* خلدون الشمعة
إذا صح ما يقوله الناقد الإنكليزي جون رسكن من أن “الشعر الغنائي” هو التعبير من قبل الشاعر عن مشاعره الشخصية، فإن بوب ديلان ربما يكون أعظم الشعراء المعاصرين الذين يكتبون الشعر الغنائي اليوم. وقد ظهر بوب ديلان الذي وصفه الناقد الأدبي لصحيفة “النيويورك تايمز” بأنه أهم شاعر في الجيل الشعري الشاب بأميركا على المسرح الشعري في عام 1961 لأول مرة. وكان صوته المتفرّد الذي احتفى باللغة المحكية والموسيقى المحلية والحس الغنائي والتعبير “المباشر” و”التصريحي” بمثابة تأكيد على أن حركة الحداثة في الشعر إنما تطرق سبيلاً آخر غير سبيل القصيدة الإليوتية المواربة وغير المباشرة.
ولد بوب ديلان في دولوث بولاية مينسوتا عام 1941 ودرس في جامعة مينوسوتا لمدة ستة أشهر، ثم نزح إلى نيويورك وأصبح خلال عام واحد أهم صوت شعري في حركة الاحتجاج على العدوان الأميركي في فيتنام، وقد أصبحت غنائياته، التي سُجّلت على أسطوانات بملايين النسخ، ذات أثر عظيم على الشعر الغنائي، كما أنها أثرت تأثيراً حاسماً على فن الأغنية المعاصرة في الستينات، وأعادت التأكيد على مسألة التواشج بين الشعر والموسيقى، باعتباره تواشجاً علنياً خارجياً وليس تواشجاً سرّياً داخلياً.
نذكر من أعماله:
Blowin In the Wind، A Hard Rains A-Gonna Fall، It Aint Me Babe،Highway 61 Revisited، Lay Lady Lay،New Morning.
لم يكتب ديلان الشعر الغنائي فحسب، وإنما كتب مطولته الشعرية التي تمزج الغنائي بالسردي والتي صدرت الطبعة الأولى منها عام 1966 وعنوانها “رتيلاء” (Tarantula) هذا النص شبيه بنص الشاعر الإيرلندي ويليام بتلر ييتس “رؤيا” (Vision).
“قصيدة إلى جواني” التي أقدم هذه الترجمة لها، ظهرت في عام 1970 في كراس مستقل. وقمت بترجمتها في أواسط السبعينات قبل مغادرتي دمشق إلى لندن، ومن حسن الحظ أنني عثرت عليها بين أوراقي مؤخراً، وقد تأكد لي (لاسيما بعد فوز ديلان بنوبل) أن اختياري المبكر ترجمة هذه القصيدة كان عملا صائباً.
ومما يؤسف له أن ديلان مازال مشهوراً كمغنٍ ومجهولا كشاعر إلى درجة أن كثيرين من المثقفين، عرباً وغيرهم، استغربوا اختياره لنيل جائزة نوبل.
وقد رَشَحَ آنذاك أنه يهودي مؤيد لإسرائيل. وهذا يذكرني بقصيدة مؤيدة لإسرائيل كتبها بورخيس بعد كارثة 1967. وهذه مسألة تحتاج إلى وقفة منفصلة.
من الطبيعي أن الموسيقى، التي تعتبر العنصر الرئيسي في الشعر الغنائي، هي أول وأهم ما يفقده الشعر في الترجمة. ومع ذلك أنتبه الآن بعد عودتي إلى مطالعة الترجمة أنني حاولتُ خلقَ إيقاع مقابل بالعربية للإيقاع الأصلي للقصيدة.
وهي تبدو لي مطابقة لمفهوم الترجمة الذي أشار إليه إدوارد فيتزجرالد في إحدى رسائله (27-4-1859) معلقاً على ترجمة رباعيات الخيام بقوله: “أتصور أن قلة قليلة من المترجمين عانت في الترجمة ما عانيتُ لكي لا تكون ترجمة الرباعيات حرفية. ولكن مهما بلغت التكاليف ينبغي أن يظل الشيء حياً.. العصفور الدوري الحي خير من النسر المحشو بالقش”.
ما أود أن أقوله هنا أن ترجمتي لبوب ديلان ترجمة تحويلية، أي أنها ليست حرفية، بل تستثمر طاقات اللغة العربية لكي تصبح قريبة من الأصل الإنكليزي.
مع تجربة ديلان يلوح لي أن الشعر الغنائي قد استعاد مكانته في حركة الشعر الحديث. وكانت بدايات القرن التاسع عشر قد شهدت حركة إحياء واسعة للنبض الغنائي في الشعر مع ظهور الرومانتيكية في أوروبا. فقد كتب وردزورث و كولردج وبايرون وشيلي وكيتس القصيدة الغنائية في إنكلترا، وكتبها هايني في ألمانيا ولامارتين ودوفيني وموسيه في فرنسا، ولومباردي في إيطاليا. وفي روسيا كتب كثيرون قصائد غنائية يمكن أن تسمى رومانتيكية.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، تعرضت القصيدة الغنائية لتأثيرات جديدة من فرنسا وإنكلترا والولايات المتحدة. فالشعراء من أمثال تنيسون وبراوننغ وبو وفرلين ومالارميه أثروا سواء برومانتيكيتهم المجردة أو بـ”برناسيتهم” أو رمزيتهم على القصيدة الغنائية بشكل عام.
وأما المشهد الشعري في القرن الفائت فقد ظهر فيه كل من لافارغ وفاليري في فرنسا، وأودن في إنكلترا، وستيفن جورج وريلكه في ألمانيا وماتشادو في إسبانيا.
القصيدة
أجثو أيامَ اليفاعةِ أجثو
في أيكةٍ تسبرها سكةُ حديد
أنتشُ من الأرضِ،
العشب،
ممزقاً بوحشيةٍ،
الجذورَ..
ممضياً الساعاتِ محصياً الشواطئ
تتطحلبُ في كفيَّ بقع اليخضور
أنتظرُ صفيرَ العربات الحديدية الفلز،
تتدحرجُ على المنحدر دحرجة.
أعضُّ الشفتين شاهراً قبضةً مضمومةً،
وأجلسُ القرفصاء فيما المحرّكُ
يهرُّ هريراً،
أُحصي العربات الماضية
يتلاشى في الفضاء الصدى
وأدركُ أن القطار قد مضى.
إذّاك أتحولُ بباصرتي
إلى يديَّ المخضوضرتين باليخضور
المبقعتين بدم أخضرَ يقول
إني أخذتُ وما مَنحت،
وألمحُ رُقعةَ العُشبِ المنتوشةِ،
حيثُ الأديمُ مقلوب رأساً على عقب
والجذور مجتثّةٌ كالجثث لصقَ الشجرة،
فأقولُ “لا يمكن أن يقلقني البتة هذا الامر”
أو “لا ريب أن العشبَ لا يكترثُ قلامة ظفر”
“سينمو العشبُ ثانية على أيّ حال”
“ما أهمية رقعة عشب.. ما أهمية رقعة عشب؟”.
أمسح كفي مزيلاً بقعاً خضراء
وأطوح بصخرةٍ مسددة على عربة ذات صدى منداح
معلقاً متأرجحاً ثقيلاً على سكة الحديد
كغمامة رعد
مضمرة في فجر رذاذ
الغد.
أسائل نفسي أن أكون صديقاً لنفسي،
منسلاً كثعلب مذعور
مغنياً أغنيتي كطفل شيطاني،
يركلُ ركلةً ويلعنُ لعنةً
من داخل رحم أمي.
***
في سنواتٍ لاحقة ظللتُ فتياً
لكن رأسي ازدادت ثقلاً
وتدهلزتْ أمامي دربٌ
وتوترتْ في حدود يفاعتي دربٌ
حتى تقهقرتُ ناكصاً على بوابات العالمِ وألعابه المشاكسة
ولما تعد لدي كلمة تُقالُ
لأي باصرتين تحطَّان على باصرتيَّ
فأوصدتُ نفسي وأَحكمتُ الرتاج
مضيّعاً المفتاح
وتاركاً الرموزَ تقولبُ قالبَها
وتصنع لي خصمي الذي أمارسُ معه الخصام.
أشهرُ لساني وأتمرد
أبصقُ الكلماتِ بِصقاً
أتعلمُ كيف أصطفي الأوثانَ التي أحبُ.
فتتحدَّث بصوتي وتحكي حكايتي
وتُسهم في خوضِ شِجاري الشَّبحي
كان هانكس وليامس وثني الأول
غنى خطوط سكّة القطار
وأعمدة الحديد والعجلات المزمجرة
لم يدع شكاً في أنها الحقيقة.
كان رمزي الأول كلمة “جميلة”
لأن سكة القطار لم تكن جميلة
سوداء مُدَخَّنَة مجاريريّة اللون
محشوة بالقطران والهباب والغبار.
أحكمٌ على الجمال بهذه المقاييس
وأقبلُ بالجمال إذا كان قبيحاً وحسب،
وإذا كنتُ أستطيع ملامسته بيدي
إذّاك فقط أدركُ وأشعرُ وأَتَفَهّمُ
وأقولُ “آه.. إن هذا لحقيقي”.
أغذُّ السير منشداً أغنيتي
كمهرج مغموم
في سيركِ عالميَ الداخلي.
***
وفي أحايينَ أخرى انهارتْ أوثانيَ
أدركتُ أن الأوثان رجالٌ أرضيينَ
لديهم أسبابهم التي يعللون بها أعمالهم.
وما دامت الأعمال لا تخصني فإنها لا تخصني على الإطلاق،
ليس بوسعي أن أعتمد على الأوثان الأرضية بعد الآن،
ما تعلمته من كل إله منسيٍّ
أن ساحةَ الحربِ تخصّني وحدي
وأنني أنا الذي يرمي بحجره الخاص
الرموز التي نمتْ وتقولبتْ.
تجاوزت أحجامها وأصبحت مرئية من قبلي
مازال رمز “الجمال” يهزني هزّاً
ثرتُ مرتين، وبدوتُ أشدَّ خيلاء عشر مرات.
ذرعت دربي وغنّيتُ أغنيتي
كمجرمٍ لم يقارف الجريمةَ
صارخاً من خلف قضبانِ سجنٍ ليس بسجنه.
وفي وقتٍ لاحقٍ صحتُ وأوغلتُ في الممر
صحتُ في نيويورك أن “الجمال الوحيد كامنٌ في الشروخ وحوافي الأرصفة”
الجمالُ المتدثرُ بالأسمالِ والغبارِ والهُباب.
فتّشتُ عنه في كلِّ فجّ
قفزتُ إليه متشبثاً بثديه
همستُ في أُذنه
قبّلت ثغرَهُ
خاصرتُ خصرَهُ
أبحرتُ في جسدهِ
على بطنه انذهلتُ
كالعاشق الضريرِ من أعماقيَ صحتُ:
“الصوت الذي يردد اسمي
هو صوت الهباب الأجش
الصوتُ الوحيد الذي أحسستُ
الصوت الوحيد الذي مسستُ.”
وتكأكأتُ على بعضي باختياري
أطعمُ أفواهي الخاوية
كاتماً كلًّ صوتٍ،
ذارعاً دربي مغنياً أُغنيتي
ملكاً متوحداً
واقفاً في حديقةِ الملكة
مستبطناً قبراً غيرَ عميق.
سافرَ الزمانُ ومضتِ الوجوهُ
تعلمتُ أفكاراً وأحصيتُ رؤوساً
مسّتْ دربي مسّاً
ثمّ انقضتْ.
بعضها تشبّثَ تشبُّثَ صديقٍ
قد يكون الأول ولكنه ليس الأفضل.
الآن أتحدث عن واحدة،
برهنتْ لي أن الأولاد مازالوا يكبرون
فتاة التقيتها في ساحةٍ عامة
تقيثرُ كما أقيثرُ ألحاناً متوحدة
تصدح بصوت رائع أسمعه لأوّل مرة.
“قطعة جمال” يقول القائلون
“صوت مدهش” يكتبُ الكاتبون
“أكره هذا الصوت”
أقول
“الجَمالُ الوحيدُ هو الجَمالُ القبيحُ
الجَمالُ الدوّامي، المحطِّمِ الذبيحِ
هو الجمال الوحيد
الذي افهمُ وأُدْرِكُ”.
بين لسانينا ثمة بَوْنٌ
مجرة كون
نرسل الضحكات تجلجل
نصوّبُ بواصرنا في اتجاه واحد
وإذ أدركُ أنها توشكُ أن تصدحَ
ينتصب جدارٌ أصمُّ
بسرعة قذيفة مولولة
مثل زجاج لا يخترقه الرصاص
خارج أذني.
أصيح صياحاً عالياً في الدواخل من رأسي
أنْصُبُ مَصَدَّاً مزدوجاً يتصدى لكل صوت:
“لا صوتَ غير الصّوت القبيح
لا صوتَ غير الصّوت الذبيح.
لست بمن يكترث بصوت آخر، قلامة ظفر
إن تكن ذراعي لا تستطيع أن تلامسه
فلا تحسبنَّ أنني مستطيعٌ أن أدركه
ومع ذلك فسأنتظر أن تغني أغنيتك
لأن شيئاً فيك لا أعرفه..”.
***
أذرع دربي وأغنيتي أغني
كشاعر رعديد
يسبر شريط شاطئ
يركلُ بظله شراشب طافية
يستحلبُ الطحلبَ البحريَّ
يهرسُ اليخضورَ الأرضيَّ..
يسمع صوتها يتسربُ من سيارة هادرة
يهرفُ بقصّة طفولة انقضتْ
في أرضٍ تُحصدُ فيها كلابُ الطريقِ حصداً.
أشيحُ بوجي
محدقاً في الطريقِ تصفع الريحُ صفحةَ وجهي،
تتقهقر ناكصةً ذاكرتي
فيما ينبسطُ الطريقُ
أذكرُ رقعةَ عُشبٍ تحتضرُ احتضاراً
وتستفيقُ..
……..
……..
رأسي مشرعةٌ في الريح
الريحُ تقصفُ الكلمات قصفاً
جاذبة أنفاسي فيما تزأرُ شاحنةٌ
ليس ثمة أغنية أغنيها..
……..
……..
في منزل بـ”وودستوك”
الأصدقاءُ منتشرون على البساط
ساقاي متصالبتان
أشعلُ لفافة تبغ، أبتسمُ، أحسو النبيذَ
تُدَوِّمُ الغرفةُ وتُدَوِّمُ
تمخرُ العباب
“دع صوتها يغني”
يتصايحون
“نحنُ أشد تعباً من أن نستطيع إيقاف المغني”
يقهقهون..
وعندما أتكئ على مرفقيَّ العاريين
الحاملين لجسدي،
وجهي يتجمّدُ حتى العظام
فمي جليدٌ
شفاهي جلمودٌ.
تضحكُ ضحكاً عالياً
تهزهزُ جداراً يتزلزل
أقهقه كمجنون يسدد قهقهته
صوب دريئة السقف
تطفو أعصابي،
حرةً
سائبةً
أهدهدُ
الحلمَ
محتضراً
في
الليل.
(ما أن شرعت أتحسسُ بحاسة اللمسِ
حتى شعرتُ أخيراً بما لم يكن هناك
أواه كم كان
حمقاً وذبولاً وحزناً مني
أن أحسب أن الجمال ليس بكامن
إلا في القبح حصراً..
بينما الحقيقة أن صولجان الساحرة
المائج أمام باصرتي العابرة،
يجعلني أحس أن أنفاس الفتاة
حقيقية كالجنسِ حقيقية كالأمومة..
عمقها عمق موت عميقٍ
قوتها ضَعْفُ أضعف ريحٍ هابَّةٍ
طولها طول القَدَر
تشبه طبول الغجر.
النواقيس الصينية
تختزن تسبيحةَ غموضٍ لا يستبين
لا يُفْهَمُ، ولايُدْرَكُ ولا يُحَلُّ
باليد
أو
بالقدمِ
أو برؤوس الأصابعِ.
غموضٌ لا يستبينُ وليس قميناً بأن يُطلق عليه اسم شائنٌ
من قبل ثُلّةِ باحثينَ عن أجوبةٍ جاهزةٍ سلفاً
في كل كتابٍ
إلا في دواخلهم
امضِ امضِ في القهقهة
كثري واصفقي بركبتيك
تلك هي طرفتكِ، أنا موقن،
وإنني لأشير حتى إلى نفسي
ولكن وآأسفاه، فالأمر ليستغرق زمنا طويلاً).
……..
……..
مرة أخرى حان حين الشتاء
إذن فسأنتظر أوبة الربيع
كيف أعود القهقرى إلى حيث جثوتُ
عندما سمعت القطار الفلزيّ يغني
ونتشتُ عشب الأرض من الجذور
لكنني لن أستنفد قوّتي في هذه المرّة
أهدرُ الوقتَ مقتلعاً العشبَ
منتظراً صوت القطار.
كلا، سيكون يوماً آخر في المرَّة القادمة
ربما يكون القطارُ هناك حين أؤوب
ممضياً الساعات محصياً الشواطىء
أنتظر صفير العربات الحديدية الفلز،
تتدحرج على المنحدر دحرجةً
أعضُّ على الشفتين شاهراً قبضة مضمومةً
وأجلسُ القرفصاءَ فيما المحرك يهرُّ هريراً..
أجثو محصياً الشواطئ والأعشابَ
وبدلاً من اقتلاعِ الجذورِ
أُربتُ عليها تَربيتَ صديقٍ
وإذ يقتربُ القطارُ
أنكس رأسي للعجلات النحاسية الكبيرة
متذكراً طفلاً شيطانياً طوّحَ بصخرةٍ.
أذرع دربي بين مدار اخضرارِ الأرض
وبين مدار اسوداد القطار
مغنياً أغنيتي غناءَ ثوريٍّ..
هذا أنا
أعرف كيف لا أدفع دفعاً
وأعرفُ
يا إلهي
كيف لا أحاول!
-
عن مجلة الجديد