الصورة والميتافيزيقا

د. عزيز الحدادي

على طول الطريق الممتد بين السينما والميتافيزيقا  سنواجه عاصفة من الأسئلة ,ومن المستحيل مقاومتها بدون الاحتماء بذلك التعارض القائم  بين الصورة والحوار ,لأنه عندما تحتل الميتافيزيقا مكانها في بناء الفيلم بواسطة الصورة ,تتحرك الفلسفة لتؤسس وجود هذا الفيلم من خلال الحوار الذي يعتمد على السؤال ,أو على الصمت المعبر بالحركة حين تجعل الماهية تسبق الوجود ,ولذلك نتساءل  ؛كيف يمكن ابداع المعنى الذي ينتقل عبر الشاشة إلى المتفرج بدون صورة ؟ بل لماذا تحولت الصورة إلى وسيط في السينما بعدما كانت هي الوجه الآخر للحقيقة في الميتافيزيقا ؟, وما هذا الذي نسميه شعرية الصورة ؟ وكيف تستطيع الصورة أن تتحول إلى حقيقة في السينما ,؟ هل لأنها تضع الحقيقة في العمل الفني , وليست مجرد محاكاة للواقع ؟,

  منذ أفلاطون  الذي أبدع قاعة العرض السينمائي ليبرهن على ان الصورة حركة وإنارة وكلاهما في خدمة الحوار ,بمعنى أن الانارة تكون دائما في خدمة الحركة , كما أن الحركة تقوم بنقل الإنارة . والصورة تنافس الحقيقة في الوجود ,ولعل هذا ما جعل دلوز  يتساءل مندهشا ؛هل الحركة  هي التي تتحكم في الصورة أم الإنارة ؟,وبلغة واضحة إن ماهية الصورة هي الزمان الذي يمتزج مع الحركة والإنارة .ولذلك فإن معنى الصورة هو نفسه حقيقة الحركة ,لأنهما نفس الشيء في الميتافيزيقا ,كما حملها الحوار الأفلاطوني في فرجة الكهف.

ومهما يكن هذا الغموض ملتبسا .يرنق كالغمامة السوداء التي تحجب الرؤية عن الرؤيا   ,فإن تحديد زمن الصورة كماهية لم يتم التفكير فيها عن طريق مفهوم الميتافيزيقا عن الزمان ,مما جعل هايدغر يتهمها بنسيان الوجود واهمال الزمان باعتباره لبا لحقيقة الوجود ,ذلك أن فهم الوجود لابد له من أن يبحث في الزمان بوصفه أفقا لأي فهم للوجود.

لنسمع الى سقراط وهو يصف فرجة كهف افلاطون حيث يقول “تخيل رجالا قبعوا في مسكن تحت الأرض على شكل كهف ,تطل فتحته على النور ,ويليها ممر يوصل إلى الكهف ,هناك ظل هؤلاء الناس …لا يستطيعون التحرك من أماكنهم  ولا رؤية أي شيء سوى ما يقع أمام أنظارهم ومن ورائهم تضيء نار , وبين النار والسجناء توجد الحواجز التي نجدها في مسرح العرائس والمتحركة والتي تخفي الممثلين وهم يعرضون ألعابهم ” .فهؤلاء الذين يتمتعون بفرجة المحاكاة يجهلون الحقيقة ,لأن كل ما يشاهدونه صور ,لأن القادم من مدخل الكهف يحمل الصور كما تحمل الشمس الضوء إلى الأرض.

ولذلك فإن هؤلاء السجناء لا يعرفون  من الحقيقة في كل شيء إلا ظلال الأشياء “.هكذا يقترح سقراط اقتراحا عنيفا , من أجل تحرير أحد السجناء من هذه الظلال ,حيث سيقبض عليه من شعره ويخرجه إلى خارج الكهف “فلنفرض أننا أطلقنا سراح واحد من هؤلاء السجناء وأرغمناه على ان ينهض فجأة ,ويدير رأسه رافعا عيناه نحو النور ..وستكون رؤيته الآن أدق لأنه أقرب إلى الحقيقة “,بل أكثر من ذلك “وإذا ما اقتدناه رغما عنه فلا نتركه حتى يواجه ضوء الشمس “.هكذا سينتهي زمن الفرجة ,ويبدأ زمن الحقيقة ,وبعبارة معاصرة فإن معرفة الحقيقة تنطلق من عتمة الكهف ,ثم الشغف إلى رؤية النور ,لأنه في الكهف تتحدد ماهية الحقيقة ,باعتبارها معرفة ,وفي الكهف أيضا يتحدد جوهر السينما ,لأنها لم تكن لترى النور لولا فرجة الكهف الافلاطوني ,قد يكون هذا السجين الذي ارغمه سقراط على مغادرة الكهف هو الفنان أو الفيلسوف ,لكن ما يهم هو امتلاكه لارادة المعرفة التي ستمكنه من التمييز بين الحقيقة والأوهام .

  الفيلسوف الفنان هو الذي يميز بين الحقيقة والأوهام ويعرف من أين يأتي النور الذي ينير عتمة الكهف ,وأن ما يراه السجناء ليس سوى صورا ,وبفضل هذه الصور تتشكل عبقرية المخرج السينمائي ميتافيزيقيا وفنيا ,حين يستطيع أن يجعل من هذه الصور عملا فنيا ,ومن العمل الفني أداة لوضح الحقيقة نفسها في الفن ,والفن هو ما يقاوم الموت بلغة دولوز ,وهو أيضا ما يشكل مخرجا لأزمة الروح ,لأن الفن يتجاوز نسيان الوجود بواسطة الزمان كحركة وصورة.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *