* محمود الريماوي
لم أتبادل مع الرجل الذي يرتدي الشورت الأبيض وقميصًا صيفيًّا تتعدد ألوانه، سوى بضع عبارات أو حتى بضع كلمات، غير أن هذا التبادل اللغوي المحدود، لم يمنع انجذابي للجلوس إلى طاولته الصغيرة، أمام حانوته الصغير، على ناصية الشارع. لقد كنا جيرانًا؛ إذ أقيم في النزل المجاور، نزل إيفا. وقد لمحني حين انتقلت من الفندق الذي يقع على يسار حانوته، إلى النزل الكائن على الجهة اليمنى، والمسافة بينهما تقل عن مئة متر.. كنت خرجت من ذلك الفندق بعد أن مكثت فيه يومين لسبب غريب، فإدارته تمنع النزلاء وكنت أحدهم، من استقبال ضيوفهم في المقهى وتمضية بعض الوقت فيه، فالفندق ومرافقه (مرفق واحد هو المقهى/ المطعم، يزخر بالنباتات والأزهار) للنزلاء فقط، مع الاحتراس الشديد من تسلل أحد من الخارج، علمًا أنه لا شيء بالمجان! وبالتماس أقرب مكان، فقد قصدت النُّزُل القريب مع صديقي الرائع دكتور طرزان (لم أسمع في العالَمين بأحد، غير صديقي، يحمل هذا الاسم!). واستقبلنا بحفاوة هناك، وهي المرة الأولى التي أقيم فيها في نُزل.
إذن فقد لمحني صاحب الحانوت، الأربعيني البدين بسحنته المسمرّة. فلما هبطت لأتناول القهوة عنده في ساعة ظهيرة، فقد قامت زوجته بإعداد القهوة بدون سكر وبدون حليب، وقد لاحظت أنها تنهض بعبء العمل جُلّه إن لم يكن كُلّه، ولما كان هناك كرسي فارغ في الخارج، استأذنت في الجلوس؛ إذ يروق لي تناول القهوة ببطء، ولا أستسيغ تناولها على جناح السرعة.. رحّب بي الرجل. وسألني عن بلدي (لم يعرفه!) وعن اسمي، وعن الأوتيل الذي تخليت عنه، والنزل الذي اتفق أني اخترته. انصرفت إلى هوايتي في متابعة السابلة، محاذرًا من أن يحفّ بي كلب مدلل ترافقه سيدة أو شابة، أو كلب ضالّ يخطر على الرصيف وينفث لهاثه على كل ما يصادفه. وقد شعرت أني فزت برضى الرجل، بعدما شعرت من جهتي بقبول إنساني له. وكنت أؤخر شراء عبوة الماء نصف الساعة مثلًا، كـتكتيك، رغم حاجتي لتناول الماء بعد أول رشفة من قهوة الإسبريسو المُرّة، وذلك كي أسوّغ مكوثي الذي يستغرق نحو ساعة، وقد تبين لي لاحقًا أني لست بحاجة إلى مثل هذا التسويغ.
وكان من حسن الطالع أن الحانوت يظل فاتحًا بابه حتى منتصف الليل، في حين أكثرية المقاهي تغلق أبوابها قبل العاشرة ليلًا. وأنا ليليٌّ. إذ أكون في كامل لياقتي العقلية والبدنية ليلًا، وتستيقظ ملائكتي وشياطيني ما إن يسدل الليل ستاره كله.
ربما كانت سحناتنا المتقاربة (إذ شُويت صفحة وجهي على شمس أريحا في سني الطفولة والفتوة) السبب الأول للارتياح المتبادل الذي نشأ بيني أنا الزائر العربي القادم من الأردن، وبين جاري الحانوتي البلغاري الغجري. من جهتي فإني يجذبني الناس المهمّشين والأقليات. وقد راق لي مصادفتي لغجري يملك حانوتًا ويديره في صوفيا، بدل الأعمال الشاقة في تنظيف الشوارع، التي يمتهنها أبناء عرقهم هناك. وقد علمت أن الحانوت افتُتح قبل بضعة أشهر. الرجل يتعهّد إحضار المواد ولا تتجاوز العصائر وعبوات الماء والمناديل الورقية والعلكة ورقائق البطاطا وأصناف من البسكويت والشوكولاته، وولاعات، إضافة إلى القهوة والكوبوتشينو ومشروبات الأعشاب (يعدُّون هناك الشاي أحد المشروبات العشبية الهامشية، ويتناولونه.. حين يتناولونه وقلّما يفعلون، لغرض صحي كتهدئة المعدة، خلافًا لنا نحن العرب؛ إذ يُحتسب الشاي بمنزلة مشروب قومي، يبدأ المرء بتناوله بأصغر ملعقة وهو رضيع!). والزوجة تصنع القهوة وبقية المشروبات وتناول الزبائن مشترياتهم.
لم تمض سوى أيام حتى نسيت اسم الرجل (أرجو أن يكون قد نسي بدورة اسمي، حتى نتعادل وأتخفف من الشعور بالذنب). لكن عينيه اللامعتين، وشعره الأسود المُسرّح جيدًا، ومشروع الابتسامة الدائم على شفتيه، وقامته المكتنزة، لا تفارق مخيلتي، وبخاصة وهو يودّعني بحرارة ويشيعني بعينيه المحمرتين، فيما زوجته الجميلة بشعرها المُشقر (وفق الموضة) تلوّح بيدها وتدير طرفها أمام الحانوت باتجاهي، فيما مالكة النزل تترك عملها وتعينني بحمية على حمل الحقائب والأكياس، وتوصلني إلى سيارة صديقي المتوقفة في منعطف غير بعيد وتوصيني بإلحاح بترك التدخين.
ليست فقط السحنتان المتقاربتان. فقد شعرتُ أنا الغريب (وجوديًّا، والمقتلع من وطني الأصلي.. وطن التين والزيتون) أنه يكافح شعوره الموروث من سلالته بالحاجة الغريزية إلى الحرية، ويرتضي ملازمة مكان ضيق واحد طيلة اليوم، لقاء تأمين رزقه وللبرهنة على استعداده للاندماج الاجتماعي، وهو ما يؤخذ عكسه هنا على بقية أبناء عرقه الذين يحملون الجنسية البلغارية وتعدادهم يناهز المليون نسمة. إذ إن التوطّن يقترن لدى الغجري باكتساب الشعور بالغربة وقيودها، لا بالاستقرار ومزاياه. الاغتراب هو ما جمع بين رُوحينا. وها أنا أستذكر في هذه اللحظات كيف كنت أقصد في طفولتي لدى العودة من مدرسة البحتري الابتدائية خيمة للغجر في أريحا، حيث كنت أتمتع بمراقبتهم، وهو ما استلهمته في قصة كتبتها بعنوان: «لن يصدّقه أحد». وها قد اتفق لي أن أقصدهم مجددًا، لا لغاية.. لا لشيء سوى معانقة الشعور بالحرية المبهمة، الطلقة، التي تتفلت من قيود المكان.. كل مكان ومواضعاته.
العرب يرون بلغاريا من زوايا ثلاث
الناس في العالم العربي على العموم يخبرون بلغاريا من زاويا ثلاث: الأولى الزاوية السياحية المحضة حيث يطغى اسم فارنا الساحلية على اسم العاصمة صوفيا وبقية المدن، وحيث ظلت هذه المدينة على مدى عقود تتصدر برامج السياحة العربية إلى شرق أوربا… الزاوية الثانية كون هذا البلد ظل لأمد طويل جزءًا من المنظومة الاشتراكية التي كان يقودها الاتحاد السوفييتي السابق، بغير خصوصية ومن دون قوام (كيان) مستقل له، في أنظار الآخرين. الزاوية الثالثة: من خلال الطلبة العرب الموفدين الذين تمتعوا بمنح دراسية من الحزب الشيوعي البلغاري الحاكم، وهؤلاء في غالبيتهم كانوا يلخصون بلغاريا بالثلوج التي تميز شتاءها القاسي الطويل، وبزهد تكاليف العيش فيها، وبخاصة إذا أمكن تسريب بضع عشرات من الدولارات.. ورغم أن بلغاريا قريبة جغرافيًّا من المشرق العربي، فإن هذه الصورة النمطية جعلتها بعيدة من أذهان الناس، علاوة على أنها صورة مجتزأة وباهتة.
حين زرتها متأخرًا ولأول مرة خلال مايو 2015م، لم تكن الصورة النمطية تفارق ذهني من دون أن أكون ممتثلًا لها، وقد شعرتُ كم أن التنميط يظلم الواقع. فلم يرد على لسان أو على قلم أحد، أن الأشجار في صوفيا تكاد تكون بعدد أبنائها، وأن حظ المقيم الواحد فيها، هو على الأقل شجرة واحدة باسقة وفارعة بطول بناية. فإذا اجتمع عشرة أشخاص تمتعوا معًا بحديقة خضراء، وإذا ما التقى مئة من الناس فسوف يكون نصيبهم غابة، أو متنزهًا طبيعيًّا من عطايا الطبيعة ومن جهد الإنسان البلغاري في الزراعة. «الأشجار لم تنبت عشوائيًّا، بل زرعها زارعون، بخلاف النباتات فهذه شيطانية» كرّر ذلك على مسامعي صديقي المهندس نشأت المقيم في صوفيا منذ 22 عامًا. وذلك توضيحًا لما قد يكون توارد إلى ذهني عن الأشجار البرية غير المثمرة، التي تنبت بفعل حركة تطاير البذور عبر الريح النشطة في فصل الشتاء. ما إن تعبر الباب خارجًا من سكناك أو مكان إقامتك حتى يملأ الأخضر النباتي ناظريك، إنه حليفك لمقاومة جفاف الروح والذهن المكدود، ودليلك القريب للعودة إلى الطبيعة، وللرجوع إلى نفسك بوصفك جزءًا من الطبيعة وابنًا لها.
هذا عن الأشجار التي أحبّها محبتي للنساء وللأطفال ولكبار السن التي قد أعود إليها. لم يقل أحد لنا نحن من لم نطأ أرض بلغاريا وعاصمتها، إن صوفيا مدينة هادئة رخية لا تخدش أذن السامع بصوت عالٍ أو ناشز، وأن حُسن التنظيم والتخطيط المديني وبالذات المواصلات العامة المنوّعة والمنظمة، جعل شوارعها خاصة الفرعية منها مفعمة بالسكينة، رغم أن المحال التجارية مفتوحة، لدرجة يشعر العابر فيها أنه يمتلك الشارع وحده. وهذا الأمر ينطبق بالطبع على يوم الأحد كما على بقية الأيام. لعل هذه ميزة مدن أوربية كثيرة. لكن ذلك لا يسلب صوفيا هذا الامتياز في عين الزائر. ففيها قسط من وداعة القرى، والوفير من براءة المدن الناجية من الصخب والتلوث.
لم يتحدث لنا أحد عن المقاهي: البيت الثاني للبلغاريين. مقاهي الأرصفة خاصة تلك المفتوحة التي تظللها المظلات، وبقية أنماط المقاهي. في إحدى المرات خلال زيارة ليلية بصحبة أصدقاء اعتذرت النادلة بأنها ستنصرف، وطلبت منا نحن الرواد وكنا خمسة أن نمضي بقية سهرتنا فلا شيء يضطرنا للمغادرة. تمامًا كما يحدث مع الأصدقاء في بيت صديق عازب حين يُفاتح أصدقاءه بحاجته إلى النوم، مع ترك المجال للأصدقاء كي يواصلوا السهر فالبيت بيتهم. يحمل البلغاريون معهم إلى المقهى طعامهم وزجاجة الماء مما تبيعه المقاهي لروادها، من دون أن يثير ذلك حفيظة القائمين على المقهى. فلا بد للقادم مهما حمل معه من مأكل ومشرب أن يطلب شيئًا من النادل. الشره التجاري (الرأسمالي) لا تلمسه في هذه الأماكن. لا يتوقف الأمر عند هذا.. فهناك من يجلسون أمام المقهى وبمحاذاته، على مقاعد خشبية أو حديدية أو حجرية وبعضها دائري من رخام وردي وتتوسطها الأزهار، ويتحصل الجالسون على الحلوى أو الشراب من محلات أخرى أو من ماكينات مثبتة على الحائط. أصحاب المقاهي لا يبدون ضيقًا من ملاصقة هؤلاء لمقاهيهم. في بلاد أخرى.. بل في معظم الدول يطردونهم بحجة التشويش على المقهى، أو بتهمة الاستفادة المجانية من أجوائه!
فوبيا الإسلامي الشرق أوسطي
ذات ضحى كنت أجلس على شرفة شقة مستأجرة في مدينة نسيبار على الساحل الجنوبي للبحر الأسود. في الجوار كان رجل مسن وزوجته وابنه الشاب يتعاقبون على الخروج إلى حديقتهم والعودة إلى البيت. وقد شرعوا منذ الخرجة الثانية يحدجوني بنظرات شزراء. وواصلت شرب القهوة من مكاني القريب الذي يبعد منهم أقل من عشرة أمتار، حيث تقع الشقة في الطابق الأول. وقد واصلوا إمطاري بنظراتهم اللعينة، فيما أقابلهم بوجوم هادئ، حتى ضجروا. لم ينطقوا بحرف. بيد أن نظراتهم كانت ناطقة، ولدرجة شعرت معها أنهم على وشك افتعال مشكلة معي. لم يخطر ببالي أن يتوجهوا بالسؤال إلى السيدة صاحبة الشقة عن «طبيعة المستأجر الغريب»؛ كي يطفئوا شكوكهم. اكتفوا بسلبية مقيتة. وقد هزمتهم بهدوئي وثباتي.
في اليوم التالي تعرفت على رجل وزوجته في مقهى أليف يقع وسط المدينة الصغيرة. عرفت أنهما بلغاريان يقيمان في ألمانيا وجاءا لتمضية إجازة في موطنهما. حدثتهما عن السعادة التي تمتعت بها في اليوم السابق تحت نظرات الجيران. فسارعوا للقول: لا بد أنهم ظنّوا أنك تُركيًّا! وقد دهشت. بلغاريا كانت جزءًا من الدولة العثمانية، واستقلالها يقترن بالتحرر من الأتراك. حسنًا، لقد مضى على ذلك نحو قرن. والبلدانِ الآن ليسا في حالة حرب، علمًا أن هناك نحو مليون بلغاري من أصل تركي، وغالبيتهم العظمى مسلمون. إنها فوبيا الإسلام الشرق أوسطي، التي تتضافر مع صورة المسلم التركي، وتتسلل إلى «وعي» شريحة في هذا المجتمع.
محمود الريماوي في ندوة حول كتاب له
كنيسة ومسجد ومعبد
أتيح لي النزول في فندق في مركز المدينة على مقربة من كنيسة ومسجد ومعبد يهودي. ومررت بمقر الحزب الشيوعي الذي كان حاكمًا والذي يخيِّم عليه الصمت حاليًّا.. نزلت وليس بعيدًا من دوائر حكومية رئيسية بما فيها مقر رئاسة. السلطة السياسية و«السلطة» الدينية متجاورتان تقريبًا وبالطبع متعايشتان. غير أن المظاهر السلطوية: الحرس والحواجز والتجهيزات العسكرية لا وجود لها. لا شيء غير عادي. من العادي هنا وجود سلطة سياسية وأماكن عبادة.. ولا شيء أكثر من ذلك. المهم أن تنساب الحياة بسلاسة وأن يتمتع الأفراد بحرياتهم الشخصية. قلما يرى الزائر شرطيًّا أو شرطية (رأيت شرطية شابة ممتلئة، شرطية واحدة في المحطة السفلى للمترو) لكن الأمن مستتبّ. سمعت من مقيمين أن ثمة كاميرات مزروعة في أماكن عديدة في الشوارع والأسواق مع بعض من الشكوى من احتمال انتهاك الخصوصية. إنها الضريبة التي يدفعها البلغاري والمقيم كي ينعم بالأمن. وهو ينعم به.. مع ملاحظتي أن البلغاريين قليلو الاختلاط بغيرهم. لديهم حذر من الآخرين.. أرجو أن أكون مخطئًا، لكن هذا ما لاحظته بالنظر المجرد في الشارع والمقهى والمطعم، وحيث هناك انفصال بين البلغار وغيرهم. ربما للأمر علاقة بموروثات العهد السابق حيث كان يُحظر على البلغاري الاختلاط بالأجانب، إلا في أضيق نطاق وبمعرفة السلطات، ولاعتبارات كانت توصف بأنها أمنية.
مع ذلك فللزائر أن يشعر بالاسترخاء شبه التام، من دون ضغط نفسي أو ذهني. ولن يصطدم بأحد لا في الشوارع الرئيسية ولا الفرعية، نهارًا وليلًا على السواء، وظاهرة المشردين والسكارى التي يصادفها المرء في عواصم أوربية، لا وجود لها في صوفيا. صديق عربي مقيم في لندن على عتبة التقاعد وصف بلغاريا بأنها جنة لإقامة المتقاعد. ولعله مصيب في الحديث عن متقاعدين غير بلغار. لقد لاحظتُ كبار السن -ممن تعدوا سن التقاعد من البلغار، وأعني الرجال- على شيء من الحيرة والشرود. ربما لأنهم أمضوا الوقت الأطول من حياتهم في ظل النظام السابق، ويشعرون بصعوبة التكيف مع النظام الجديد، فضلًا عن السبب المتعلق بتقدم العمر. وقد تكوّن لديَّ انطباع أن النساء المتقدمات في السن أكثر اندماجًا في الحياة الجديدة (ليست جديدة تمامًا فقد مضت عليها ثمان وعشرون سنة!) أو على الأقل هن أقل شعورا بالبلبلة والحيرة من النظراء الرجال. أما الشابات المنتصبات الفارعات السائرات بخطى ثابتة في الشوارع بالشورت شديد الاختصار، فإن مخايل الثقة والإقبال على الحياة، لا تخفى على ملامحهن وعلى نحو يفوق ما لدى الشبان. وقد علمت أن سبعين في المئة من العاملين في القطاع الحكومي هن من الإناث. حضور الإناث طاغٍ. وبما أن الأسرة الشابة تنجب طفلًا واحدًا. فإنه يجب أن يزداد عدد البلغاريين قليلًا كي يتلاءم مع عدد الأشجار والنباتات، وأن يكفّوا عن الهجرة. أما سر الطيور قليلة العدد على الأشجار (إذا كانت الملاحظة صحيحة) فقد فسّره لي صديقي نشأت بالقول: إن عدد الأشجار وارتفاعها يفوق حاجة الطيور وأعدادها!
سيلفيا بيلتشوفيا
ذلك كله ومنه حقول عباد الشمس الشاسعة التي ظلت ترافقني لساعات من نوافذ القطارات، مما لم يتطرق إليه من رسموا لنا صورة نمطية عن بلغاريا. لم يتطرق أحد إلى الشاعرة والناقدة الرصينة واسعة الأفق سيلفيا بيلتشوفيا التي تجذب مستمعين كُثرًا إلى برنامجها الثقافي الإذاعي، وجمهورًا كبيرًا في قصر الثقافة حين تكون هي المتحدثة. لقد أكرمتني هذه السيدة، الرائعة باهتمامها وكتابة مقدمة لمختاراتي القصصية لدرجة شعرت معها بالذنب وغلب عليَّ التأثر في قصر الثقافة. هذا القصر الذي بُني في العهد السابق ويقال بأنه من أهم قصور الثقافة في أوربا، القصر الذي يتوسط العاصمة، ويستضيف فعاليات ثقافية في الربيع ومطلع الصيف، فالأنظمة الاشتراكية مع تضييقها المشهود على حرية التعبير فقد نجحت في بناء بنية تحتية للثقافة، ربما بهدف صرف أنظار الجمهور عن الشأن السياسي!
وقد عرفت أن البلغار حرصوا على سلامة الأعمال الفنية (لوحات ومنحوتات) مما أنجز في العهد السابق بوصفها إرثًا وطنيًّا. «لا للانتقام الأعمى من الماضي، وكي لا يتحول هذا الانتقام إلى ثأر من الذات»، هذه هي الرسالة التي يبثها هذا البلد الوديع الذي يأخذ عليه بعضٌ (من البلغار) وداعتَه، بما يجعل حضوره السياسي متواضعًا بعض الشيء. على أن هذا يظل أفضل من الانتفاخ القومي والغطرسة السياسية والتدخل في شؤون الآخرين. ما بها السويد وفنلندا ولوكسمبورغ وسويسرا ذات الحضور السياسي الضئيل؟! إنها ذات إشعاع ثقافي وسياحي، وبعضها دول صناعية متقدمة كالسويد وسويسرا.
بقي إزجاء الامتنان لمن كان له الفضل في زيارتي إلى صوفيا، هو الكاتب خيري حمدان الذي يبرع في أداء دور جليل لا تنهض به إلا المؤسسات، فهو سفير البلغار الثقافي إلى العرب، وسفير العرب الثقافي إلى البلغار، وقد تجشم عناء ترجمة مختارات قصصية لي. قصص كتبتها ولن أتمكن من قراءتها (بالبلغارية) وقد تركتها بـ«المجهول» الذي تحتويه، وديعة لدى جمهرة القراء هنا..
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
-
في مؤانسة القراءة*صالح لبريني إن القراءة الفاعلة هي التي تخلق الجسور بين النص والقارئ حتى تحصل فاعلية…
في الصّمت*عبد السلام بنعبدالعاليلا يدعونا شيوران إلى الخلود إلى الصّمت وإنما إلى محاكاته، أي إلى بلوغ…