شجرة التفاح التي أسلمت الروح في حديقتي

خاص- ثقافات

*جواد غلوم

منذ اواسط السبعينات من القرن الماضي بعد ان اكملت بناء بيتي الصغير نسبيا في احدى ضواحي بغداد الجميلة آليت ان اترك فسحة فارغة في مقدمة البيت لاتتجاوز 30 مترا مربعا لازرع فيها شجرة التفاح الاخضر وامامها نخلة صغيرة منتقاة من الاصناف النادرة التي تتميز بها بلادي .
نمت هاتان الشجرتان نموا جميلا مثلما نما ولَدي وابنتاي في جنتي الصغيرة وأثمرتا عينات كانت تكفينا اشتهاء ولذائذ من جنى البيت الصغير السعيد بثمار بنيه وحصيلة الرطب الحلو المذاق مع كرات التفاح الاخضر الحامضي الطعم الذي استسغته واعتدت على قضمه افطارا شهيا مع ساعات الصباح الاولى واحيانا اعمله عصيرا حين يزداد محصول تلك الشجرة الكريمة معنا على مدار اكثر من اربعة عقود من السنوات .
نخلتي هي الاخرى أكرمتني بلَحا اصفر حلواً ورطبا جنيّا بعذوقها الوافرة حينما أراها وأتخيلها اشبه بامرأة جميلة فرعاء الطول ذات اقراط عالقة في اذنيها متذكّرا صديقي البلبل الصغير الذي كان يزورني صباحا باكرا ليشدو في اعلاها مايحلو له من تغريدات جميلة وكنت ارقبه واستمع اليه مصغيا بكل جوارحي وأجهد في تحضير الطعام له بعد وصلة شدوهِ من بقايا ماعندي في برّاد البيت من الفاكهة الناضجة جدا لئلا يغص بها بحلقومه الصغير ومن مبروش التفاح من حديقتي وشيء من الماء اضعها كلّها على سياج البيت ليحط بعد ان ينتهي من شدوه ويبدأ الاكل والشرب … وتدريجيا اخذ يشعر بالامان والطمأنينة ويقترب مني جدا ويحط على باطن كفي لاغذيه بنفسي مما يتاح لي من طعام وشراب يروق لطائري .
بقي هذا الشادي شهورا على هذه الحال سعيدا آمنا مطمئنا وديعا معي حينما ينزل من عليائه وينتهي من غنائه حتى جاء اليوم النحس الذي غاب عني بشكل مفاجئ ودون وداع ولم يعد يراني واراه وغاب عني شدوه ومغناه الجميل الخالي من النشاز المتنوع القفلات .
أرغمت على الرحيل عن بلادي وتركت بيتي لصديق أحبه على السكن به مع عائلته باشتراط صغير مني ان يحافظ عليه ويصون ما يحتاج الى ترميم دون بدل ايجار وان يحافظ على شجرتي التفاح والنخلة قدر مايستطيع وقته وكنت كلما اتصل به وانا في الشتات البعيدة اوصيه برعايتهما وسقيهما وتشذيبهما وكثيرا ما اتندر معه واقول ساخرا انه لولا شجرة التفاح ووقوع ثمرتها على رأس نيوتن لما اكتشفت قوانين جاذبية الارض ، وهذا الاكتشاف ربما قد يكون مبعث جاذبيتي نحو تلكما الشجرتين الاثيرتين الى نفسي العائشتين معي سواء بحضوري ام غيابي .
بعد سنوات من الاغتراب والتشتت في بلاد الله الواسعة ؛ عدت الى بيتي بعد الاطاحة بالدكتاتورية في العام / 2003 وكانت اول خطوتي الى عتبة داري ان استندت بكامل جسمي على ساق شجرة تفاحتي التي احبها جدا وقد اصبح صلبا قويا وحدّقت عاليا فرأيت ثمارها باسقة وفيرة ، ودون ان ادري فقد عانقتها وشبكت اصابعي حولها وكأنني أعلق بصدر حبيبة واتحسس صدرها دون استحياء على العكس من الطبيب الفرنسي ” رينيه ليناك ” الذي كان يخجل ويتحرّج جدا من وضع أذنه على صدر النساء المريضات ليسمع دقات قلوبهنّ قبل اختراع سماعة الطبيب ، ولولا انه استند مثلي الى شجرة التفاح يوما ما خلال نزهته باحدى الغابات فإذا به يسمع صوت نقّار الخشب يحفر بمنقاره عشّا له وهو في الأعلى وأدرك وقتها ان جذع الشجرة يوصل ذبذبات الصوت الى مسامعه رغم بعد المسافة بينه وبين مصدر الصوت مثلما جذبتني ايحاءات المحبة والتوادّ مع شجرتي حتى رحت اعانق ساقها واشبك اصابعي حولها اشتياقا .
هذا الحدث الذي صادفه وهو متكئ على شجرة التفاح كان الحافز والمحرّك بحيث جعله يخترع السماعة الطبيّة في العام / 1916 ويسهّل له معاينة مريضاته وسماع دقات قلوبهن بلا ايّ احراج او احتشام .
وقبل شهور عدة تطلعت مليّا الى اغصان تفاحتي فرأيت ماهالني وأربكني جدا حيث يبست الكثير من اغصانها وتجرّدت من اوراقها وثمارها فحزنت عليها وازداد ضمورها حتى يبست تماما وغدت جرداء كلها واضطررت الى قلعها تماما من منبتها ورأيت اثناء الحفر مستعمرات من النمل الابيض تحتها حتى تآكلت كل جذورها  .
اما نخلتي فقد بقيت واقفة لكنها منكسرة مائلة وأدركتُ حينها انها ستلحق بجارتها التفاحة التي تآلفت معها وجاورتها عقودا من السنين ، ولم يكذب ظني فقد سقطت هي الاخرى بعد ايام قليلة على سياج الدار مثل كتلة هامدة لا روح فيها .
حادثة موت التفاحة والنخلة في بيتي تنبؤني ان شيئا ما سيحدث وان منعطفا والتواءً لابدّ لي ان اسلكه مرغما في لاحق الايام ، كنت اهجس ان مسار حياتي ستملؤه الأشواك والعتمة وقد أخوض وأتعثر في مطبّات وعثرات لابد تصدفني رضيت ام لم أرضَ وهذا ماحصل فعلا بعد ان نكبت برحيل ظلي الظليل وسعدي الجميل زوجتي ورفيقتي وحماي ومؤنستي وساعدي الايمن ؛ انا العليل المعنّى المنهك الذي لايقوى على القيام والنهوض الاّ بمعونة عكّازه في طرقات الحياة المليئة بالوحل والهِوى السحيقة .
أسلمت شريكة حياتي روحها صبيحة الاول من رمضان دون ان تقوى على البوح بلسانها وودّعتني بتلويحة سلام وشعرت انها بالكاد رفعت يدها لتومئ لي بوداع لا لقاء بعده .
كم تمنيت لو رافقتها الى عالمها الآخر لنبدأ من جديد ونتشارك عيشا أو موتاً – لاضير عندي — ونضع اللبنات الاولى لبيت جديد نبنيه وفق احلامنا ومخيلتنا ومن يدري فقد نزرع تفاحة ” كينت ” خضراء في تربة قبر تُسقى بالدموع والبكاء وتثمر بعدها أحزانا ووحشة ووحدة ستكون غذائي وروائي أعلكها مع نكهة ذكريات يخالطها الحلو والمرّ فأنا على يقين اني سأتجرعها طعاما وماءً مستساغا فيما بقي لي من أذيال العمر الأخير .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *