهم باسم «الزليج»، بأشكال هندسية متداخلة بالغة الدقة والإتقان، وأطلق عليها بحاثة الغرب في ما بعد «فن الأرابسك» الذي يعدّ أصل الرسم التكعيبي والتجريدي الحديث. ويستخدم الزليج في زخرفة واجهات الأبواب والنوافذ، وجوانب الغرف وقاعات القصور، وعند قوس المحراب وأفاريز المآذن.
ومما لاشك فيه أن رسم المضلعات والأشكال الهندسية القائمة على الخطوط المتشابكة ذات الزوايا المتعددة، فكرة يتفرد بها الفن العربي الإسلامي، ولا مثيل لها في أي فن آخر. وتأتي الرسوم الهندسية هذه بشكل نجوم متعددة الزوايا؛ فمنها ما هو بثماني زوايا، ومنها ما هو باثنتي عشرة، ومنها ما هو بست عشرة زاوية. وفي قصر الحمراء يكثر الأرابسك في بهو بني سراج وغرفة الأختين وعلى جدار قاعة السفراء.
ومن سمات هذا العمران، الإكثار من برك الماء، والماء الجاري في قنوات وفي نوافير جميلة، وُضع بعضها داخل صالات القصور للتزين وللتبريد، كما كان الكثير منها في الحدائق والباحات كما في جنة العريف بغرناطة.
وجاءت السقوف الخشبية عند الأمويين في الأندلس مطعمة بالعاج، ومزدانة بزخارف هندسية ملونة، تمثل أشكالاً نجمية مزينة بخيوط ذهبية وفضية ونحاسية تحيط بها أفاريز خشبية أو جصية مكسوة بتوريقات وكتابات متنوعة.
غير أن أهم ما يميز السقوف الأموية الأندلسية، هي تلك المقرنصات المتدلية من زوايا بعض السقوف والأقواس. وتكون المقرنصات من الجص الذي يُفرغ في قوالب خشبية صُنعت بشكل فني دقيق، ثم تُنزع القوالب وتُزيَّن بمزيد من النحت والزخرفة عليها. وهذه المقرنصات هي محاكاة لما نشاهده في بعض المغاور الطبيعية في الهوابط والصواعد الساحرة.
وعموماً، فقد جعل الفنانون الأمويون في الأندلس من البناء الجاف تحفة تلفت الأنظار في كل معلم من معالمها، وتسحر العيون في كل جزء من تفصيلاتها. 
ولا بد من الإشارة إلى أن الفن المعماري الأندلسي قد ابتدأ بمحاكاة الفن المعماري في بلاد الشام، غير أنه تطور في بعض أساليبه وأغراضه لتصبح له خصائصه التي تميزه عن سواه. ويعدّ الفن المعماري في بلاد المغرب العربي في العصر الراهن، كما نراه في تونس أو في مدينتي فاس ومراكش المغربيتين على سبيل المثال، امتداداً فنياً وتاريخياً للفن المعماري الأموي في الأندلس.
وقد كتب الشاعر نزار قباني عندما كان سفيراً لبلاده في إسبانيا قائلاً: «بمحبة دخل العرب إسبانيا، وبمحبة خرجوا منها تاركين دموعهم في نوافير الماء في حدائق جنات العريف بغرناطة، وحنينهم نقوشاً من الذهب على جدران قصر الحمراء وسقوفه وأقواسه الرائعة.. إن القرون التسعة التي قضاها العرب في إسبانيا لا يمكن أن تفسَّر إلا بمصطلح العشق وحده، فالعرب جاءوا إلى إسبانيا عاشقين لا فاتحين».

* الرأي الثقافي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *